تبدأ رواية ” الحي العتيق ” لعزيز الساطوري، وهي باكورة رواياته حسب ما صرح لي به شخصيا، والتي تقع في 217 صفحة من الحجم الكبير، بتسليط الضوء على سبعينيات القرن الماضي في حي من أحياء مدينة الدار البيضاء ألا
وهو زقاق من أزقة درب غلف ـ الحي العتيق ـ بكل ما لهذه الفترة من سلبيات وإيجابيات وتداعياتها على “ميتروبول ” كالبيضاء .
وتعتبر الوقائع التاريخية الحقيقية للمغرب بمثابة اللقطات الواقعية ـ كما في السينما ـ فمن سنة 1976 مرورا بعدة وقفات تاريخية كقضية إضراب 1981
وإضرابات ما يسمى بالربيع العربي، وكوفيد 19 و “الحريك” إلى أوربا .. بالإضافة إلى أسماء ذات طبيعة تاريخية وواقعية كعبد الرحمن اليوسفي ـ الوزير الأول السابق ـ وحدو جادور ـ المتسابق المغربي السابق ـ فمن خلال هذه الأحداث والشخصيات حاول السرد تسويق تاريخ البلد، كما فعل المصريون لتسويق تاريخهم المجيد، عبر كتاباتهم و تلفزيونهم . لقد فعل السرد ذلك وحاول ربط تاريخ زقاق، أو حي، بتاريخ بلد بأكمله.
وإذا كان السرد يتغيى الواقعية، فلقد حاول ضمير المتكلم ـ أنا ـ ذلك الطفل الصغير الذي ساوق سرد الأحداث بعقلية الكبير والمجرب المحنك من خلال مرويات الكبار، واستغل الراوي مثلا، الأقاويل التي تروج بين سكان الزقاق ـ وهي لفتة ذكية من الكاتب ـ في حين كانت أقوال خال الطفل هي القول المنطقي ـ في نظري ـ والذي ساهم في نضج الصغير، و إذا أراد الحديث عما يحكيه الجميع دون مبرر منطقي لجأ إلى حديث السطوح ونساء الزقاق. وإذا أراد الحديث عن الأحداث وربط النتائج بمنطقية بالمقدمات، تحدث عن آراء الرجال في الفرن وجلوسهم لشرب الشاي والتدخين. وإذا أراد أن يكون كلامه أكثر منطقية، تبنى قول خاله الحبيب … الذي كان يقطن معهم نفس الشقة ويتخذ من غرفة في الأسفل ـ غرفة القصب ـ مضجعا وموئلا له .
فالسارد يقول مثلا : “..ولم تجد هذه الأسئلة أجوبة من مصدر موثوق .. ” . وحتى إذا كان السارد غير حاضر في حدث ما، ذكر ذلك بقوله: ” فهناك دارت معركة لم يشهدها أحد، ولكن صداها وصل الجميع ..” أو حين يقول متحدثا عن ” سميرة ” قبل مقتلها، ودون أن يشير لشخص بعينه تحدث عما يقال وما يدور من أحاديث وأقوال: ” أما الذين لم يقتنعوا، فقد ذهبوا بخيالهم أبعد من ذلك
وأشاعوا أنها ارتكبت جريمة لتختفي في غرفة في السطح.. غير أن أغلب سكان الزقاق اعتبروا ذلك غير منطقي ” الصفحة 41 من الرواية.
هذه هي سميرة التي سيتحدث السرد عنها وتوحد الحكايا كخيط رابط بين حكايات الحي العتيق .. فهي جاءت للزقاق باحثة عن حضن دافئ ليحتويها حول من لا تعرفهم ولا يعرفونها ولكنها رُفِضت من الرجال رغم جمالها وغنجها، لقد رُفضت منهم قبل أن تَرفضها النساء، فقيل إنها اتجهت صوب الشباب، وهنا سيذكر السرد شخصا بعينه، شخصية ” نجيب ” ابن الحاجة “الزوهرة ” الذي كان في العشرينات من عمره، رزقت به الحاجة الزوهرة بعد أربع بنات تزوجن كلهن وغادرن الزقاق، وبقي لوحده مع الحاجة بعد أن توفي والده، والطفل مازال في عمر 10 سنوات .
لقد كان السرد كثيفا لدرجة أنه يغلب المتلقي المفترض ـ كما يبدو لي ـ وهو بذلك يحاول أن يشيد البناء الدرامي للحكاية، فالتركيز يكون على شخصيات دون أخرى، لكون السرد يركز على زاوية نظر على حساب أخرى. كما في المقطع الذي يتحدث فيه عن شخصيات لم يكن لها دور كبير في البناء الحكائي ، فلم يركز عليها يقول السارد : ” .. فبعد أيام قليلة حلت بالغرفة عائلة معها رضيع .. غير أن المقام لم يطل بهما، فبعد حلول فصل الشتاء لم يتحملا برودة الغرفة ، وخافا على رضيعهما أن يصاب بمرض فانتقلا إلى زقاق آخر ..” ص 39 وفي نفس الصفحة سيقول : ” .. قضى العازبان زهاء سنة و نصف ، ثم فجأة رحلا ”
وكما هو شأن عزاب آخرين حلوا بالزقاق وغادروه، دون أن يعطي السرد لهم أسماء ولا ملامح : “.. اكترى الغرفة هذه المرة ثلاثة عزاب جميعهم في العشرينات من العمر، وكانوا من الرعونة ما أدى إلى استنكار جماعي للجيران …”
كان الواقع حاضرا بقوة، لدرجة أن المتلقي المفترض ـ العادي ـ سيصعب عليه الفصل بين الكاتب والسارد والشخصية، وينظر إلى الرواية بواقعية ـ أي كحقيقة وهي غاية الرواية … كما فعل المواطن المصري مع نجيب محفوظ وهو يقرأ رواية ” أولاد حارتنا ” فيحسبها رواية تدخل ضمن السيرة الذاتية ودون أن يجعل منها مادة أدبية ذات طابع تخييلي ـ وهو الأساس ـ نظرا لواقعيتها المفرطة،
وبما أنه لا يعرف إلا ما يثيره التداول كوضع أيديولوجي .. والمصيبة ستكون أكبر إن كنا ـ كمتلقين ـ ندرك الواقع من خلال نظرة الآخر، أي أن قراءتنا هي الثانية أو الثالثة .. بمعنى أننا نقرأ الرواية بنظرة الآخر وليس بأيديولوجيتنا الخاصة لإدراك المعنى و الدلالة.
نفس الشيء بالنسبة للطفل ـ كسارد ـ في رواية ” الحي العتيق ” ينظر إلى الأشياء كما يراها الآخر، وعلينا أن ننتظر طويلا، حتى لا نكاد ننسى، حين سيغدو كبيرا أننا، إما ، أمام نظرته هو فعلا أو نظرة الكبار أي كما يراها الآخر .. نعم ، يقال : إن الإنسان ابن بيئته ، و بالتالي فهو لا يعطينا سوى إعادة إنتاج لتربيته مادامت تؤثر فيه تربيته وتجارب حياته عامة بما فيها المسجد والمدرسة، ووسائل التواصل كالتلفزيون والجرائد والأنترنيت ..ولكن بنظرته هو ـ وهذا هو الأساس ـ أساس التجديد والمستقبل والنظرة الخاصة، تلك النظرة التي ستعطينا معطى آخر يمكننا ـ نحن القراء ـ من تلك النظرة الجديدة، سيميوتيقيا، نرى منها أيديولوجيا أخرى ودلالة خاصة، وبِسَنَن خاص يبرز إمكانات سردية كثيرة ينتظرها القارئ بتلهف وهي في نفس الآن تُوَسّع أفق انتظاره .
إن ” حكايات الحي العتيق ” لعزيز الساطوري، رواية تجعل المتلقي أمام سرد باذخ جدا لدرجة أننا نريد ألا تنتهي أحداثها، حين تبدأ غيوم الشخصيات تنقشع، وهو ما يبدو عليه الحال كلما توغلنا في القراءة ، لدرجة أن القارئ المفترض يحارب الظروف حتى لا تكبر الشخصيات لتكون نهاية الرواية بنهاية شخصياتها التي سيغيبها ـ لا محالة ـ الموت، وهو الشيء الوحيد الذي ساير فيه أفق انتظار القارئ المفترض، الكاتب، ولا أظنه إلا من باب سقوط الحافر على الحافر .