رواية «بيوس أو طفل الحكمة والطقوس» لعبد الإله حبيبي 

بيوس أو الأدب المقاوم

رواية «بيوس أو طفل الحكمة والطقوس» للمفكر والكاتب المغربي عبد الإله حبيبي، رواية ممتعة بسردها القوي وبعمقها الفكري، ومفيدة من حيث مراميها الثقافية. إنها دعوة لإعادة الاعتبار للثقافة المغربية، من خلال المساهمة في تصحيح مسار تاريخي لثقافة الاستعلاء والتبخيس والكبت. إنها صرخة من أعماق الأطلس المتوسط لتضميد جراح الهوية الوطنية في شموليتها. هذا ما جعلني أصنفها ضمن الأدب المقاومlittérature de résilience .

 

 

تسمح رواية «بيوس أو طفل الحكمة والطقوس» بمقاربتها من مداخل عدة، اخترت المدخل الهوياتي. وأنطلق بادئ ذي بدء من تحديد مفاهيمي لابد منه. تفيد الهوية في دلالتها المنطقية مجموع الخصائص والسمات الثابتة والمميزة لجماعة إنسانية مخصوصة، وهي بذلك تدل على ما يفصلها وما يميزها عن غيرها وتكون بذلك كوحدة جوهرها الفرادة والتميز. الهوية في واقع الحال هي غير ذلك، إنها بناء تاريخي مستمر، ترتج حدودها وتتغير بفعل دينامية العلاقات التي تبنيها الذات مع غيرها ومع محيطها وعالمها. إن الهوية إذن هي انبناء دائم وعدم استقرار مستمر.
وأما مفهوم المقاومة فلا أبغي من خلال استعماله دلالته السياسية كترجمة للكلمة الفرنسية résistance. تعني المقاومة تلك القدرة التي تمتلكها الذات على مواجهة تجاربها الحياتية وعلى رفض وضعية الضحية المهادنة. المقاومة هي القدرة على البناء وعلى تحويل المعاناة إلى إرادة جامحة في الحياة. يحمل مفهوم المقاومة إذن، معنى نفسيا سيكولوجيا كترجمة للكلمة الفرنسية résilience. إن الرواية في تسلسل أحداثها وفي بنائها السردي، مقاومة للعنف بكل أشكاله، الثقافية، الاجتماعية والاقتصادية. ومن ثمة فهي بالتالي تقويم وبناء وصرخة ضد محاولات التدجين لذات تصارع من أجل إثبات خصوصيتها وتتمنع أمام الطمس الهوياتي والتوحيد الثقافي.
من نافلة القول التذكير أن الثقافة المغربية متعددة. ومن نافلة القول التذكير كذلك بأن الاعتراف بالتعدد وبالاختلاف، وإن أصبح خطابا رسميا، لم تستمرئه الثقافة المسيطرة سياسيا واقتصاديا. فلا يتوقف إرساء ثقافة الاختلاف والمغايرة على قوانين ومراسيم تخط على الورق. إنه مسلسل عسير للتطهير، تقوم من خلاله الذوات بإعادة قراءة ماضيها وإرساء تفاعلاتها وعلاقاتها على أسس مغايرة، لصد تمثلات الإحباط والتثبيط التي تبرر انسياقها عن وعي أو بشكل لاشعوري نحو العطالة والاستسلام . لقد تلقت الثقافات المهمشة، والأمازيغية منها على وجه الخصوص، عبر تاريخ المغرب كل أنواع التبخيس وزكت السلط السياسية المتعاقبة ذلك خوفا من الاعتراف بالتعدد، فحرصت على طمس الاختلاف، معتقدة أن ذلك هو الطريق لبناء ثقافة موحِّدة، قادرة على بناء مناعة الصرح الاجتماعي.
يخبرنا العلم، أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعيش الصدمات على مستويين. على مستوى واقعه المعيش وعلى مستوى التمثلات التي يبنيها عن تجاربه تلك. وقد يكون أثر التمثل أكثر وشما للذات. فمسلسل التدجين الثقافي والإذلال الاقتصادي، استبطنته الذوات المَسُودة، وتشربت الدونية، كما استبطنته الذوات المسيطرة واستطابت الاستعلاء. فأصبح إقصاء الذات قبل الآخر رد فعل لاشعوري معتاد. إن ثقافة القهر هذه كان من اللازم، إن عاجلا أو آجلا، أن تنتج نقيضها. بهذا المعنى ، وفي هذا السياق تعتبر الإنتاجات الإبداعية، من قبيل رواية بيٌّوس، خطابا بديلا، لا يستهدف رد الاعتبار للثقافات المَسودة، بل وكذلك تقعيدا لثقافة الاختلاف والمغايرة، التي لامحيد عنها لبناء المجتمع الديموقراطي.
إن أداة المقاومة هي الكلام (parole) والحكي(récit)؛ حكي لا تكون للغة (langue) فيه وظيفة تبليغية تواصلية فقط، بل إنها بالأساس لغة انفعالية ثائرة، وظيفتها رفض السكوت، وإدانة كبت المشاعر والإرادات. إنها توظيف علاجي للكلام وللحكي بهدف التقويم وتطهير النفس لبناء ذات قادرة على تخطي ما يحبطها لترسم طريقها بوعي وثبات. فالرواية استثمار جميل وبليغ لمسارات متوازية للحكي المقاوم»Récit de resilience “، حيث يتحول الحكي فيها إلى إرادة جامحة في الحياة، وإلى أداة لرسم صورة حقيقية عن هوية طمس الحكي المسيطر معالم قوتها وزخمها التاريخي المشرق.
تحكي الرواية إذن، سيرة ذات هي نقطة تقاطع لمؤثرات عدة تعتمل بطريقة أصيلة لبناء هوية خاصة. إنها هوية بيوس، أو لنقل إنها هوية الذوات التي حزنت وفرحت وفكرت باللغة الأمازيغية، إنها هوية كل جسد انطبع بتضاريس أزغار، وهوية كل روح تشربت شرايينها هواء جبال وغابات الأطلس.
فأما المسار الأول، فهو حكي الذات المنعزلة”Récit solitaire «، وإن لم يصغ بضمير المتكلم المفرد، فهو تعبير ذات وحدية وكأنها كيان معزول عن كل آخر. حكي يستحضر ذكريات، ويعبر عن مسرَّات وأحزان ومخاوف، إنه حكي الوجدان والعاطفة. يكون بَيُّوس في هذا المسار، كمن وضع على سرير محلل نفسي. كلام متسارع كمن فجر زجاجة هواء مضغوط، يسابق الكلام الزمان خوفا من كبت آخر، لربما كبت الراوي أو كبح ضوابط السرد. يكون الحكي في هذا المستوى، هو أقرب إلى ما يتداعى عبر الكلام من مكبوتات اللاشعور الطفولي من صور وذكريات في تناقضها وعفويتها.
كما يتخذ الحكي شكل فلتات وزلات كلما اقترب من دائرة الممنوع. حكي تضفي عليه لغة السرد ،أبهى صور العفوية والصدق والعنف. هوية بيُّوس بدأت في التشكل، ضمن هذا الخضم من الأحاسيس والعواطف المتناقضة، نشوة عارمة، حزن صادق خوف شديد، تفاعل وجداني يشل قدرة الذات على الضبط. وضمن علاقات مطمئِنة محفِّزة تارة، ومحبِطة أخرى. حب شديد للجدة وعوالمها، تبجيل قوي للحكيم، وخوف من خدش آمال وانتظارات الأب. انشطار، تمزق، صراع مرير في انبلاج هوية مستقلة من خلال تجربة «قتل الأب» كما يقول أهل التحليل النفسي. ومن جهة أخرى، انصهار في عالم أهل الزقاق الذين قدِموا من كل صوب وحدب، في مقابل كره للمدرسة وسبورتها وسخط على الزنجي وحارسه… هو تاريخ للجمال وللعفوية ولطفولة تستدمج نفسيتُها كل شيء ضمن طقوس المرح واللعب.
هوية كان من الممكن أن تُركن كمثيلاتها، ضمن زاوية النبذ والتهميش أو الانحراف. هنا يتدخل حكي مواز يضفي معقولية خاصة على ما كان يبدو غير ذي دلالة، أو ما قد يبدو مذِلا من ذكريات بيُّوس. وهو ما يمكن أن أسميه الحكي المقاوم . إنه كذلك حكي للتقاسم والتبليغ يفتح النص على كل من هَمُّه بناء هوية الاختلاف والمغايرة. ينبه أحد علماء النفس إلى الحذر من الكلام، إنه جميل ورهيب. إن الكلام والحكي علاج ومصل بناء الذات، وهو في نفس الوقت منزلق نحو كل أشكال العصابات والأسقام النفسية والانحرافات الاجتماعية.
الكلام والحكي هما ما يفتحان الذات على ذاتها وعلى غيرها. من خلالهما تقوم الذات بعملية تطهير تتيح لها الانكشاف أمام ذاتها وأمام غيرها وقد تخلصت من كل مشاعر الدونية ومن ميولاتها نحو الانطواء، منفتحٌ عقلها ووجدانها لمعانقة الآخر والعالم . تعيش الذات، الفردية كما الجماعية، عبر تاريخها تجارب، وتمر بأحداث ونكسات، لكن الخطير هو حينما تكون تمثلاتها عن ذاتها وعن تاريخها محبط ومثبِّط. تكمن قوة ووظيفة الحكي المقاوم في إعادة بناء تمثلات الذات لتجاربها و لواقعها بشكل يخلصها من كل المثبطات وعقد الدونية، ويجعلها تثبت أقدامها على طريق مستقبل تبنيه بقوة و عزيمة. تلكم هي الوظائف المنوطة بالأعمال الإبداعية لبناء مناعة الهوية، وإرساء مجتمع الاختلاف والديموقراطية.
إن المسار الآخر للسرد في رواية بيوس يتخذ أسلوب حكي علاجي يعيد بناء عالم الهوية المحبطة. لغة عالمة ذات خلفية فلسفية عميقة وسرد رصين مشوق يزحزح البداهات، ويذكي شغف التساؤل والتأمل. أرضية الحكي هي الذاكرة، بل قد تبدو كاستحضار لما خزنه اللاشعور النفسي، وما انفلت من عقال الوعي ورقابته. لكن خطاب الذاكرة في رواية بيُّوس لم يكن مجرد تداع حر، إنه استحضار واستدعاء واع بمراميه وخلفياته. فالسرد في الرواية لا يستهدف في المقام الأول الإمتاع و المؤانسة، أو مرافقة قارئ جفاه النوم؛ إنه سرد يستدعي اليقظة والانتباه لاستحضار الماضي واستشراف وبناء المستقبل. فالماضي الذي لا يمضي هو مستقبل معطل.
ذكريات بيوس تستدعَى في الرواية كتيمات ستعاد قراءتها وتأويلها، وهنا يكمن مكر السرد. تيمات طبعت رقعة جغرافية مهمة من جغرافيا الوطن ومكونا من المكونات الأساسية للهوية الوطنية، إنها الهوية الأمازيغية الأطلسية لدى آيت سكوكو على وجه الخصوص. للموت وللحداد طقوس خاصة لدى أمازيغ منطقة بيوس، يزيده البكاء ونحيب النساء بعدا تراجيديا مزلزلا للنفوس. وللمرأة الأمازيغية حضور قوي وضروري في الموت، وفي رسم معالم طقوس الحداد. وهذا ما يُستهجن في عادات وطقوس جماعات أخرى، بل ما تنبذه وتحرمه ما جد من العادات المشبعة بالتعاليم الدينية.
صراخ وعويل وشق للخدود وتمريغ للأجساد في التراب، مشاهد تؤثث فضاءات العزاء والحداد لدى قبائل الأطلس عموما و»إمرابضن» على وجه الخصوص. «الموت في قرية بيوس علقم بطعم خاص، تتقن نساء الميت لغته وفنونه السرية. للنساء الأمازيغيات حضور قوي في طقس الموت الذي يمثل لهن الحدث الجلل.» ص 213. والعزاء «يقال بلطم الخدود وتجريحها بالأظافر حتى تنحفر فيها الأخاديد التي لن تنسى ولن تندمل حتى يدركها عزاء آخر. « ص 213.
لا يخفي الحكي البيوسي مشاعر الرعب و الخوف والحزن التي كانت تنتابه أمام المشاهد تلك. «… أصوات النساء اللائي كن يصرن على مرافقة الجثمان المحمول على أكتاف المشيعين إلى مثواه الأخير … كانت تحدث رعبا في كيان بيوس الهش …»ص 213. «بكاؤهن يذيب أقسى القلوب وأعتاها صبرا، بل ويحولها إلى سيل من الدموع التي ينفطر لها الكون برمته.»ص 213. «يظل بيوس والتامي وسليم وآخرون يراقبون، بحدة وتأثر بالغ، هذه الأجواء الجنائزية وقلوبهم تكاد تنفجر في صدورهم من هول الأصوات المتقطعة التي تخرج متحشرجة من قلوب هؤلاء النسوة…»ص 213. «بكاء جدة بيوس… ينبعث من كيانها نفس قوي، سرعان ما يقذف من مقلتي بيوس دموعا صافية طاهرة كماء العيون المتدفقة من أعالي جبال الأطلس الباكية على مجدها الغابر.»ص 215.
حكي ينقل بصدق ذكريات الطفولة أمام الموت وهولها. لكن للحكي ، في الرواية، مسار آخر يضفي معقولية خاصة على طقوس الموت والحداد لدى أمازيغ المنطقة. إنها نظرة أنثروبولوجية تعلي من القيم الروحية الثاوية خلف هذا الطقس الموروث، وتبرز صدق ومتانة الأواصر الاجتماعية وترثي المجد التاريخي التليد»… هؤلاء النسوة اللائي لا يتركن الموت يمر دون أن يعتقلنه كشارد، أو سارق تائه أخطأ المسار وسقط سهوا بين مخالب ضحية غير متوقعة.»ص 213. «ردهن على الموت عنيف، ومزلزل، ورافض لهذا الزائر غير المرغوب فيه، الذي لا يستحيي الحياة ولا يحترم القلوب التي ألفت بعضها بعضا.»ص 213 .
«نحيب الجنائز يأخذ عند نساء بلدة بيوس صيغة أهازيج تطريبية، قادمة من عمق التراجيديا الأمازيغية التي ترى في الموت انتصارا للأرض على الإنسان، بل ونهاية غير سارة لهذا الكائن الذي يؤرقه الخلود والرغبة في المجد الأبدي…»ص 214. بل يصبح البكاء والنحيب نظما بليغا وغرضا ينضاف لأغراض الشعر والنثر، «بكاء الناس … قصائد في الرثاء والعتاب و اللوم، إنها مرثيات لا يمكن أن تنطقها سوى استعارات الشعراء، و بلاغة الروائيين الأكثر ترددا على العوالم السفلية للناس. بكاء نساء بلدة بيوس هو نقد حزين للموت…»ص 214.
البكاء في الحكي المقاوم هو قيمة حضارية كبيرة، «إنه البكاء الذي يطهر القلوب من لوثاث المدنية العاهرة التي تحتقر الرثاء، وتحاكمه كصنو للتخلف والانزياح عن السنن. بل إنه الإنسان الطيب، الذي لا يتخلى عن ماء مقلتيه، ولا يخون وجدانه، ولا يتخفى وراء صبر مصطنع، وأقاويل مستوردة من جفاء قلوب أهلها، أو خبث صانعيها. إنه تمرد وانتصار على هذه الأخلاق المنتحلة التي قهرت النحيب، وجعلت البكاء جريمة في حق العقل و السماء. «ص 214. إن طقوس الموت و الحداد، إذن، تصبح في الحكي المقاوم انكشافا واعترافا بالاختلاف، اعتراف تضفي عليه الكتابة والسرد المحبوك طابعا ماديا قابلا للتداول كوجه من وجوه تعددنا الثقافي.
لنعتبر جدل الحكي المتفرد والحكي المقاوم في تيمة أخرى، من التيمات الكثر اللواتي أثثن فضاء الرواية.هي العلاقة مع الآخر. تعلمنا العلوم الإنسانية، أن «الأنا» ينبلج بفضل «الأنت». من ثمة لا يكون الغير مفارقا للذات ولا برانيا عن هويتها وخصوصيتها. إن العلاقة مع الغير ليست فقط ما يؤسس الذوات في تفردها وبنائها النفسي والاجتماعي، بل هي كذلك ما يساهم في صك صروح الهويات وتحديد مستقبلها وفق تمثل الذات لها، فإما أن تكون علاقات محبِطة تذكي الشعور بالدونية وتدفع إلى النكوص والانطواء، وإما أن تكون محفِّزَة تساعد على تحقيق استقلال الذات، وإذكاء قدرتها على استشراف مستقبلها بإصرار.
تعج الرواية بالأغيار الذين ساهموا في بناء شخصية بيوس وإرساء معالم خصوصيتها، وسأركز، في هذه الإشارة، على العلاقة بالغير الغريب والأجنبي. إنها علاقة بيوس بنساء «بيدال» وسكان قرية مهندسي منجم جبل عوام من جهة، والسائحة «مارغريت» من جهة أخرى. إنها نفس الشخصية التي تعيش علاقتين مبنيتين على أسس مختلفة: تنبني الأولى على الاستغلال و الاستعلاء، والثانية على الاكتشاف والتعارف. في جميع الأحوال يحضر الأجنبي في حكي الوجدان بشكل متطابق مع تلك الصور التي تخبر عنها كتب مدرسة الزنجي.
غير أن نساء بيدال يثرن في نفسية بيوس مشاعر الكراهية والحقد والخوف، ومن ثمة يعمقن الميل نحو الرفض والنبذ و التباعد… «… مسارات أزقة قرية «تيغزى»، التي تغص بالروميات المتكبرات، المكشرات للعن كل صبية القبائل، الذين يتجرؤون على الاقتراب من فيلاتهن…»ص 304. «… إن هذه الساحرة ليست من جنس نساء بيدال اللائي يرفضن حتى النظر في وجوه أطفال «إرشكيكين» الذين استوطن هذا القوم مجالهم الترابي، وفضاءهم الجمالي، وها هن يغتنين من معادنه التي سيحولناها إلى أساور وحلي، وثروات ستصنع مجدهم المالي…»ص 304.
لكن سرعان ما سيحول الحكي المقاوم هذا الاستعلاء إلى مجرد جهل فظيع تذكيه نفسية متمركزة حول ذاتها. نفسية منغلقة توصد منافذ التفَهُم و الانفتاح والمغايرة. «كان بيوس يقرأ في عيون ووجوه هؤلاء النسوة جهلا فظيعا بسكان الأرض الأصليين، فلو كتب لهن أن يقرأن شعرهم… ولو اقتربن قليلا من خيامهم… وأعراسهم، ومآتمهم، لأصبن باندهاش قوي وهن ينجذبن نحو عالم من القيم النبيلة والأعراف الإنسانية الجميلة…»ص 304. وفي المقابل يعبر بيوس عن مشاعر الإعجاب بالسائحة الشقراء «مارغريت» قائلا: «ها هي الماردة الشقراء، صاحبة الابتسامة الهادرة، تجر، بخيلاء، ساقيها العاريتين والمفتولتين في انسجام مع جسدها الرشيق… إنه تمثال لمعبودة أسطورية، نزلت للتو من فوق عرشها…» ص 304.
سؤال سيهز كيان بيوس وسيجعله يعيد النظر في ماضيه و يعيش طفولته بأعين غير الأعين، سؤال مِن، «… هذا الجبل من الجمال، والمجد، والكبرياء، والنظافة، والرائحة القاتلة التي تهدئ من روع الرضيع قبل أن تنال من قلب شبل أطلسي ضائع… ما اسمك أيها الطفل الجميل؟»ص 306. نعت لم يألفه أطفال الأمازيغ لأنه توصيف لا يليق أن يلصق بالرجال، لكنه، من ثغر ماردة شقراء، بلسم مضمِّدٌ لجراح طفولة تائهة بين أمجاد الماضي وبطولات الآباء، وانتكاسات الاستقلال وزمانه. كيف يكون بيوس «… طفلا محبوبا من لدن هذه الماكرة التي جذبته نحو طفولته، وأيقظت فيه تعلقا بسن كان يبحث عن كيف يتخلص من عبئه مبكرا…»ص 307.
صراع نفسي وحيرة طفولية أمام نرجسية رجولية تكره الطفولة و الجمال، صراع وحيرة سيفككهما الحكي المقاوم لينتصر للطفولة والجمال. «… فأن تنادي الغجرية بيوس بالطفل الجميل، كانت كمن جمع في كلامه بين المدح والقدح، أو بين الرفعة و الخسة أو بين الاعتبار والاحتقار. لكن بين الرومية و هذه المعايير مسافات ضوئية، وأمكنة ملحمية بين الخيال والتاريخ، والثقافات المتناقضة. لهذا سيحتفظ بيوس بطفولته وسيطلق جماله الذي كان سببا في العذاب الأليم الذي أذاقه إياه الحكيم يوم أراد هذا الأخير أن يحطم صورة زوجته الأمازيغية الفاتنة، وهي ترسم رويدا رويدا على وجه بيوس الذي يشبه أمه حد التطابق.» ص ص 308،309.
الحكي المقاوم، إذن، كمن وضع الذات أمام مرآة ذاتها تتفحص في الضعف مكامن القوة وفي الكبوات نقط الارتكاز و الانطلاق. «إنها بداية حصص سيتدرب خلالها بيوس على التصالح مع ذاته خفية في تواطؤ سري مع «مارغريت»…»ص 309. مارغريت هي علاقة من بين العلاقات التي أسست هوية بيوس. مارغريت سحابة عابرة، لكنها « آخر» بيوس، وإن كان الآخر هو الجحيم كما قال سارتر، فإنه المرآة التي بدونها لن تؤسس الذات تمثلا مغايرا عن ذاتها، ولن تكتشف أبعاد ذاتها. إنها علاقة محفِّزة ومرتكز لانطلاقة جديدة لبناء ذات وهوية قادرة على استشراف مستقبلها بثبات.
إن أفق الحكي المقاوم يجعل من الخاص والمتفرد مطية لملامسة العام و المشترك. رواية بيوس دعوة للانفتاح وصرخة ضد الانغلاق والتعصب. إن الهوية الثقافية ليست في المحصلة إلا هويات وقد تلاقحت تصارعت و استسلمت بوعي أو بغير وعي للعبة التأثير والتأثر. إن الأدب المقاوم، في هذا الباب، هو استنطاق للمسكوت عنه وتسريح للمكبوت لنشره في الساحة العمومية ليصبح متداولا. إن الأدب المقاوم إبداع يطهر النفوس من نرجسيتها واستعلائها وتعصبها. إنه تقويم للتمثلات في أفق بناء هوية منفتحة تأبى التعليب والتوحيد و النمذجة، هوية تتشبث بالخصوصية نعم لكنها تعترف بالاختلاف، هوية تلحد بالأصل النقي والجذر الصافي وتؤمن بالتلاقح و الاختلاف والمغايرة. إن الأدب المقاوم بهذا المعنى، مساهمة جادة في بناء مجتمع متصالح مع ذاته مجتمع الديموقراطية وحقوق الإنسان.

باحث، مدرس مادة
الفلسفة، وفاعل مدني

 

 


الكاتب : المصطفى تودي

  

بتاريخ : 19/09/2020