من بَدائه السرد ، ان كل نص سردي مُخترق ومسكون بالجسد بدلالته الانطولوجية العامة . أي مسكون بالشخصيات les personnages كمكوّن أساس ومحوري متعيّن في فضاء النص من خلال الدّال اللغوي .
لكن العبور من ظاهر الجسد وسيميائيته الخارجية ، إلى سبْر حميميته وذاتيته والغوص في سيكولوجيته وفك شفراته ، يضعنا تجاه الدلالة الحسية – الإيروسية للجسد ، ورمزيته الثقافية والاجتماعية .
وما إن نتلفظ بكلمة جسد ، حتى يحضر هذا الإيروس كمعنى حافّ ومصاحب ، حسب الاصطلاح ا للساني .
من هنا يحيل الجسد مباشرة إلى المحظورين ، الدين والجنس ، ويضعنا في قلب الثنائية الضدية – الملغومة . ثنائية المقدس والمدنس .
ولعل ملفوظ الجسد والسرد ، يحُوم حول هذه الضّفاف الدّلالية . ولا يكتمل جسد السرد إلا بجسد المرأة ، على هذا النحو أوذاك .
وواضح ان الروايات والسُرود التي تقارب الجسد ، تخترق في الغالب خطوطا حمْرا ، وتقتحم التابو الأخلاقي – والاجتماعي .
ومعظم الروايات التي قرأناها عربيا وغربيا ، هي روايات أبيسية ، يحضُر فيها
الجسد الانثوي من خلال رؤية ذكورية ، للرجال فيها حضور وهيمنة ، وصولة وجولة .
لكن في العقود الأخيرة ، بدأنا نقرأ روايات نسائية – أميسية ، يحضر فيها الجسد من خلال رؤية أنثوية ، للنساء فيها حضورٌ وهيمنة ، وحساسية جسدية وسردية من طراز خاص .
وبعض هذه الروايات كانت جريئة في اقتحام تابو الجسد وخطوطه الحُمْر .
ونفكر هنا بخاصة في روايات ليلى العثمان وأحلام مستغانمي وسلوى النعيمي وغادة السمان وفاتحة مرشيد ورجاء الصائع وحنان الشيخ .. ولا نحصيهن عدّا .
وربّما أنزع هنا عن هاجس أبيسي ضارب في الأغوار. وكلّ بطبيعة الحال ، ينزع عن قوسه .
في مساق هذه الروايات العربية – النسوية ، تأتي رواية ( ساق الريح ) للكاتبة ليلى مهيدرة ، لتقارب بدورها تيمة الجسد ومن منظور نسوي ، بحَذر واحْتراس ومن وراء حجاب إبداعي ، متحاشية هتك الستار وخَلْع العِذار . بما يعني سيكولوجيا حضور الانا الأعلى جنبا لجنب مع جيَشان وموَران اللاشعور الإيروسي . وبما يجعل بطلة الرواية الساردة – والمسرودة تعيش حالة انفصام شيزوفرينية بين الرغبة والتوجّس . بين الإقدام والإحجام .
كما يتعرّض السرد بدوره لشيزوفرينيا سردية تلتبس فيها الضمائر السردية وتتماهى وتغدوأنا الساردة أنا مضاعفة le moi en double ، تتحدث تارة عن نفسها بالضمير الاول أنا ، وتتحدث تارة أخرى عن نفسها بالضميرالثالث هي ، إذ تجعل من هذه الهي بطلة لروايتها المتخيلة . فتنشطر الشخصية لذلك إلى شخصيتين متداخلتين – متخارجتين وهذا ما تعلنه الساردة صراحة إذ تقول في ص. 47 /
( لربما أكون مصابة بانفصام في الشخصية ، وعقلي الباطني يداعب مخيلتي ) وثمّة عبارة بليغة تكثف هذه الشيزوفرينيا / ( وقفت أمام نفسي المطلة من مرآتي أستمدّ منها قوتي ).
وقد تجنح الساردة أحيانا إلى الضمير الثاني انت عبر السرد الحواري .
هكذا يغدو هذا التعدد في الرؤى السردية شبيها بلعبة استغماية سردية .أولعبة دمى سردية ، ضمير يخفي ضميرا .
والرواية لذلك ، وعلى امتداد صفحاتها ، تبدو منولوجا سرديا ملغوما بأحاسيس واستيهامات الأنثى . أنثى وحيدة ومنعزلة منطوية على رغباتها وصَبواتها الكتيمة – الكظيمة .
ومنذ البداية ، منذ السطور الأولى ، تفتح الرواية أفق الانتظار أمام المتلقي وتزرع نواة عقدتها – وتيمتها .
( .. بسبق الإصرار والترصد أقرر فتح الرسالة دون ادنى إحساس بتأنيب الضمير.
فالرسالة قادمة من مجهول وموجهة لامراة غيري ، ومع ذلك اقتحمت خلوة حروفها بشغف كبير وبانتظارأقلّ ما يقال عنه ، إنه شوق متخف في زيّ حب استطلاع .. ) ص. 7
تلك هي نواة الرواية المركزية التي ستتوالى عبر صفحاتها ككرة الثلج تزداد كثافة وامتلاء عبر رسائل متخيلة منه إليها ومنها إليه ، ضمن مشروع رواية متخيّلة . أي ضمن رواية تفكر في الرواية .
والمحصّلة ، هي رواية رسائلية أو تراسلية ، تنفّس فيها الساردة عن استيهامات روحها وجسدها.
منذ السطور الأولى أيضا ، تكشف لنا الساردة عن طوْق الوحدة والعزلة المضروبِ حولها .
فهي قاطنة في الطابق الأرضي من عمارة سكنية ( شبه فارغة إلا من رجل عجوز أجنبي ، وأسرة حديثة العهد بالزواج والإقامة ، وان باقي الشقق لم تُعْمر قط ..) ص. 7ولذلك تكون أول من يتلقى الرسائل .
حافز هذه الرواية إذن وهاجسها الأساس ، هي وحدة الساردة وعزلتها ، واحتقانها العاطفي والجسدي ، وتوْق أنوثتها لنصفها الآخر . توق الجسد للجسد .
تقول في ص. 42 /( لمَ تستثنيني الطبيعة من انوثتي وترغمني أن اعيش الوحدة حتى أموت صمتا ؟ )ومن ثم كانت الرسائل التي تسْترقها بين الفينة والأخرى ، بمثابة نافذة إغاثة لوحدتها وكُربتها ، فاستطابت فتحها وقراءتها وتماهت معها وكأنها المرأة المعنية . بل أضحت تغار من المرأة الأخرى المقصودة بالرسائل .
لقد حركت فيها الرسائل كوامن أنوثتها الهاجعة ، ودغدغت جسدها المُسيّج بليل الوحدة . وأنشأتها خلْقا جديدا .
( فهذه الرسائل المجهولة المصدر ، قد أذابت الجليد بداخلي ، وأشعلت شموع أمل
انطفأت منذ زمن ) ص . 12
وسأقصر هذه الورقة ، على رصد بعض التجليات الجسدية لأنثى هذه الرواية –
الساردة – الحالمة التي تحمل اسما رمزيا دالا ومفخّخا هو « حلم « .
ذلك ان الرواية تدور من ألفها إلى الياء ، في فلك الحلم والمتخيّل .
وعلى امتداد الشريط السردي ، نحس بالاحتقان الداخلي للجسد وصبواته الليبدوية الدفينة .
وثمّة مدارات ومنافذ جسدية – اسْتعارية أثيرة ، يلوذ بها الجسد لتصريف احتقانه ونقْع غُلّته .
كالبحر ، وسقف الغرفة ، وفنجان القهوة ، والشارع ، ومكتبة الرصيف ..
إن هذه المدارات والمنافذ ، تتكلّم لغة الجسد وترشح به . ويجد فيها الجسد ضالته
ومتخيله ونصفه الغائب . نصّه الغائب .
وتبدو لذلك ، علامات وأيقونات سردية متواترة الحُضور في النص الروائي .
تبدو مهيمنات dominantes ناطقة بلسان الجسد .
وأظن ان الإنصات للنص ، كاشف عن هواجس النص .
عن علاقة الجسد بالبحر ، نفْتلذ الفقرة التالية من ص .53/( ..وأنا على شاطئ مدينتي ورياحها العاتية ، فأمارس لعبة التعري طبقا لقانونها ، فأتمنع وانا الراغبة ، وأرتمي في حضن موج يجيد ملامسة الأنثى بداخلي . جسدان من ماء ونار . يحتاجان ليرسما ثورتهما علنا في لقاء عنيف ..)
كأنّ البحر هنا يتجسْدن ويتعرّى أمام جسد الانثى . كأنها امام فحولة البحر .
وعن علاقة الجسد بسقف الغرفة ، نفتلذ الفقرة التالية من ص. 46
( أصحو وبداخلي شوق عارم للرسائل ولباعثها . لا أدري لمَ . في يوم عطلتي بالذات يتملكني هذا الكم من الاجتياح لمشاعري . ليغرقني حتى النخاع في الأحلام .
ربما لأنه اليوم الوحيد الذي اجدد فيه العناق مع سقف غرفتي ، وأنا متمددة على فراشي .. ) .
إن هذه الفقرة لوحدها ، تحتاج لقراءة سيميائية – تأويلية لفكّ شفْراتها والغوص في السيكولوجيا المتلبّسة للجسد / سقف – تحت – عناق – فراش .. الخ
وأنا هنا أجمل ولا أفصل . وأشمّ ولا أفرِك .
بيد ان العناق الفعلي الذي تحقق لهذا الجسد ، تمّ خلسة وفي العتمة ، وفي حافلة متجهة إلى الرباط ، مع جليسها الشاب ذي العقال الفلسطيني المنسدل على كتفيه .
لم يكن هذا الوصل العابر ، إلا خلسة مختلس . بما ينمّ عن أن أنثى ( ساق الريح ) موزعة بين إيروسها الخاص التواق للانطلاق ، والتابو الاجتماعي الواقف بالمرصاد .
أي بما يكشف أنها تمارس ذاتها وجسدها من وراء حجاب .
وتلك بالضبط ، هي الشيزوفرينيا الشقية الآخذة بخناق المجتمع .
تلك هي الرسالة المضمرة خلف السطور .
إن الجسد هنا يمارس نميمة ثقافية – اجتماعية .
لهذا يبقى الشارع فضاء فسيحا للتنفيس عن ذاتها ومكنوناتها ، واستدعاء استيهاماتها وأخيلتها . فيغدو العالم الخارجي مسرْبلا بعالمها الداخلي الخاص .
ويخرج الآخر ، فارس الأحلام الساكن في ذاكرتها ووجدانها ، من تضاعيف الرسائل تارة ، ومن تضاعيف رواية تارة أخرى ، ليتأبّط ذراعها في شوارع مدينتها .
كما تبقى مكتبة الرصيف ، منتجعا ثقافيا – تعويضيا أثيرا للساردة ، يحرّرها من احتقاناتها وإحباطاتها الداخلية ، العاطفية والجسدية .
من هنا تحضر الثقافة ، والعلامات الثقافية والانتقادات الثقافية بجلاء في هذا النص.
ولربما كانت الثقافة هي عزاء وسلوان الساردة في وحدتها وعزلتها . وهي البلْسم المخفّف لتوقها العاطفي والجسدي . هي التصعيد السيكولوجي لهذا التوق ، أو هي ضرب من التطهيرCatharsis حسب أرسطو ، إلى جانب كونها امتيازا ذاتيا .
يبدو بناء هذا النص الروائي المتوسط الحجم ، من قبيل السهل الممتنع .
إذ يبدو بوحيا – منولوجيا وانسيابيا في ظاهره . لكن عند التوغّل في قراءته ومتابعة رسائله والتقاط الرسائل الثاوية في الرسائل ، يبدو نصا مركبا حلزونيا وملتبسا .
إن الالتباس والتداخل هما سمته السردية – البنائية . كما ان الاحتقان العاطفي والجسدي ، هو سمته التيماتيكية والدلالية .
إنه محفل سردي تتداخل وتتماهى فيه الأزمنة والأمكنة والشخوص ، وتتقاطع فيه المشاهد الاجتماعية مع الانطباعات الذاتية والمداخلات الثقافية ، بدون خيطية حدثية – وبنائية ، وحبكة ناظمة ولاحمة .
هو محفل منولوجي في الأساس يعتمد آلية التداعي الحر والتخييل الذاتي من ألفه إلى الياء ، بالمعنى الذي يعطيه سيرج دوبروفسكي لمصطلح التخييل الذاتي autofiction كتوسعة خيالية روائية للسير – ذاتي .
وهي آلية سردية سمحت للساردة بنفض مكنوناتها ومخزوناتها على السجيّة وبلغة
تنُوس بين النثر والشعر ، بين السرد والشعر . وفي الرسالة الأخيرة استهلال شعري في قالب رسالة شعرية . وغير خاف أن الكاتبة شاعرة وقاصة أيضا قبل أن تجنح صوب الرواية .
مع ملاحظة نقدية أساسية ، وهي أن هذه الرواية بنفَسها السردي ،تتحرك في منزلة وُسطى بين الرواية roman والقصة nouvelle ، وكان في إمكانها أن
تؤتي أكلها سائغا وكاملا ، لو نضجت على نار هادئة ، وخضعت لبرمجة سردية متأنية الصنعة.
إذ تبدو السيولة المنولوجية هي الآخذة بعنان السرد . كما تبدو رسائلها الأربعقريبة من اللوحات القصصية .
وكلّ هذا البوح السردي ، أخيرا ، العاطفي والجسدي المنداح عبر رسائل هذه الرواية ، كان أضغاث أحلام . وذهب آخر المطاف ادراج الريح .
ذلك ما اختُتمت به الرواية في سطورها الأخيرة /( ما لي والحيرة وقد انتهى كل شيء .والرواية التي عشت زمنا أرص حروفها حررتها ريح عابثة ، وتركتني على جنباتها راوية لرواية لن تروى ) ص.94
وذلك ما يلقي الضوء على عنوان الرواية ( ساق الريح ) .
فسواء أكانت لفظة ساق هنا فعلية ، من ساق يسوق سوقا ، أو اسمية من الساق ، فإن الريح بدّدت كل الأخيلة والأحلام التي سبحت في أجوائها الساردة «حلم» ، وأضحت قبض ريح .لكنها لم تبدّد الحروف والكلمات . لم تبدد الرواية .
وذلك هو الكسب الإبداعي للساردة .
إحالة :
– ليلى مهيدرة / ساق الريح – ط. 1 -2015 – مؤسسة الرّحاب الحديثة – بيروت
/ لبنان