رِسَالَةُ الأُلْتْرَاسِ “بْلَاكْ أَرْمِي” الَّتِي رُفِعَتْ خِلَالَ مُبَارَاةِ الجَيْشِ المَلَكِيِّ المَغْرِبِيِّ ضِدَّ صَنْدَاوْنْزْ الجَنُوبِ أَفْرِيقِيِّ تَحْمِلُ دَلَالَاتٍ سِيَاسِيَّةً وَثَقَافِيَّةً عَمِيقَةً تَتَجَاوَزُ حُدُودَ الرِّيَاضَةِ. العِبَارَةُ الَّتِي كُتِبَتْ عَلَى اللَّافِتَةِ “Remember Dr. Elkhatib & 6 March 1962?” هِيَ أَكْثَرُ مِنْ مُجَرَّدِ تَذْكِيرٍ بِحَدَثٍ تَارِيخِيٍّ، إِنَّهَا صَرْخَةٌ تُعَبِّرُ عَنْ وَعْيٍ جَمَاهِيرِيٍّ مُتَقَدٍّ وَدِفَاعٍ عَنْ الوَحْدَةِ الوَطَنِيَّةِ المَغْرِبِيَّةِ فِي وَجْهِ مَوَاقِفَ سِيَاسِيَّةٍ مُنَاهِضَةٍ صَادِرَةٍ عَنْ جَنُوبِ أَفْرِيقِيَا.
فِي السَّادِسِ مِنْ مَارِسَ عَامَ أَلْفٍ وَتِسْعِمِائَةٍ وَاثْنَيْنِ وَسِتِّينَ، وَصَلَ نِيلْسُونْ مَانْدِيلَا إِلَى المَغْرِبِ فِي زِيَارَةٍ تَارِيخِيَّةٍ ضِمْنَ جَوْلَتِهِ لِجَمْعِ الدَّعْمِ المَالِيِّ وَالعَسْكَرِيِّ لِحِزْبِ المُؤْتَمَرِ الوَطَنِيِّ الأَفْرِيقِيِّ. وَجَدَ مَانْدِيلَا فِي اسْتِقْبَالِهِ الدُّكْتُورَ عَبْدَ الكَرِيمِ الخَطِيبَ، الَّذِي كَانَ يَشْغَلُ آنَذَاكَ مَنْصِبَ وَزِيرٍ مُكَلَّفٍ بِالشُّؤُونِ الأَفْرِيقِيَّةِ. قَدَّمَتِ المَمْلَكَةُ المَغْرِبِيَّةُ دَعْمًا مَلْمُوسًا، شَمِلَ التَّدْرِيبَ العَسْكَرِيَّ لِمُقَاتِلِي حِزْبِ المُؤْتَمَرِ الوَطَنِيِّ الأَفْرِيقِيِّ وَالدَّعْمَ المَالِيَّ فِي إِطَارِ الْتِزَامِهَا بِمَبْدَإِ التَّضَامُنِ الأَفْرِيقِيِّ وَمُسَانَدَةِ حَرَكَاتِ التَّحَرُّرِ الوَطَنِيِّ. هَذَا الدَّعْمُ كَانَ تَعْبِيرًا عَنْ رُؤْيَةٍ مَغْرِبِيَّةٍ رَاسِخَةٍ تَرَى فِي حُرِّيَّةِ الشُّعُوبِ الأَفْرِيقِيَّةِ امْتِدَادًا لِنِضَالِهَا الوَطَنِيِّ ضِدَّ الاِسْتِعْمَارِ.
وَرَغْمَ هَذَا التَّارِيخِ المُشْتَرَكِ المَلِيءِ بِالدَّلَالَاتِ الإِنْسَانِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ، فَإِنَّ مَوَاقِفَ جَنُوبِ أَفْرِيقِيَا اليَوْمَ تُجَاهَ قَضِيَّةِ الصَّحْرَاءِ المَغْرِبِيَّةِ تَعْكِسُ تَنَاقُضًا صَارِخًا. بَدَلًا مِنَ الوَفَاءِ لِلْإِرْثِ التَّارِيخِيِّ المُشْتَرَكِ، اخْتَارَتْ جَنُوبُ أَفْرِيقِيَا الاِصْطِفَافَ إِلَى جَانِبِ جَبْهَةِ البُولِيسَارْيُو فِي مَوْقِفٍ يُنَاقِضُ مَبَادِئَ التَّحَرُّرِ الَّتِي نَاضَلَتْ مِنْ أَجْلِهَا ذَاتَ يَوْمٍ. هَذَا المَوْقِفُ السِّيَاسِيُّ، الَّذِي يُهَدِّدُ سِيَادَةَ المَغْرِبِ وَوَحْدَتَهُ التُّرَابِيَّةَ، يُعَدُّ شَكْلًا مِنْ أَشْكَالِ الجُحُودِ التَّارِيخِيِّ الَّذِي لَا يُمْكِنُ قُبُولُهُ.
رِسَالَةُ “بْلَاكْ أَرْمِي” لَيْسَتْ مُجَرَّدَ انْتِقَادٍ لِهَذِهِ المَوَاقِفِ، بَلْ هِيَ تَذْكِيرٌ مُزْدَوَجٌ: الأَوَّلُ مُوَجَّهٌ لِجَنُوبِ أَفْرِيقِيَا، الَّتِي يَبْدُو أَنَّهَا تَنَاسَتْ صَفَحَاتٍ مُشْرِقَةً مِنْ تَارِيخِهَا المُشْتَرَكِ مَعَ المَغْرِبِ. وَالثَّانِي مُوَجَّهٌ لِلنُّخَبِ المَغْرِبِيَّةِ وَالأَفْرِيقِيَّةِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، لِتَذْكِيرِهَا بِأَهَمِّيَّةِ هَذَا التَّارِيخِ وَاسْتِثْمَارِهِ كَأَدَاةٍ دِبْلُومَاسِيَّةٍ قَوِيَّةٍ لِلدِّفَاعِ عَنِ الحُقُوقِ الوَطَنِيَّةِ وَالقَضَايَا العَادِلَةِ.
مِنْ مَنْظُورٍ فَلْسَفِيٍّ، تَحْمِلُ الرِّسَالَةُ أَبْعَادًا تَتَعَلَّقُ بِجَدَلِيَّةِ الذَّاكِرَةِ وَالنِّسْيَانِ فِي العَلَاقَاتِ الدَّوْلِيَّةِ. فَالذَّاكِرَةُ التَّارِيخِيَّةُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ أَرْشِيفٍ سَاكِنٍ، بَلْ هِيَ قُوَّةٌ فَاعِلَةٌ تُشَكِّلُ حَاضِرَ وَمُسْتَقْبَلَ العَلَاقَاتِ بَيْنَ الدُّوَلِ. حِينَ يُتَمُّ انْتِقَاءُ أَجْزَاءِ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الذَّاكِرَةِ لِخِدْمَةِ أَهْدَافٍ سِيَاسِيَّةٍ، يَتَحَوَّلُ النِّسْيَانُ إِلَى أَدَاةٍ تُسْتَخْدَمُ لِإِعَادَةِ صِيَاغَةِ سَرْدِيَّاتٍ جَدِيدَةٍ. وَهَذَا مَا يَظْهَرُ بِوُضُوحٍ فِي المَوْقِفِ الجَنُوبِ أَفْرِيقِيِّ الحَالِيِّ تُجَاهَ المَغْرِبِ. الأُلْتْرَاسُ، مِنْ خِلَالِ هَذِهِ اللَّافِتَةِ، يُعِيدُونَ إِحْيَاءَ هَذِهِ الذَّاكِرَةِ المُشْتَرَكَةِ وَيُطَالِبُونَ بِإِعَادَةِ النَّظَرِ فِي مَوَاقِفٍ تَعْكِسُ نُكْرَانًا لِلْجَمِيلِ وَتَنَاقُضًا مَعَ القِيَمِ الأَخْلَاقِيَّةِ الَّتِي تَأَسَّسَتْ عَلَيْهَا تِلْكَ العَلَاقَةُ.
الرِّيَاضَةُ هُنَا تُصْبِحُ مَنْصَّةً لِلنِّضَالِ الثَّقَافِيِّ وَالسِّيَاسِيِّ، حَيْثُ تَتَحَوَّلُ المُدَرَّجَاتُ إِلَى فَضَاءٍ لِلتَّعْبِيرِ عَنِ القَضَايَا الوَطَنِيَّةِ. رَفْعُ لَافِتَةٍ تَحْمِلُ هَذَا العُمْقَ التَّارِيخِيَّ وَالسِّيَاسِيَّ يُؤَكِّدُ أَنَّ الجَمَاهِيرَ المَغْرِبِيَّةَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ مُتَابِعِينَ لِلرِّيَاضَةِ، بَلْ هِيَ جُزْءٌ مِنْ نَسِيجٍ وَطَنِيٍّ وَاعٍ يُدَافِعُ عَنْ سِيَادَةِ بِلَادِهِ وَقِيَمِهَا بِشَتَّى الوَسَائِلِ.
رِسَالَةُ “بْلَاكْ أَرْمِي” لَيْسَتْ مُجَرَّدَ انْتِقَادٍ أَوْ تَذْكِيرٍ، بَلْ هِيَ دَرْسٌ فِي الوَفَاءِ لِلتَّارِيخِ وَفِي الدِّفَاعِ عَنِ السِّيَادَةِ الوَطَنِيَّةِ. الجَمَاهِيرُ الَّتِي رَفَعَتْ هَذِهِ الرِّسَالَةَ أَثْبَتَتْ أَنَّهَا عَلَى دِرَايَةٍ بِأَبْعَادِ الصِّرَاعِ السِّيَاسِيِّ، وَأَنَّهَا قَادِرَةٌ عَلَى اسْتِخْدَامِ الرِّيَاضَةِ كَأَدَاةٍ لِإِيصَالِ رَسَائِلَ وَطَنِيَّةٍ عَمِيقَةٍ لِلْعَالَمِ أَجْمَعَ. السِّيَادَةُ الوَطَنِيَّةُ المَغْرِبِيَّةُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ مَسْأَلَةٍ سِيَاسِيَّةٍ، إِنَّهَا قَضِيَّةٌ وُجُودِيَّةٌ يَدْرِكُهَا كُلُّ مَغْرِبِيٍّ، وَيَعْمَلُ عَلَى الدِّفَاعِ عَنْهَا، سَوَاءٌ فِي المَلَاعِبِ أَوْ فِي أَيِّ سَاحَةٍ أُخْرَى. رِسَالَةُ “بْلَاكْ أَرْمِي” تُعْتَبَرُ مِثَالًا حَيًّا عَلَى كَيْفِيَّةِ تَحْوِيلِ الحَدَثِ الرِّيَاضِيِّ إِلَى مَنْصَّةٍ لِلتَّوْعِيَةِ، وَالذَّوْدِ عَنِ الحُقُوقِ، وَالتَّذْكِيرِ بِإِرْثِ التَّضَامُنِ الَّذِي يُمَثِّلُ رُوحَ المَغْرِبِ التَّارِيخِيَّةَ.
*باحث في السياسة الرياضية.