1
صاحبي،
السلام عليك، وبعد،
هي رسالة منشورة على خلاف رسالتي الأخرى التي أوجهها إليك هنا والآن. يعود تاريخها إلى يوم 29 يونيو 2012، اقترفتُها أياما معدودة بعد إهدائك إياي أول ديوان اقترفتَه. لكنها لم تصلك عن طريق ساعي البريد، بل على صفحات الجريدة، غير متوجهة إليك بالحديث مباشرة بصيغة المخاطَب، بل سالكة منحى مخاطبتك عبر وسيط هو القارئ المفترض.
هكذا تكلمتُ:
«منذ مدة ليست بالوجيزة، تسلل إلى قارة الزجل الفسيحة صوت عبد الرحيم لقلع. تسلل إليها بدون تأشيرة من عرّاب ما، حاملا معه فقط تأشيرة إدمان الزجل، قراءة وإنصاتا وتنظيرا ونظْما.
وطوال هذه المدة، نحت عبد الرحيم لنفسه صوتا متميزا ومتفردا، وإيقاعات خاصة منفتحة على الموروث والحاضر الزجليين ومتلاقحة معهما. لكنه، ورغم ما حققه من تراكم، ظل يعتذر بلباقته المعهودة إلى كل أصناف الأصدقاء الذين ظلوا يطالبونه بفك منجزه من أغلال الشفوي وجعلِه يطير في سماء الديوان الورقي الفسيحة.
ربما لم يكن يريد أن يغامر، حينها، بنشر باكورة قد لا تكون في مستوى صرامته الذاتية إزاء نصوصه، أو في مستوى انتظارات أصدقائه وعشاق طريقة إلقائه لقصائده.
أو ربما ثمة حكمة أخرى لا يعرفها إلا الضالعون في منجز لقلع.
وها هو لقلع يُقلِع، مؤخرا وأخيرا، عن إضرابه على نشر باكورته الزجلية، ويصدر ديوانا أنيقا انتقى له عنوان «الراس بحر».
وإذا كان الديوان قد صدر في طبعة من المستوى الرفيع عن منشورات «دار القرويين» البيضاوية، فإن بهاءه ازداد باللوحة الموفقة والجميلة التي اقترحها الفنان التشكيلي مصطفى غزلاني عتبة أولى قبل السباحة في حضرة زجل عبد الرحيم لقلع. والحضرة هنا تحيل على دلالتها المعجمية في اللغة العربية الفصحى، مثلما تحيل على مدلولها ضمن الليالي الگناوية.»
وبعد دعوة القارئ إلى تأمل مقاطع من القصيدة التي وسم عنوانُها عنوانَ الديوان والتي مطلعها: «ساوي/ ساوي يا لگناوي/ ساوي»، ختمتُ رافعا رايتك إلى أعالي السماء صاحبي: «إذا كان لقلع يفضل المقاطع الدالة على المعنى بدل اقتصار تجلي هذا الأخير في السطر الزجلي، فإن ديوانه يستحق القراءة وأكثر من احتفاء من طرف الذين ورطوه في لعنة الزجل أولا، وفي لعنة النشر ورقيا ثانيا.»
2
هِبَّ صاحبي. راكمتَ منجزا زجليا إضافيا رباعيّ الأيقونات عقب أول أجرامك (والجرم هنا فلكيّ أدبيا ولا علاقة له بذنب ما)، خماسية احتسينا قدح الانشداه بالسليقة والصنعة اللتين حكمتا إبداعَها لغةً ونظما ومعمارا، وبالوصفة الخيميائية التي شكلتها كعين سلسبيل، (احتسينا القدح) معا وبرفقة الخُلّان ومدمني الزجل تعميدا لها، في المنتديات الثقافية والمجالس الخاصة، محتفين جميعا باحتفائك بالإيقاع والقافية الممتوحِ من ذاكرتنا الشعبية الأصيلة، ومن منابعها الأصلية المتمثلة في العيطة والبروال، والملحون، والطرب الأندلسي والغرناطي، و»كْلامْ الرّْما»، وأهازيج «العونيات» ورباعيات المجذوب…
وإن أنسَ، يا سلطان الزجل الناشد لـ «سَلْطَانْ لَحْرُوفْ» و»السَّلْطَانَة لَهْلَالِيَّة» والمنشد لهما، لا أنسى صُداحكَ بصفوِ رحيقِ أبياتك التي كان لها وقع الرُّقاح في الأفضية الحميمة. تلقي «كْلامَكْ» الموزون بدون الحاجة إلى ورقة سبق لك تدوينه فوق أسطرها بصمغ وهبه إياك «طالَبْ» انتهى على التو من ترتيل آيات منتقاة بدقة، كما هو حال مفرداتك، على شواهد «قْبُورَة فِ خْوَاطَرْ مَحْفُورَة». لا حاجة لكَ إلى ورقة قد تشوش طقس تلاوتك في حضرة جلساء ابنيْ سمير المُتَخَيَّرِين أو رواد الملتقيات الشعرية، مثلما قد تضع مسافة وجدانية بينك وبين الوجد شبه الصوفي الذي تستغرق في نشوته العلوية والأبياتُ تنساب متفقة من خَلَدك ووجدانك.
قدتني، صَفِيِّي، إلى اكتشاف فضالتك حتى غدت فضالتي. عبرت بي أزمنتها وأمكنتها وأناسها، زجلا وحكيا وفعلا، حتى ارتقت إلى مرتبة العشق الذي هو، حسب سُلَّم الثعالبي، اسم لما فضل عن المقدار الذي اسمه الحب، أقل بقليل من مرتبة قرة العين الأولى: الجّْديدة التي تقرؤك السلام. أراني، إبان يوم قاظَ أو ازمهر، في رحم «حلقة» بـ «اشطيبة»، أو في زحمة «جوطية العالية»، أو جوار «الجامع لبيض»، أو رائحا إلى «القصبة» أو»البارك» أو «الزاوية»، وافدا إليها من «العالية» برفقتك، وأنت تبسط لي صفحات التاريخ والجغرافية، مستحضرا تفاصيل تجهلها الكتب العالمة والسير الرسمية، أو بالأحرى تتجاهلها، شارحا المفردات المعتقة التي صمدت على قيد التداول والتي تهبك معجمك الزجلي الفريد والمتفرد، هي والأفضية التي أنجبتها كامتداد لمرسى فضالة، «زهرة مملكة فاس»، وفق توصيف حسن الوزان.
ومع ذلك خِلِّي، ورغم ما يجهر به اسم الله المصطفى لتصنيفك عبدا له من اتصاف الرب بالرحمة، والبر، والجُود والكرم، وهي جميعها صفات تفيض من وفائك ونبلك وإنسيتك وإنسانيتك المعطرة بشذى التحاب، يُجمع القاصي والداني على اتسامك بلُبابها وجزيئات جوهرها، (مع ذلك) لن تقنعني أبدا بأن ريال مدريد أفضل ما خلق الله وأبدع الأنام في خرائط فرق كرة القدم.
أيها العارف بكينونة «رْفُودْ المِيسَانْ» والعالم بالسر الذي جعل « الرَّاسْ بْحَرْ»، أقرؤك السلام من منفايَ بعيدا عن ماء معموديتك الذي يفسح أبواب فردوس الحياة الفانية والزجل الأزلي، ودمتَ بهيا وهابًّا.
رسالتان بدون طابع بريد إلى عبد الرحيم لقلع
الكاتب : سعيد عاهد
بتاريخ : 17/01/2025