رسومات الأطفال وسيلة لقياس قدراتهم وفرصة لتوجيه سلوكهم

 

مخطئ من يرى في رسومات الأطفال مجرد خربشات وخطوط و دوائر لا معنى لها و أنها مجرد عبث طفولي يواجه في غالب الأحيان من قبل الآباء بالنهر والعقاب و أحيانا بالضرب كونهم لطخوا الجدران أو جنبات الخزانات وخلفيات المقاعد و أسطح الطاولات، غير مبالين بأي نوعية من العمليات النفسية أو العقلية تلك التي تفور بدواخل أبنائهم وهم مستغرقون تماما مع خطوطهم وخربشاتهم التي ينقشونها بكل ثقة وهدوء.
فكثيرا ما يرسم الأطفال رسومات غريبة عنا قد لا نفهمها أو نستوعبها بالقدر الذي يستوعبه هؤلاء الأطفال، وعند عدم مبالاتنا بها قد يصدمون من ردة فعلنا هذه وبالتالي قد تتلاشى الموهبة التي يختزنونها في أعماقهم وذواتهم، والرسومات التي يرسمها الطفل ما هي إلا عبارة عن أحاسيس كامنة بداخله يسلط عليها الضوء من خلال تلك الرسومات المشبعة بالخطوط والألوان، مبديا تارة فرحه و سروره و تارة أخرى حزنه و توتره، فالطفل يدرك تمام الإدراك أن تلك الخطوط التي تمت معاقبته بسببها من قبل أمه أو أبيه كانت في لحظة ما وسيلته الوحيدة في التعبير عن نفسه وعن رؤيته للعالم الذي يعيشه ويحاول اكتشاف تفاصيله و بلغته الوحيدة التي يجيدها في مرحلة عمرية لا يعرف فيها لا القراءة و لا الكتابة، فكل خط يرسمه أو لون يلونه ما هو إلا رمز من رموز لها دلالاتها التي تعبر عن طبيعته و ما يشعر به أو يفكر فيه دون خوف أو خجل و لا تقيد بزمان أو مكان، فالرسم عند الطفل لغة تعبير و ليست وسيلة للإبداع أو خلق ما هو جميل.
إلى جانب كل هذا فالرسم عند الطفل هو بمثابة تنفيس عن بعض الانفعالات و الأفكار التي تجول في خاطره، فكلما رسم الطفل إلا وحقق لنفسه نوعا من الاستقرار والتوازن النفسي والعاطفي، حيث أنه عندما يعيش الطفل حدثا كيفما كانت درجته و نوعيته و لم يستطع التعبير عنه فإنه يصاب بالقلق و التوتر و من هنا كان الرسم الوسيلة الفضلى والأنجع للتعبير عن انفعاله من هذا الحدث، كما أنه من خلاله يشعر بكينونته وتواجده فتمتلئ نفسه بالثقة والاعتزاز. و هو ما شددت عليه الكاتبة الأمريكية لاريسا مارولي، أنه من الضروري، أن يعطي الآباء اهتماما أكبر لرسومات أطفالهم ولا يكتفوا بمجرد عبارة إعجاب دون التمعن فيها. كما أكدت على أن الطفل يريد في الواقع أن يقول لهم أمرا ما عبر الرسم، مشيرة إلى أن أي شيء يرسمه الطفل يعكس جزءا من شخصيته ومشاعره. ولعل هذا ما يفسر اهتمام الدول المتحضرة برسومات الأطفال على اختلاف مراحل عمرهم و اعتبارها وسيلة عملية مهمة، أولا في تكوين شخصية الطفل و تقويمه، باعتبارها سجلا كاملا يمكن الرجوع إليه لتشخيص حالات الطفل النفسية، وثانيا كوسيلة لقياس درجة ذكائه وقدراته النفسية والحسية والعقلية.
فالطفل في مراحله الأولى بين سنتين وثلاث لا يهتم برسم ما يراه بل برسم انطباعه لما يراه، أي رسم صورة انطباع شيء في ذهنه و ليس صورة الشيء نفسه، لذا نراه يهتم بالتفاصيل و لو بخطوط مشوشة، وغير منظمة كون عضلات أصابعه لاتزال لم تنضج بالقدر الكافي، محاولا أحيانا تقليد الكبار، ومع مرور الوقت والسيطرة على أداء الأصابع تبدأ الخطوط منحاها الذي يريده، فتأخذ الشكل الأفقي أو الرأسي أو الدائري الذي يريده الطفل بكل طواعية، و ينتقل لتجسيد تصوراته بهيئة رموز لها دلالات خاصة لديه معتمدا على خياله الذي يبدأ في الاتساع، إلا أنه رغم هذا النضج الذي بلغه يظل إحساسه بالزمان والمكان ذاتيا، يظل استعماله للألوان ذاتيا، بمعنى أنه يختار الألوان الذي يريدها هو، و ليست الألوان الموجودة في الطبيعة، فقد يلون حقلا بالبرتقالي و سماء بالأخضر ووجها بالأزرق، وهو ما يمكن تسميته بالتسطيح، وبعدها أي في سن ما بين التاسعة و الثانية عشر من عمره يتدرج بالخبرة و الممارسة و الثقافة البصرية إلى الاهتمام بالنسب و الزوايا و الأبعاد، واستعمال الألوان باقتدار، ويشرع في رسم ما يراه وليس ما يعرفه، كما يتجه انتباهه للأشكال المتداخلة، مع فك الصلة تدريجيا بينه وبين الإنسان في رسوماته متجها لرسم ما تجود به الطبيعة وسحرها من أشجار وجبال و بحار وكائنات حية.
لقد أضحت رسومات الأطفال محط اهتمام من قبل المربين وعلماء النفس ومن اللازم على المعلم والأبوين أن يحترموها بالقدر الكافي ويولوها الاهتمام البالغ كونها تعبر عن جزء من طبيعة الطفل، لقد بدأ اهتمام العلماء بالجوانب التربوية لرسوم الأطفال والبحث في جوانبها السيكولوجية موازاة مع ما تحمله هذه الرسومات من مقومات جمالية، بحيث ففي عام 1885 بدأ كل من العالم « سالي أيبنزير كوك « رحلة البحث في النواحي النفسية لرسوم الأطفال كما بدأ في نفس الوقت معلم الفن ” فرانز تشزك “ إلى جانب علماء آخرون في نفس المجال، إلى جانب العالِم الإنجليزي «جيمس سولي” الذي قدم أول تفسير نظري لمراحل تطور الرسم لدى الطفل في كتابه ( دراسات في الطفولة ) وربط تعبير الطفل الفني بنشاطه كإنسان وتناول تطور رسوم الأطفال بين “2-6 ” سنوات. وبالتالي يمكن القول إن البداية الحقيقية في مجال رسوم الأطفال كانت من مطلع القرن العشرين. بحيث أن هذه الدراسات السيكولوجية لرسومات ألأطفال أبانت أن أهميتها كونها تساعد المربي على توجيه الأطفال توجيهاً تربويا صحيحاً وتفيد الأبوين لتفهم حالة طفلهم ومساعدته، بينما تُمكن المحلل النفسي من دراسة نفسية الطفل وتشخيصه لمعرفة ما إن كان يعاني من مشاكل نفسية أو اضطراب في السلوك ، ومعرفة حالته العقلية والنفسية والجسدية.
و اعتبارا لما تمثله الخطوط و المنحنيات و الدوائر و الأبعاد و الزوايا من دلالات يمكن من خلالها استخلاص شخصية الطفل ووضعه داخل المجموعة، تبقى الألوان التي يستخدمها مفتاح قوي لقراءة هذه الشخصية وتحليلها أكثر، من هذا المنطلق فقد وزع علماء النفس قيم اللون في رسم الطفل على النحو التالي: الأخضر هو تعبير عن الأمن والطموح والمثابرة والاستقلال والتوازن. الأزرق الداكن، الحاجة إلى الراحة .الأحمر يعبر عن العدوان، قوة الإرادة، الإثارة وزيادة النشاط .الأصفر يشير إلى المشاعر المرتفعة والتفاؤل والفضول والعفوية. البنفسجي مؤشر على الحدس والخيال وعدم النضج الفكري والعاطفي.البني يشير إلى المشاعر السلبية والانزعاج البدني والتباطؤ والدعم الحسي للأحاسيس.الأسود يعبر عن الاحتجاج، والحاجة الملحة للتغيير والدمار.
إن الطفل عندما يشرع في الرسم تراه منهمكا مستغرقا فيه بكل ثقة، لمجرد أن يرضي نفسه فقط أولا وأخيرا، ويحظى بابتسامة رضا و إعجاب من قبل المحيطين به من مربين أو أولياء أمره، حتى يتأكد أن ما يقوم به شيء مهم ورائع، مما يجعله يستمر في عمله محاولا انتزاع المزيد من الإعجاب، وتحقيق النجاح، كما أكد عليه علماء النفس التربية عندما قالوا إن الإنسان الناجح في حياته العملية هو ذلك الشخص الذي يمارس عمله بروح اللاعب العاشق للعبته، وكلما أكدنا لدى الأطفال هذه الروح كلما شبوا وهم يعشقون العمل كقيمة بغض النظر عن النتائج. على أساس ألا نضغط عليهم لكي يكونوا رسامين بارعين، لأن هذا ليس هو الهدف من التربية الفنية، كما يجب علينا ألا نتدخل بالنقد و لا نحاول تصليح ما يقوم به بحجة التوجيه و ألا نستخف به ولو بنظرة أو إشارة عابرة، بحيث علينا أن ندرك أنه يعبر عن عالمه هو، بكل صدق و ثقة، لا عالمنا نحن، فلنكتف بالتوجيه المقتصر على تدريبه على الخامات الموجودة بين يديه أو التي نقدمها له، و نطلب منه التصرف فيها بالشكل الذي يراه هو، و بأنه هو الذي سيجعل لتلك الأشياء معنى و قيمة، و ليس بالتدخل في أسلوبه.


الكاتب : إعداد : محمد الصفى

  

بتاريخ : 24/03/2022