رسالة الجامعة: نقل الإنسان من الطفولة والمراهقة إلى الشباب 2/2

 

وهذه الوظيفة الخلقية للجامعة تقتضى منها أيضا أن تدفع الطلبة لبلورة رأي عام يقوى ضمائرهم ويوجههم التوجيه الصحيح (وفي هذا السياق اقترحت عليهم إنشاء «محكمة «يترأسها بعض الطلبة المنتخبين للنظر في خلافاتهم، وكنت أساعدهم في بعض الأمور المرتبطة بالإدارة .).
إن هذا الرأي العام سيحتقر الطالب في حالة ارتكابه أي خطأ لأن أثره في النفوس يفوق سلطان القانون، الذى يصعب عليه ضبط معظم الزلات الخلقية بالجامعة: ككلمة نابية أو كذبة أو غش بالامتحان، وهي ظاهرة أصبحت متفشية بالمدرسة، للأسف الشديد، و على ذكر الغش فإننى كنت أذكر الطلبة أثناء الامتحان بأن وجودى ليس للحراسة، ولكن للاستئناس، لأنى على يقين أن أخلاقهم العالية توفر لهم المناعة الكافية لإبعادهم عن الدنايا وهم أبعد ما يكونون عن الغش أو ما شابه ذلك .
مؤكد أنه متى كان الإنسان على درجة من هذه الأخلاق كان أقدر على مواجهة التحديات في حياته الشخصية والنجاح في حياته العلمية والإتقان والإخلاص في حياته المهنية، وأي مشروع تنموى لن يؤتي تماره إلا ببناء الإنسان الصالح المستقيم، ألم يقل الله تعالى لرسوله الكريم «إنك لعلى خلق عظيم «. وبعد الوظيفة الخلقية تأتى المهمة العلمية للجامعة ولو أنه في رأيي المتواضع لا يجب فصل الجانب الخلقي عن الجانب العلمي؛ فالعلم والخلق متلازمان، لأن الضعف الخلقي يتبعه الضعف العلمي والعكس.
من الناحية العلمية، فإن وظيفة الجامعة تختلف عن الوظيفة العلمية للمدارس الابتدائية والثانوية. فالجامعة تركز على البحث العلمي بوضع القضايا العلمية والأدبية موضع بحث وتحليل، وجل الوقت في الجامعة لا يقضى في المدرجات والفصول، لكنه يقضى في مكاتب الأساتذة والمكتبات العامة أو الجامعية والمعامل في حالة المعاهد التقنية… وقديما قالوا: «إن العلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك «، وهذا ينطبق على التعليم الجامعي الذى يهدف إلى بناء الإنسان القوي، الشغوف بالعلم يصب اهتمامه في البحث العلمي مستعينا بالسلف الصالح والنهل منه لتوسيع مداركه وتنويع آفاقه واستلهام النموذج الصالح لحياته.
أستاذية الجامعة نوع من الرهبنة تقود هذا الأستاذ إلى الاعتكاف بدور العلم وخدمته غير عابئ لا بمال ولا سلطة ولا جاه ولا علاوات أو درجات، شريطة أن توفر له الحكومة جميع الظروف اللازمة والمناسبة لراحته الضرورية (وعلى رأسها ميزانية محترمة للبحث العلمي) لتحقيق هذا الغرض. وهكذا يتفرغ لخدمة العلم وخدمة الأمة والإنسانية جمعاء عن طريق العلم؛ غرضه الأول العلم لذاته العظمى إيمانا منه أنه لا يخفف آلام الإنسانية إلا الإخلاص في الفكر والإخلاص في العلم وإبراز الحقيقة ما استطاع إلى ذلك سبيلا. ولقد سبب هذا المنهج متاعب كبيرة وكثيرة للمفكرين والمصلحين في تاريخ البشرية، لكن إيمانهم الراسخ والثابت بصحته وسلامته هون عليهم كل هذه المعاناة؛ فهو مثل حي للتضحية وسمو الخلق والعلم جميعا، إنه منار يهتدى به المدرسون والطلبة في تكريس حياتهم قلبا وقالبا لهذه الرسالة النبيلة بهذه المؤسسة المقدسة .
أما العامل الثالث، فهو تحفيز الطلبة على استمرارية طلب العلم بشغف للإبداع والابتكار والخلق تيمنا بالسلف الصالح الذى خلف لنا كل ما هو جميل ونافع.
وبالشغف، وهو تلك الطاقة الإيجابية والشعور بالقوة التي تنبعث من الباحث، يستطيع أن ينقل هذه الطاقة لذلك الطالب ليثير حماسه للسير على منهجه. وكلما زاد شغف الباحث بالعلم زادت كمية الطاقة الإيجابية التي ستنعكس حتما على المتلقي.
إن للشغف عظيم الأثر في حياة الإنسان بصفة عامة والباحث بصفة خاصة، فهو يشكل الوجود ويوقد الإلهام ويفتح الفرص العظيمة الصادرة عن الحماس والإثارة للحياة. وعلى قدر الشغف بالبحث العلمي يأتي التفوق والتميز، لأن الشغف يلازمه النجاح. وهذا الشغف بذاته هو الدافع لجيل من العلماء وهب حياته للعلم فتعددت اهتماماته ليصبح موسوعة استفادت منه البشرية جمعاء، كابن الرازي وابن سيناء والخوارزمي…، والقائمة طويلة. لقد شكل قدوة ملهمة لللاحقين من الباحثين لأن الشغف بالعلم ظل قائما حتى القرن الخامس الهجري؛ لكنه فقد بريقه مع الوقت ولم يعد يؤد وظيفته المألوفة؛ بينما تقدم الغرب في شتى فنون العلم والمعرفة بالحفاظ على هذا الشغف الكبير بالدراسة والبحث تسانده حكوماته إيمانا منها بقيمة العلم وعائداته على الشعوب مخصصة ميزانية كافية ومحترمة للاستثمار في البحث العلمي والموارد البشرية بتأمين حياتهم المادية والمعنوية فضلا عن إغراقهم بالجوائز المادية والشواهد التقديرية.
إن صيانة هذا العشق للعلم قاده وسيقوده حتما للمزيد من الاكتشافات التكنولوجية والحقائق العلمية. بالشغف يزداد الباحث ثقة بنفسه فيصنع المعجزات متجاوزا كل التحديات بجرأة وشجاعة للمغامرة والمخاطرة لتحقيق الهدف. وما تفوق اليابان وألمانيا والصين في المجال العلمي والاقتصادي والتكنولوجي والاجتماعي إلا نتيجة هذه السياسة الرشيدة والتى ناضل من أجلها جماعة من المفكرين الأحرار أذكر منهم لا على سبيل الحصر، الأستاذ الجليل المهدى المنجرة، الذى أنجز بحثا قيما صدر عن نادي روما تحت عنوان «من المهد إلى اللحد» ترجم لعدة لغات نظرا لأهميته.
كنت دائما أشجعهم على المضي قدما في البحث لأن العلم لا حدود له ولا أكف عن ترديد مقولتين غاية في الأهمية لإقناعهم؛ إحداهما للأمام الشافعي رضي الله عنه يقول فيها : «كلما ازددت علما زادني علما بجهلي « والأخرى للعالم الجليل سقراط يقول فيها :»كل ما أعلم أنى لا أعلم شيئا « وسرني أنهماعلقتا بأذهانهم. كما كنت أشرح لهم أن شهادتهم ليست إلا بداية لمسيرة علمية تلازمهم طيلة حياتهم وحتى بعد مماتهم انطلاقا من قول الرسول الكريم :» إذا مات المرء انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له «. وفى نفس السياق يقول العالم الفيزيائي اينشتاين :
‘’Soyez des mortels immortels c’est ce qui nous distingue des animaux’’ مازلت أذكر ذلك الشعور الرائع الذى انتابنى عندما اصطحبنى أحدهم لمكتبي ليسألني إن كان بإمكانه الحصول على جائزة نوبل (لأنني كنت أحفزهم على تحقيق إنجازات علمية مهمة كل في مجال مخاطبة إياهم :»أتنبأ لكم بمستقبل علمي زاهر ومميز متوج بجائزة نوبل «) فأجبته على الفور :»مؤكد بالاجتهاد والإصرار وما الفرق بينك وبين الفائزين بها ؟!!! «.
إن الإنسان بجوهره رسالة وهذه الرسالة هي إسعاد البشرية عن طريق العلم فإذا أهملها أو تخلى عنها فقد يهبط إلى الدرك الأسفل ويرتبط بالكائنات الحيوانية التي لا تهتم إلا بإشباع رغباتها المادية غير عابئة بالكائنات الأخرى. ولكن إذا كان الله قد خلق الإنسان على نمط مخالف بل وميزه بمعطيات تؤهله لاستخدام هذه المخلوقات والظواهر الطبيعية، فعليه ألا يتهاون في ذلك ويضيع فرصة الاستمتاع بها، شريطة أن يسلك طريق أسلافه بالعمل المتواصل والاجتهاد والتضحية كي يكتشف حقائق علمية جديدة تتوارثها الأجيال بل وتأخذها كقاعدة علمية تنميها وتستخرج منها نظريات أخرى تثبت قوة الإنسان الفكرية الخلاقة وتدفع إلى الاستمرارية في البحث كي لا تتقاعس الأجيال الموالية وتكتفى بالمكتسبات التي أخذتها عن سالفيها. خلاصة القول إذن، أستاذ جامعي يهتم بالجانب الخلقي والعلمي معا بطاقة إيجابية تلهم الهمم، ورأي عام للطلبة يقوم اعوجاجهم ويصلح أمورهم وإدارة رشيدة تلبي حاجياتهم : عوامل أساسية لأداء مهام الجامعة الخلقية والعلمية .
أما الوظيفة الثقافية للجامعة، وهي لا تقل أهمية عن الوظيفتين الخلقية والعلمية فإنها تساهم في توسيع نظرة الإنسان وتقييمه للأمور تقييما متعدد الأبعاد .
مبدئيا للثقافة قيمة مالية تحدد لكل شهادة نالها الطالب أجرا معينا متعارف عليه تقريبا في جميع أنحاء العالم، يتفاوت حسب النمو الاقتصادي في كل بلد. وللثقافة أيضا قيمة اجتماعية تقلص الفوارق الطبقية فترفع من كان في طبقة وضيعة إلى طبقة رفيعة كما تجعله مؤهلا للزواج من طبقة راقية بفضل مستواه الرفيع على الصعيد المادي والمعنوي.
لكن وظيفة الجامعة الثقافية أمر آخر تقتضى من الأستاذ أن يرقي نظرة الطالب لنفسه بتطوير عينه النفسية بجانب عينه الحسية؛ فعينه الحسية لا تبصر إلا الأشياء الملموسة كالألوان والأحجام، وما شابه ذلك أما عينه النفسية فإنها تنظر إلى الأشياء من زوايا مختلفة فتدرك معانيها السامية المتعددة الأبعاد، وهذه النظرة بالذات، هي التي تحدد قيمته في الحياة. وفرق كبير بين من تسعده وظيفته بقيمتها المادية وبين من يسعده ذلك الأثر الذى يخلفه عمله مهما كان بسيطا ؛ نحتاج فقط أن نفكر في هذا الأثر.
فالكناس مثلا لا يقوم فقط بتنظيف الشارع وجمع الأزبال ولكن هو شخص يجمل مدينة بأكملها ويجنب سكانها الأمراض والأوبئة، هو عمل بسيط في مظهره لكنه عظيم في أثره !!! المعلم كذلك لا تقتصر مهمته على تعليم الصبيان وإنما هو صانع الإنسان !!!الطبيب أيضا لا يقوم بتخفيف الآلام وإنما يعيد الحياة وبهجتها إلى ذلك المريض فيسعد ويسعد الآخرين! كما يحضرني سيدنا عيسى عليه السلام عندما مر بجيفة برفقة جماعة من الحواريين فقال أحدهم :»ما أنتن رائحتها» !أما سيدنا عيسى كانت له نظرة أدهشت رفاقه عندما قال :»ما أجمل بياض أسنانها !» والأمثلة كثيرة … وهذه العين النفسية تحتاج إلى مران وطاقة ملهمة توقظ هذه العين عند الطالب فتتغير وتتنوع نظرته إلى الحياة .
وللجامعة دور كبير في إيقاظ هذه العين وتنميتها لتنقلها من النظرة الضيقة والسخيفة إلى النظرة البعيدة السامية المعاني. فعلى الأستاذ أن يحث الطلبة على القراءة الحرة لتطوير وإغناء هذه العين النفسية حتى ينتشله من تلك النظرة الوضيعة والمحدودة إلى النظرات السامية والمتنوعة. وفرق كبير بين من له عين واحدة ومن له عينان !!!وانطلاقا من تجربتى المتواضعة فإننى كنت الفت نظرهم إلى جمالية المعهد INSEA بوصفه حديقة تتوسطها فصول ومدرجات لأنه حيثما وجهت بصرك ترى الأشجار والأزهار (حتى لا تقتصر نظرتهم على أنه فضاء للتحصيل الذى يتطلب منهم مجهودات جبارة )؛ كما كنت أدعوهم للاستلهام بالطبيعة في تنسيق الألوان اعتناء بأناقة مظهرهم كما كنت أسعى لخلق جو من الفرح بروح من الفكاهة ليصبح الدرس متعة واستفادة، ثم إنى قمت معهم بتنظيم أنشطة جامعية حملتهم مسؤولية التنظيم والتسيير توجت كلها بالنجاح والاستحسان مع استيعاب كل الرسائل المنشودة ؛ ومازالوا يذكرونها بعد سنين من تخرجهم، و ما هذه البوادر إلا لتطوير هذه العين النفسية .لكن علي الاعتراف أننى حظيت بطلبة هم من خيرة أبناء الأمة العربية والإسلامية لأن لهم من المواصفات الخلقية والعلمية والثقافية ما يجعلهم موضع اهتمام واحترام قادنى لمحبتهم وتقديرهم، وبالصدفة بما يشبه العمد، فإن الله تعالى أنعم عليهم بأساتذة من العيار الثقيل لهم من المؤهلات الخلقية والعلمية والثقافية ما جعلهم في مستوى أداء رسالتهم على أكمل وجه، فكونوا كواكب يستضيء بها بلدنا الحبيب ودول أخرى ، تجدهم في جميع القطاعات مسؤولين كبار يحظون بكل الود والتقدير ، وكفى الجامعة فخرا أن كونت أجيالا من هذا العيار! إن التسلح الخلقي والعلمي والثقافي يضمن التقدم والازدهار والرقي للمجتمع. فالمجتمعات في حركة دائمة. والتغيير عادة يصدر عن الطبقة الراقية. ولا أرقى من الجامعة لتحقيق هذا التغيير الذى يحتاج إلى خطة عمل محكمة من دراسة وتحليل ورؤية واضحة لتحسين الوضع الحالي، وخير إصلاح ما جاء عن طريق التعليم بأداء الجامعة رسالتها على أحسن وجه. فهل من أذان صاغية وضمائر واعية لمشروع جديد واعد ينقذ منظومة التربية والتعليم ؟ (ولا أزعم لنفسي الريادة في هذا المشروع فهناك المئات من الغيورين على هذا الوطن الذين نادوا به من قبل).
مؤكد بإذن الله ! فالتفاؤل من طبعنا وثقافتنا لأن هناك مسؤولين من خيرة أبناء هذا الوطن لهم من الخلال الخلقية والعلمية والثقافية ما يدفعهم للقيام بهذه المهمة. وأملنا كبير في تفعيل النموذج التنموى الواعد الذى أمر به الملك، نصره الله، على يد هؤلاء الغيورين عن الوطن، وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!!!


الكاتب : نجاة بنونة

  

بتاريخ : 24/06/2021