رواية الرقص على حافة الفناء .. «تانغو الخراب» لـلاسلو كراسناهوركاي الفائز بنوبل للآداب 2025

تغوص رواية «تانغو الخراب» للنوبلي لاسلو كراسناهوركاي في عالم قرية مجرية غارقة في العزلة والظلمة، كاشفة عبر وصف مشهدي عن الخرابين المادي والروحي للإنسان المعاصر برؤية كافكاوية وعبث بيكيت.
لفتت «جائزة مان بوكر» التي حصدها الروائي المجري لا سلو كارسناهوركاي عام 2015 عن مجمل أعماله، انتباه دار «التنوير» التي دأبت على ترجمة أعمال الفائزين بهذه الجائزة، كما فعلت مع الكورية هان كانغ والبولندية أولغا توكارتشوك قبل حصولهما لاحقاً على «جائزة نوبل»، وتكرر الأمر مع كراسناهوركاي، فأصدرت له عملين بتوقيع السوري الحارث النبهان، أولهما عام 2016، أي بعد عام من فوزه بالجائزة، والثاني عام 2020، قبل أن تتوقف عن ترجمة بقية أعماله التي يبدو أنها لم تلق التجاوب الجماهيري المأمول، بسبب طبيعة مواضيعها الوجودية المعقدة وأسلوب كاتبها الغامض المملوء بالمشاهد الوصفية، غير أن فوزه بـ «جائزة نوبل» للآداب عام 2025 قد يعيد الاهتمام بأدبه، ويفتح الباب أمام مواصلة ترجمة نتاجه الروائي والقصصي إلى العربية.

لغة وسيطة

وعلى الأرجح فإن الحارث النبهان ترجم روايتي كراسناهوركاي إلى العربية من الإنجليزية، وبذلك يكون القارئ العربي قد تعرف على أديب «نوبل» عبر لغة وسيطة، وهو أمر يستحق التوقف عنده طويلاً عند تقييم أعمال الكاتب المجري، فقد صدرت «تانغو الخراب» عربياً عام 2016، وهي أول رواية لكراسناهوركاي (1985)، وتأخرت ترجمتها إلى الإنجليزية حتى عام 2012 على يد المترجم المجري – البريطاني جورج سيرتس، وتحولت إلى فيلم ملحمي عام 1994 يمتد عرضه إلى نحو 450 دقيقة، أما العمل الثاني فهو رواية «كآبة المقاومة» التي نشرت عام 1989 وترجمت إلى الإنجليزية للمرة الأولى عام 1998 تحت عنوان The Melancholy of Resistance. وتحولت إلى فيلم سينمائي عام 2000 بعنوان Werckmeister harmóniák (تنويعات فيركمايستر)، بلغت مدته نحو 145 دقيقة.
تدور أحداث رواية «تانغو الخراب» في قرية مجرية نائية غارقة في الطين والعزلة والفقر والمآسي، لا تكف رياحها عن العواء ولا أمطارها عن الهطول، تقطنها ثلة من الفلاحين البؤساء ينتظرون من يخلصهم من واقعهم السوداوي شديد الكآبة، في واقع ينعكس على كل شيء حولهم، بيوت قذرة تتداعى جدرانها وسقوفها، شوارعها موحلة تغطيها برك المياه التي تعيق الحركة، وعناكب تنسج خيوطها على النوافذ والأبواب والمقاعد، وبيوت وقصور خربة مهجورة تشهد على موت الحياة وقرب نهاية العالم.
خراب داخلي
هذا الخراب الخارجي الذي يرسمه كراسناهوركاي عبر وصف الطقس والمكان والظلمة التي يخلقها الليل، أو غياب الشمس خلف السحب المتراكمة، يقابله خراب داخلي عميق في نفوس أهالي القرية الذين بقوا فيها، عائلة شميدث وكرانر وهاليكسي وهورغوس ومدير المدرسة والطبيب وفوتاكي، وكل واحد من هؤلاء غارق في عالمه المأسوي الضيق، فالطبيب يراقب حركة الفلاحين في القرية ويدون ما يفعلونه في مذكراته، والسيدة شميدث تتوق إلى الهرب من زوجها مع عشيقها إريماس، أما عائلة هورغوس فقد انتحر عائلها مخلفاً ابناً مراهقاً ضالاً وثلاث بنات تعمل كبراهن في الدعارة، وتحلم الأخريان بالرحيل إلى المدينة.
الطفلة الصغرى يتأنى المؤلف في رسم مأساتها، طفلة بريئة مهانة ومنبوذة من الجميع، يخدعها أخوها ساني بأنه سيزرع نقودها في الغابة لتنمو، لكنها تكتشف خديعته، وفي ليلة ماطرة تقرر أن ترى العالم من أعلى فتنتحر بشرب سم الفئران لتجسد صورة البراءة المسحوقة تحت وطأة القسوة الاجتماعية.
تقدم الرواية رؤية رمزية لانهيار العالم الحديث من الداخل والخارج معاً، فالخراب المادي الذي يلف القرية يتمثل في عتمة وأمطار وبيوت مهجورة وطين يلتهم الطرقات، وهو ليس سوى انعكاس للخراب الروحي والوجودي في نفوس سكانها.
هؤلاء السكان الذين يصفهم إريماس المخادع لتابعه بيتريتا  ليبرر سرقتهم والاستيلاء على نقودهم كالتالي، «ستجدهم جالسين في المكان نفسه تماماً، على الكراسي القذرة نفسها، يحشون أنفسهم بالبطاطا القذرة نفسها وبالفلفل كل ليلة، من دون أن تكون لديهم فكرة عما يحدث، ينتظرون صابرين كعهدهم دائماً، كعهد معاناتهم التي لا تنتهي» (ص55-56)، فيما ينظر الفلاحون لهذا المخادع بوصفه المخلّص الذي سينقذهم من ويلات ما هم فيه.

بيكيت وكافكا

هذا الانتظار العبثي الذي يخيم على الرواية يحيل بوضوح إلى عالم صمويل بيكيت في مسرحيته الشهيرة «في انتظار غودو»، ويحيل إلى الأمل المعلق الذي لا نهاية له، كما يحيل أيضاً إلى عالم فرانز كافكا الكابوسي، بخاصة وأن كراسناهوركاي يستهل روايته باقتباس منه، «في تلك الحال سأخسر الشيء الذي أنتظره»، ويبدو هذا التناص أكثر وضوحاً في الجملة الافتتاحية للرواية، «ذات صباح استيقظ فوتاكي على أصوات أجراس»، التي تذكر ببداية رواية «المسخ» لكافكا، «استيقظ غريغور سامسا ذات صباح بعد أحلام مزعجة ليجد نفسه قد تحول في فراشه إلى حشرة هائلة الحجم».وهكذا يعلن كراسناهوركاي منذ السطر الأول انتماءه إلى تقليد أدبي سوداوي يرى العالم كابوساً دائم التكرار، والإنسان فيه كائناً ينتظر الخلاص وهو غارق في مستنقع الخراب ذاته، وتتجلى العبثية وغياب المعنى للحياة بأوضح صورها في شخصية فوتاكي الذي يرهقه السؤال عن جدوى الوجود، فيفضل الاستسلام للموت ما دام هو النهاية المحتومة لكل شيء، ذلك المصير الذي يرعبه ويحرمه النوم، كما يكشف السارد طبيعة رؤيته للحياة، «إن العناية الإلهية التي تهتم بنا يوماً بيوم، ليست إلا التماعة سكين الجزار نفسها في ساعة الفجر، لا يمكن تجنبها، وأن ذلك سيأتي في وقت لا نتوقعه أبداً، وقت لا نعرف فيه حتى لماذا يتعين علينا أن نواجه ذلك الوداع المخيف الذي لا سبيل لفهمه» (ص165)، ليظهر فوتاكي كأكثر شخصيات الرواية حساسية ووعياً بمأسوية الحياة، وأكثرها إدراكاً لعبث الانتظار، ويتحول تأمله الوجودي إلى مرآة تكشف ضعف الإنسان في عالم فاقد للمعنى.

مشهدية الوصف

يعتمد كراسناهوركاي في تانغو الخراب على السارد العليم الذي يتيح له النفاذ إلى عوالم شخصياته الداخلية، واستكشاف ما يدور في عقولهم من أفكار ومشاعر وهواجس، ويمنحه هذا النمط السردي مساحة واسعة لبناء مشاهد دقيقة التفاصيل تتكئ على الوصف كأداة رئيسة تبطئ من تدفق الأحداث، وتحول كل لحظة إلى مشهد بصري مشحون بالإيحاء، ومن النماذج الدالة على هذا النمط، «ظل الرقيب متسيباً في وضعية الانتباه حتى سمع صوت إغلاق الباب خلف الضابط، وعندما مسح العرق عن حاجبيه بذراعه ثم جلس إلى مكتب قبالة المدخل ودفع باستمارة مطبوعة أمامهما قائلًا لهما بصوت مرهق: ‹لا يتحرك الهواء أبداً في هذه الصالة، إن في سقفها ثلاثة صفوف من مصابيح النيون›».
ويمضي السارد في تتبع كل حركة وكل تفصيلة، رائحة المكان، طبيعة الضوء، شكل النوافذ، ملمس الجدران، وإيماءات الشخصيات، جاعلاً من الوصف آلية سردية جوهرية تحول الرواية، على رغم قلة أحداثها وضيق فضائها، إلى صورة سينمائية مكتملة الزوايا تحفظ المشهد بكل أبعاده الحسية والنفسية.
تنتهي الرواية من حيث بدأت، في بنية دائرية مغلقة تعيد القارئ إلى نقطة الانطلاق، وكأن الأحداث لم تفض إلى أي خلاص، فيبدأ كراسناهوركاي برصد عالم فوتاكي وعائلات القرية وما يعتمل فيها من توتر وانتظار وخراب، في جزأين يتألف كل منهما من ستة فصول، ثم يكشف في الخاتمة أن ما قرأناه ليس سوى ملاحظات الطبيب الذي كان يراقب القرية من عزلته، وهو ما يوضحه عنوان الفصل الأخير «اكتمال الدائرة»، فيظهر الطبيب الراصد هنا كشاهد على خراب العالم، يدوّن عبثية الحياة  ويعيد إنتاجها كتابة في دائرة لا يمكن الفكاك منها.

عن «الأندبندنت عربية»


الكاتب : عبد الكريم الحجراوي

  

بتاريخ : 22/10/2025