«الهرمكة» سنظل نضعها بين مزدوجتين، حذرا من هذا الانزياح اللغوي أو ربما تأففا منها بما هي في وعينا الجماعي؛ «الهرمكة» «الله ينجينا وينجيكم». فلا أحد يستهويه الحديث عن هذه الوسيلة-الفعل بكل تأكيد؛ لكن ماذا وقد أضحت الكلمة عنوانا لمنجز يحثنا على إعادة النظر في العديد من التمثلات الذهنية حولها، وفيالأفكار التي تتولد عن مثل هذا النظر؟ «الهرمكة» أتراها تدل على فعل يُمارَس أم تدل على اسم الوسيلة التي يتم بها الفعل؟ ثم ان من ينبس بكلمة «هرمكة» سرعان ما سيسأل عمن تكون الذات التي بيدها الوسيلة-الفعل وعن الذات التي يقع عليها الفعل-الوسيلة؟
تلك واحدة من فيض تساؤلات يجد القارئ نفسه أمامها بمجرد قراءة عنوان منجز الكاتب المغربي سعيد رحيم. والعنوان، من جهة أخرى، يغري بسهولة عملية تخمين بعض الإجابات وتعيين سياقاتها قبل المضي في القراءة، غير أن الأمر سيأخذ منحى مختلفا حينما نتجاوز العنوان ونلج دروب منجز سعيد رحيم.
لعلها أول نقطة نشد إليها انتباه كل قارئ، فنتوقف بمعيته عند اعتبارين أساسيين، لو جربنا النبش في خبايا الروايةمن زاوية نظر المقاربة التداولية؛ الاعتبار الأول تشرطه اللغة الهادفة، بما يفيد في صياغة الكلمة أو الجملة التي تحقق الغاية المنشودة من لدن الكاتب، وبالضبط تعيينه للكلمة التي تضمن المرور السلس بين المضمون والضمائر:»أنت» القارئ المحتمل بالقوة و»أنا» الراوي الموجود بالفعل. وذاك جوهر الكتابة في الرواية كما مد جسوره كل من سعيد رحيم وكمال رشدي. ثم الاعتبار الثاني، الذي يحيل على أهمية الدقة في اختيار الكلمة التي يضعنا بها الكاتب أمام نمط التوليف الذي يجمع بين دلالة محددة وبين استعمالها، وهو النمط الذي ينهجه الكاتب حيثما يكون قصده هو أن يوفر على القارئ جهد البحث عما يعلق به على المقروء أو ما يتيح له إمكانية التأويل.بهذا ستبدو الكلمة «هرمكة» دالة على كل ما يرتبط بالعنف، وبالتالي لن يجد القارئ نفسه منهكا بجهد البحث عما يكون موضوع الرواية؛ بل سيجد بسهولة ركاما من الكلمات ذات الصلة من قبيل القوة، الجوع، التهميش، الاضطهاد، القتل وغيرها مما يشكل تجليات ومظاهر للعنف. فهل هذا ما يقصده الكاتب؟
لعل ما نقرأه بين دفتي الرواية كفيل بأن يبين المنحى الذي يصير فيه الاعتباران المشار إليهما سلفا بمثابة دعوة قوية من سعيد رحيم،وهو المتخم بأدبيات الكتابة الصحفية التي تتوسل الوضوح والعبارة المباشرة للحديث عن الوقائع ومجريات الأمور حينما تتعلق بحياة البشر، موجهة إلى كل قارئ بأن يستحضر رصيده الأيديولوجي بشكل خاص، والسياسي بشكل عام ليستشف كل المقصود الثاوي بين السطور، وإن كانت هذه الدعوة خفية. وهذا ليس بالبعيد عما يطلق عليه المختصون بدراسة وتمحيص أنماط السرد في الكتابة الأدبية وبالضبط في صنف الرواية، بالسياق التراثي حينما يتعلق الأمر بمنجز روائي قراءته تستدعي استحضار تراكم ثقافي ورصيد معرفي، والذي يقدمه الكاتب على لسان الشخوص وغالبا ما يكون منطوقا بلسان البطل في الرواية، غير أن البطولة في «الهرمكة» بُعدٌ يتشارك فيه أغلب شخوص الرواية بمقدار حضورهم في صناعة الأحداث التي بها تتقوم الحياة على أرض السحيلة. ومن ثم نسجل ملاحظة أولى، بخصوص تعدد الأبطال عوض البطل الواحد/الشخصية الرئيسية أو المركزية التي تكاد معها تتلاشى إرادات الأشخاص الآخرين في الفعل وتملك عنان الزمن لتصويبه جهة ما يريدون بكل حرية.
حجتنا على ذلك نستخلصها من السياق الخاص الذي شيده الكاتب الفعلي، أي سعيد رحيم،لشخصية كمال رشدي الكاتب المتخيل الذي سينقل بحبره واقع الأخدود الذي سيحمل لقب «السحيلة». فنحن نلاحظ منذ الصفحات الأولى التركيز على تقديم الشخصية، كمال رشدي، ذاتا تنشد الحصول على أجوبة عن الأسئلة الاعتيادية بخصوص المكان والزمان. بداية أسئلة ستتبلور حولها ثمة أجوبة حمالة بدورها لتساؤلات ثم أسئلة جديدة تنبثق عنها تساؤلات أخرى، وهكذا يرسم الروائي خطا تصاعديا لما يراكمه كمال من معرفة وثقافة مرتبطتين بالمكان وبالزمان وبالناس. بذلك يقوض الكاتب ما رسمته الرواية الواقعية من تقاليد. فالرصيد المعرفي-الثقافي الذي يقابله في تلك الأدبيات السياق التراثي يختار له الكاتب سعيد رحيم تعيينا من مجال بعيد كل البعد عن حقل التداولية. ونقصد بالضبط عبارة تنامي وعي البطل. هذه الفكرة التي تحضر بصورة واضحة في الرواية. وهنا نؤكد على تسجيل ملاحظة ثانية؛ لا تقل أهمية عن الأولى، بها نشد الانتباه إلى خروج الكاتب من جبة السارد الذي تشرط التداولية دوره بالتزام الحياد أثناء القيام بمهمته، وذلك حينما تلبَّس بدور عالم بيولوجيا يلزمنا بتقبل التحديد الذي يراه هو مناسبا لبعض الأفعال التي يقوم بها كمال مثلا، فما يعده الروائي تجليا للوعي يكون من المنظورالتداولي محض تجل لحاجة بسيطة، والتي من فرط الجهد المبذول لتحقيق اشباع لها تتحول إلى رغبة، وبذلك يغلق باب الـتخييل الذي تتيحه الكتابة الروائية. وتشكل هذه الملاحظة إلى جانب سابقتها قطب محاجتنا على ما سلف ذكره.
بنور هاتين الملاحظتين، تنقشع أمام ناظرنا الملاحظة الثالثة التي نقبض عليها في الفكرة التي مفادها اننقطة انطلاق هذا الوعي لم تكن أكثر من ذلك التأثر الوجداني الذي يتحصل عند كل ذات حينما تنوجد في وضعية تكون فيها الوقائع والأحداث والأشخاص معطاة بشكل لا دخل لها فيه، وهوما سيظهر جليا في آخر فقرة من الصفحة الثامنة حيث نقرأ (في ظل ندرة التوثيق(…) اعتمد بداية على ما اختزنته ذاكرته من صور ووقائع…)، ثم في الصفحة العاشرة سيتغير وعي تلك الذات ليصبح أكثر عمقا، إذ سيجد الشخص نفسه أمام تغير جذري على مستوى تصرفاته وأفكاره؛ تغير سيتجلى في صورة مسؤولية أخلاقية تغدو في ما سيأتي من الأيام هي الآلة الطابعة للسلوك اليومي الملزم له مبدئيا وليس بالإكراه أو بقوة القانون.وهذا ما سيخبرنا به الكاتب في الصفحة العاشرة، مبينا أنه الأمرُ الذي استجد مع كمال رشدي، فنقرأ: (كنت من الشخوص المتحركة على هامش الأحداث والوقائع(…) قبل أن أصير قطعة من تلك الصخرة المنغرسة بعروقها في الأرض، نصفها تحت التراب، والنصف الآخر فوق البسيطة في قلوب عاشقة..) أخيرا أتساءل على هامش تينك الملاحظة عما تختزنه رواية «الهرمكة» من أبعاد تجعلها تصفي الحساب مع بعض من ملامح المقاربة التداولية؟
تحت ضوء هذه الملاحظات يبدو الجواب عن التساؤلات المطروحة أعلاه في صلب الخط السردي الناظم لمجريات الأحداث التي تحكي الرواية تفاصيلها. خط أبعد ما يكون عما يرسمه منظور التداولية التي نستحضرها هنا بما هي زاوية نظر تتم عبرهامقاربة المنجزات الإبداعية بغية توشيحها؛ باستحضار ما تضعه من محددات؛ بوسام جنس الرواية أو تعدمها إياه.هذا الصنف من صيغ النظر في الكتابة الأدبية يسقطها في الصنمية، وهو ما تشد عنه رواية «الهرمكة». إنها رواية يمسك بخيط السرد فيها كاتبان عوض كاتب واحد، هما سعيد رحيم الذي يتحكم فيه من خارج المتن، ثم كمال رشدي الذي يُحكِم قبضته على مجريات الأحداث من الداخل؛ وإننا نعلم جيدا أنه لطالما تمرد الشخوص على الكاتب فسعوا نحو سدرة الكتابة من حيث لم يكن ينوي السير.
لعل الصفحات الأولى تشي بذلك؛ ففي الصفحة الثانية عشر نعثر على الفكرة الأساس المُبِينة لكيف تتمرد الشخصية على الكاتب حينما تعلن في وجه البساطة والحياد والانفعال والسطحية التي حددها بها الكاتب في بادئ الحكي، لتتعين بصفات ومحددات على النقيض التام. فالهرمكة كما تحضر في الرواية هي التي ستجعل البعد الوجداني بعدا أخلاقيا يتحول بموجبه الشخص من مجرد فرد منفعل بما يحدث حواليه إلى فاعل منخرط في ما يحدث؛ وبهذه المسافة يسحب التحول الحاصل صاحبه إلى مستوى الفضيلة؛يقول السارد: (ينتابني الشعور برد الجميل كجزء من مسؤولية نتقاسمها أخلاقيا…) ويضيف (الاعتراف بفضائل المكان، رغم كل ما مر فوقه من محن وأوساخ ودماء وعرق العمال والفلاحين الذين صمدوا على ضفاف الأخدود…) وينطلق الحكي على امتداد باقي صفحات الرواية حتى آخر تفصيلة من آخر حدث.
نستشف من مثل تلك الاستشهادات أن النقد الذي يقف عند حدود الحديث عن الزمان والمكان وملامح الشخصيات ما ظهر منها وما يتم استقراؤه أو استبطانه؛ أي النقد الذي يشتغل على النص الأدبي بحدود جاهزة حتما سيصل الى إقرار أحد أمرين: أولهما أن النص متى بلغ ذروة التوافق مع تينك الحدود هو عمل أصيل مع الجنس الذي يندرج فيه، وأنه متى جانب تلك الحدود يتم إقصاؤه من التصنيف قيد الحديث.
وفق مقاربة تداولية وكما تقدم، لا جديد يمكنه أن يسحب القارئ للاهتمام بالرواية. ثم ماذا لو كان القارئ ممن اتيحت لهم الفرصة ذات يوم ليجوبوا دروب «مدن الملح»حيث يبين الروائي عبد الرحمن منيف كيف لتدخل العنصر الاقتصادي كل ذلك السحر حتى ليصبح المكان القفر والفارغ من موجبات الحياة أو لنقل موجبات تضمن البقاء على قيد الحياة، مكانا يستقطب الناس بشكل كبير وعجيب؛ بل يصل الأمر منتهى الغرابة حينما يصير للناس نمط حياة جديد لا سابق عهد لهم به، فيجد المتأمل بعين المهتم والمتخصص نفسه أمام أكثر صور الانتحار الطبقي والاضمحلال الإنساني والتناقضات بشاعة. هذا البعض من أوجه تناص بين الروايتين مع ملاحظة أن التوصيف والتحديدات لم تكن بنفس الأسلوب من جهة جمالية العبارة- الكلمات، وكذا من جهة قوة استعمالها، أي كتلك التي يجد القارئ نفسه أمامها كلما أكمل قراءة فقرة من فقرات الرواية عندما يقوم بتطريزها عبد الرحمن منيف. فبعض الجمل تظل عالقة بذهن القارئ لأنها غدت بدقة حبكتها مثل الحِكَم، وهذه أهم مؤاخذاتي على الأسلوب الذي اعتمده الكاتب سعيد رحيم إذا ما قورن بالحبكة في منجزه «حدائق الجنوب»..هل هي طبيعة المحكي التي فرضت هكذا أسلوب تقريري مباشر؟ هل هي «الهرمكة» بما تتسع له من معاني المنع والقمع والضرب والتنكيل وباقي صور القهر التي من غير الممكن تصورها تضيق على الشاعري والمدوزن من العبارات؟ أم لغياب الجميل في هذه «الهرمكة» أكانت وسيلة أو فعلا؟
حتما تظل المقاربة التداولية عاجزة عن تقديم الجواب؛ لأنها لا تنفتح كمنهج على مثل هذه التجربة الإبداعية التي يخوض فيها الكاتب سعيد رحيم. التداولية تسيج الكتابة بحدود خاصيات بعينها، وتسجنها في قالب معطى سلفا يضيق على سجية الحالمين بغد جميل يسع الناس جميعهم. لذلك جاءت العبارة في منجز «الهرمكة» تقريرية مباشرة منفلتة للتذكر لا لعوز المؤلف، ولكن لبشاعة ما يتم تذكره. أي حدث هذا الذي يسوقه القابعون بين أرض وسماء السحيلة يستحق عناء تخييل مرح يمَكِّن الكاتب من دوزنته على إيقاع الحكمة أو ما شابهها ليظل عالقا بين جوانح الناس قبل ذاكرتهم؟ حتى تجربة العشق لم تسلم من صيغتي التقريري والمباشر لأنها لم تأت حصيلة نظرات أسرت اثنين، ومخافة انفطار قلبيهما اختارا رباط الزواج. تجربة منفلتة لمنطق المشاعر، كيف يكون سردها بشكل شاعري أمر ممكن؛ نقرأ في الصفحة (94): (تزوجها، ثم عشقها، وشرعا معا في إنجاب تركة جديدة، ستنخرط في الدورة الاقتصادية على ضفة أخدود «السحيلة»). نفسه الأمر يبعث على النفور من استرجاع صور واقع يرزح تحت نير التناقضات إلى حد التقزز، لن يحتمل المرء إطالة النظر فيه بعين المشاهدة، أتراه يطيق إطالة التفكير في كيف يطرز له العبارة بحساسية وذائقة مرهفة؟هاهي واحدة أخرى من مثل تلك الصور جلية في الصفحة (99): (مجتمع يزهر وينمو بشريا..و»الهرمكة» وقتها، لا تزال تطحن وتدور.. كذلك الحركة في «براكة» الزاهية).
ماذا لو نغلق نوافذ النقد الأدبي القديمة، ليس لعدم أهميتها أو لأنه لا جدوى من اعتمادها في مثل هذه السياقات، ولكن لأنها تعدِم بعضا من المتون الروائية صفتها. ودون الخوف من وصف رأينا بالمبالغ فيه، أستعير من الكاتب المغربي عبد العزيز كوكاس إقراره «للحكمة لا يكفي الصمت» فما نراه على أرض الواقع حاليا من المنجزات المصنفة في جنس الرواية لا يتعدى فيها العمل سقيفة الحكاية وحسب؛ إذ لا تسحبنا قراءتها إلى مساحات تعقل تفاصيلها والحال أن الكتابة الروائية نشاط ذهني بامتياز؛ بل إن أقل ما يمكن أنتُعيَّن به هو كونها منجزات لا- روائية.. غير أن رواية «الهرمكة» التي تشذ عن جميع تلك التوصيفات التي تم التطرق إليها في البداية (الملاحظات السالفة)تحثني على استحضار إقرار آخر. ويتعلق الأمر بوجهة نظر المفكر الذي يُشهد لجرأته في النقد، وهو أدونيس الذي دوما صرح بأن نصا عظيما عندما تنظر فيه العين من خرم صغير يصغر، وعكس ذلك مؤكد أيضا في نظر أدونيس. لذلك يستوجب النبش في هكذا نص روائي يتزمن فيه السرد في خطين متساوقين هما الواقعي والتخييل على حد سواء، اعتماد المنهج الفينومينولوجي.
فالمنهج الفينومينولوجي بقاعدتي القصدية والتوقف عن إصدار الاحكام، كفيل بتحريرنا من قبضة التساؤل عما إذا كانت قلم الكاتب سعيد رحيم هي التي زلت بزمن السرد في قعر الزمن الاعتيادي الذي يمثل زمن الاحداث كما تقدمها الرواية ليصبح منجزه هو الآخر نصا لا- روائيا؟ثم كيف لا يمكننا اعتباره كذلك وهو النص المثقل بأجزاء هياكل منجزات إبداعية شتى لمبدعين آخرين؟ أم تراها أقدار الأمكنة حينما تتشابه هي التي تطبع المترعرعين في مناخها بنفس الرؤية؟
لا تسمح القاعدة الأولى التي يرسخها المنهج الفينومينولوجي بالمضي قدما للبحث عن إجابات ممكنة؛ بل تدعونا للبحث في ما وراء ما تم سرده، بمعنى ضرورة التنقيب في ما وراء منطوق النص الروائي عما يقصده الكاتب بهكذا تزمين دون غيره. أما القاعدة الثانية، فتدعونا إلى التوقف عن إصدار أي حكم قد تبدو لنا مسوغات إعلانه متاحة. ويمكن التدليل على ذلك باستحضار رواية «مدن الملح» ورواية «الهرمكة» موضوع حديثنا.
فقد شدني جدا التوازي الحاصل بين مشهدين: أرض قاحلة فيها من النفط مقدار ما يجعلها فجأة تتحول كلية وعلى جميع الأصعدة بشكل يطال الناس فيجعل عقليتهم تتسع لاحتضان التناقضات على تعددها وتكثرها، وأرض خاوية إلا من كم هائل من شجر البلوط، كَمٌّ ستتحول معه فجأة تلك الرقعة إلى مدار اقتصادي نبت حوله كيان مجتمعي مشرع على أعمق التناقضات.
هذا الشكل من أشكال التوازي في المحكي عنه لم يكن قط مثار جدل في الأدب؛ بل هو سبيل نحو الارتفاع بالحديث عن المعاناة، عن الحزن، وعن الفرح والنزوة والرغبة وسواها إلى سماء التخييل لجعلها موضوعات قابلة لنفكر فيها جميعنا، ولكن من زوايا متعددة ومختلفة. ولعل الرواية، حتى وهي تحكي عن الموضوع نفسه، فإنها لتضع علامة بارزة على أهمية الأدب بشكل عام، ورواية «الهرمكة» لا تحيد عن هذا التعيين لكونها تستمد عناصر تشكلها من واقع له من طعم المرارة ما يبعث على الغثيان، غير أن قدرة الكاتب على إعادة تشكيله تخييليا تفتح المجال أمام كل قارئ محتمل ليمتطي صهوة التأويل بما يمنحنا إياه من إمكانيات تفسير هذا الواقع أو ذاك، لبلوغ الفهم المشتهى. وإذ ينهي الواحد منا قراءة منجز سعيد رحيم يبصر الحكمة المتخفية تارة والجلية غالبا وراء الرجوع إلى الماضي رغم قتامته وقسوته.
بهذه التوضيحات يبقى المنهج الفينومينولوجي منهجا يعتق النص الأدبي من شرنقة التقزيم ومن الاقصاء من التصنيف فقط لأنه نص لهذا القصد أو لغيره وجد الكاتب نفسه يرهن ناصيته لكاتبين اثنين وفقزمنين مختلفين.وذاك ما ينطق به لسان حال «الهرمكة»؛ فهي بكل ما تمنحنا إياه من المجاز المثقل بالألم والجراح، لا تتسع استعاريا إلا لعين الألم والجراح والتدمير سلالة القهر الذي لم ولن يخلوَ تاريخ البشرية منه؛ وكذلك كان الأمر بأرض «السحيلة».نعم؛ هي «الهرمكة»، وسيلةً وفعلاً،جبارةٌ للحد الذي استطاعت فيه أن توقف الزمن الموسوم بالحركة لتجعله قابلا للتأمل في سكون الكتابة بما هي حركة أصيلة من رحمها يولد الفهم… والفهم، بدون منازع، وعد بالتحرر ولو بعد حين.وأما قول الكاتب سعيد رحيم بأن (أفضل تعريف يليق ب»الهرمكة» تبسيطا لمعناها هو الدمار الذي يواجهنا ونواجهه كل يوم بأظافر تشبه تلك التي على صدر الغلاف) فلا يبدو لي مقنعا، والحال أن الاظافر على صدر الغلاف قد تم تقليمها بطريقة إستيتيكية تصادر على التعريف ما يقصد به من معنى ربما يكون على مرمى حجر من حكم وجب التوقف للإنصات لنبض صاحبه قبل إصداره.