«رضاع الكبير» لخالد الدريوش شعرية المشانق الصغيرة

 

عن مؤسسة باحثون للدراسات والأبحاث والنشر، تازة، صدر للقاصّ خالد الدريوش مجموعة قصصية بعنوان: «رضاع الكبير» في134 صفحة. ولقد وضعتني قراءة هذه النصوص، في الحقيقة، في مأزق وفي حَرَجٍ، لأنه عندما تكون النصوص والكلمات دافئة وأقرب إلى قلبك،لأنك ربما تحفظُها وتستطيع أن تتنبَّأ بمآلاتها منذ السطر الأول؛عندما تكون منتميا إلى نفس مكان وزمان الحكي،وتجد كثيرا من النصوص تبعث حياة قضَّيتها بين العوم في وادي»ملوية»،ومطاردة الحمير والكلاب،وربما،إعداد المشانق لهم على أفرع وجذوع أشجار العريش والنخيل والأكاسيا، والأوكاليبتوس، أو «ثمر الترك»؛ وفي نصب الفخاخ للطيور على مختلف أشكالها، وتكون قد تذوقت بل وازدردت قلوب الهداهد وهي لا تزال تنبض بالحياة والدم في صدور تلك الطيور الجميلة،ولا تجد ما تبرِّر به هذا الفعل»الوحشي» غير أن تجد حلا سحريا لخمولك في الفصل وتأخرك الدراسي، علَّ عقلك وقلبك ينفتحان ويسعفانك للحاق بأقرانك المتفوقين، أبناء الموظفين والمسؤولين والأجهزة الأمنية.
عندما تجد نفسك ملفوفا بهذا الغطاء العاطفي والوجداني القوي الذي يُذهب كل تركيز لديك ويجعلك لاتنظر إلى النصوص كنصوص، بل كقطع من قلبك تذوب كلما تقدمت في القراءة وقلبت صفحات الكتاب، فأي الطرق تسلك لقول كلمة يكون لها بعض المصداقية وبعض المعنى؟
مع ذلك،ورغم هذا الحمَّام العاطفي عليك أن تخرج من مياه»ملوية»وتتنشَّف من مياهها السحرية وتتجفَّف على رمالها اليابسة والحارة وتنظر من مسافة ما إلى المياه التي جرت أمام ناظريك،من مسافة موضوعية وقسرية يفرضها الزمن الخارجي والتاريخي. لنتعود الأشياء كماكانت من قبل،بل كما يرويها لنا الكاتب،ولن نكون مضطرين لأن نصدقه أو نكذبه بالإحالة على الواقع أو على الحقيقة، بل بمقدار نجاحه أو فشله في أن يستأثر بانتباهنا وإدهاشنا.
وللحق؛فعنصر الدهشة أساسي هاهنا؛ وهو إلى جانب عناصر أخرى من قبيل السخرية؛الطابع الدراماتيكي وقلب المصائر والأحداث حتى في المواقف التي قد لا تتوقعه فيها؛الكفاية الغنائية فيجعل النص القصصي أقرب إلى الشعر وإلى حب الذات المشبوبة…يعطي لهذه المجموعة المنسَّقة في شكل هارموني، أهم ميزة نفتقدها كثيرا في نصوص الحكي التي تنتشر كالفطر في هذه اللحظة من التاريخ،محليا وعربيا. إذ مامعنى أن نكتب اليوم قصة،لاتستطيع أن تثيرَنا أو تدوِّخَنا،تُجنِّنَنا، أو تحفرَ في ذواتنا تلك الندبة التي ترافقنا مدى الحياة؟وهذا في نظري المتواضع،هو ما سيعطي للكاتب خالد الدريوش قيمته وسيبوئه المكانةالرفيعة التي يستحق بين كتاب القصة القصيرة في المبدعين.
ثم ماذا تستطيع أن تقول عن قاصٍّ آت من الشعر، ومن المدونات الأدبية والشعرية القديمة؟.
قاص بدأ بكتابة الشعر، وكان قارئي الوحيد لتلك الخطوات المتعثرة في الكتابة منذ نهايةعقد الثمانينات من القرن الماضي،مثلما كنت قارئه الوحيد أيضا حينما كنا نكتب نصوصنا ونقرأها على ربوة مطلة على وادي ملوية، أو تحت ظلال أشجار الزيتون والرمان والتين،بين أفياء بساتين بلدتي الصغيرة «إكلي» ومسالكها المتعرجة والضيقة. نقرأها وننخطف بالكلمات والأحلام،بعد أن نكون هرَّبنا تلك القصائد في جيوبنا بعيدا عن العيون لنتمثَّلها بكل ما كنا نملك من شغف وتشنج وبحَّات في الأداء. وسيأتي الوقت،ربما،ليقص علينا خالد الدريوش حكاية تلك المصادفة العجيبة التي جَمعتْ حادثا في غاية الطرافة بالمدونات الأدبيةالقديمة،من نمط «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني،و»الحيوان» للجاحظ،وشرح القصائد أو المعلقات العشر للخطيب التبريزي،أو المفضليات والأصمعيات…حيث كنا نأخذ كفايتنا،والأكثر دقة،ماتسمح به جيوبنا الهزيلة، من هذه الكتب بمجرد التوصل بمنحتنا الدراسية الجامعية لنستقل في اليوم الموالي الحافلة الشهيرة آنذاك في ميسور: «حافلةبوشتى»،ثم ننكب على قراءتها والاستمتاع بعوالمها إلى أقصى الحدود؛وأعني بالمصادفة،قصة اقتنائنابنصف قيمة منحتنا الدراسية كتاب الأغاني ذي الخمسة والعشرين مجلدا.
حدث في نهايةعام 1990،إذا لم تخني الذاكرة،ونحن نحشر أنوفنا في الكتب والعناوين في إحدى مكتبات «الطالعة» بالمدينة القديمة بفاس،أن لفتتْ نظرنا حركةٌ غيرُ اعتيادية،نحن الرائدَين الوحيدَين للمكتبة،لأن الوقت كان وقت الغذاء، فتطلعنا برسم الفضول إلى مايجري في الخارج،فوجدنا «الطالعة الصغرى» تعجُّ برجال الأمن من كل صنف، ومع اقتراب جماعةمن الزوار،كانت تهبط الزقاق الشهير ببطء،تعرَّفنا على الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغن وعقيلته نانسي. مرَّ الضيفان والوفد المرافق لهما على بعد متر أو يزيد قليلا منا. لوَّحا لنا ولوحنا لهما،وتبادلا معنا نحن الواقفِين أمام أبواب المحلات التجارية على جانبي الزقاق الطويل بعض كلمات التحية:Hello!،Hi!…بعدها حمل كل واحد منا كرتونته الثقيلةبمجلدات الأغاني وكأنه يحمل الأسرار والكنوز بين يديه،وليس في خاطرنا غير بلدتنا الغالية،ميسور.
وهذه الإحالة على الكتب القديمة ليست اعتباطية هنا لأننا نجد رواسبها العميقة في المعجم والقاموس الذي يستعمله القاص في السرد،والذي قد يفرض على القارئ أن يبذل بعض الجهد وأحيانا يحمله بعض العنت لمرافقة المكتوب،لكن ذلك ليس عائقاحقيقيا يحول دون استمتاع القارئ بهذا القصّ. وإذا كان لي أن أعتمد على قياس ما في التلقي،رغم أنه غير حاسم وغير مبني على صدقيةعلمية أكيدة، وإن بقي قياسا على كل حال،فيمكنني أن أحيل على أن هذه القصص تحظى بالكثير من التفاعل والتعليقات حينما ينشر الكاتب نماذج منها على صفحته على الفيسبوك،ممايؤكد أن استعمال لغةتنتمي إلى المدونة القديمة ليس عائقا أمام القارئ،مادام الكاتب يُحكم صنعته ويتحكم جيدابآليات الحكي. وهنا أتذكر حكايةطريفة حدثت لي مع أستاذنا الجامعي والشاعر الكبير الذي قرأ أحد دواويني الأولى ذات مرَّة،وقال لي بأن لغتك تخرج من الكهوف، وتنتمي لسلالة،من الشعراء،انقرضت الآن!
ولقد كذبتُ، أو على الأقل،لم أكن دقيقا،حينما زعمت في بداية هذه الكلمة أني أعرف مآلات القصة منذ السطر الأول. لأني وإن كنت أعرف الوقائع وربما عشتها،وربما أنا أيضا أوجد من بين شخصيات هذه المرويات،فليس المهم أن تعرف الوقائع- من قبيل القصة التي تتحدث عن أعمال بناء «منفى» (هكذا كان يُسمَّى)،أو مقرٍّ لسجن،أو إقامةجبريةفي مدينةميسور لشخصيات سياسية معروفة: عبد الرحيم بوعبيد، محمد الحبابي،ومحمد اليازغي، (وهي الوقائع التي نعرفهاجميعا لأننا رأيناها بأم أعيننا، وكنا نتابع مجرياتها من الخارج ونتعجب كيف لايتوقف العمل حتى بالليل تحت الأضواء الكاشفة،وكأن القوم على عجلةمن أمرهم !)- أو أن الكاتب يستند على سيرته الذاتية التي قد نلمُّ ببعض تفاصيلها،وإنما المهمُّ هو كيف يجعلك الكاتب تنفعل بها ويخطفك ويأسرك بسرده،ويقدم لك الواقع بعيون الطفل المندهشة ويجعلك تغير أفق انتظارك،في نهاية المطاف. وذلك لعمري هو النجاح الذي،تحقَّق للمبدع خالد الدريوش،ولم يتحقَّق لكثير من كتاب القصةالقصيرة.
إن مبدعا،يكتب منذ أكثر من ثلاثة عقود دون أن ينشر أي عمل (في كتاب)،لهو حقا كاتب «مجنون»،احتقنت الكتابة داخله زمنا طويلا، ولربما قد لا يكون اقتنع طوال هذه السنوات بما تخطه يمينه، وقد يكون مزَّق من النصوص أكثر من تلك التي احتفظ بها، وربما يكون اختبر الصمت بمافيه الكفاية ليطلق جنونه الجميل في الأخير، في هذاالعمل الأول الذي ستعقبه دون شك، أعمال قصصية وروائيةأخرى غزيرة…

*شاعر ومترجم


الكاتب : محمدالعرابي

  

بتاريخ : 16/01/2021