لا شك أن من يتابع المسيرة الإبداعية المديدة لأحمد المديني، بدأت عند نهاية الستينات من القرن الماضي، وتواصلت بلا انقطاع إلى الآن، سيقف متطلعًا ومتسائلًا، كلما صدر له عمل قصصي أو روائي، أيَّ جديدفي طيِّه، هل اكتفى بالتنويع جماليًّا ودلاليًّا على تجربة جمالية سابقة لم يستوف كافة احتمالاتها، فاحتاجت الى المزيد من السبر والتغوير؟ هل سيرتاد المحال مطلبه، فيذرعَ أرضًا لم تُطرق، يختبر إمكانات جمالية لم يسبق أن فتقها في ما سبق أن كتب؟
استوقفني بداية عنوان روايته الجديدة:»لعبة الكراسي، رواية مجنونة»(2025، المركز الثقافي للكتاب). يؤدي العنوان وظائف عدة أكتفي بالتي تجعل منه إعلانًا مسبقًا عن طبيعة النص الذي سنقرأ، قد يكثف شكله ويختزل معناه. كلمتان في العنوان تثيران فضول القارئ، وتشرطان بلا ريب تلقيه المنتظر للرواية: اللعبة/ اللعب ثم الجنون. لا يبدو الأمر مفاجئًا لمن اعتاد قراءة أعمال المديني، فرواياته، كذا قصصه، عادة ما تستخف بضوابط العقل والصواب وسْمُها الخيال الجانح وديدنُها، واللعب بالحدود بين المعقول واللامعقول، المدرك وما لا يُدرك، الواقعي واللاواقعي..الخ، هواها ومنزَعُها. لكن أن يُثبت الكاتبُ الجنونَ صفةً للرواية، ويشهره علنًا على ظهر الغلاف، بدل أن يدع القارئ يكتشف بنفسه ذلك ، لأمرٌ يُذكي الفضولَ ويستحثُّه. ثمة شيءٌ غريب يلوح في أفق الرواية. فما هو؟
نفتح الرواية، نقع على صفحة تخبرنا بمحتوياتها (الفهرس) . العناوين أو ما يبدو كذلك، يتواتر فيها اسم اللعب، كل فصل لعبة، احتسبنا عددها:اثنا عشر لعبة. تليها خارج الحساب، فسحة وسط اللعب؛ لعبة تافهة؛ لعبة داخل لعبة؛ لعبة اللعب؛ ألعاب في الوقت الضائع؛ لعيبة 1 ؛ لعيبة 2 إلى ما لانهاية. ما سنقرأه إذن لعب، سيأخذنا من بداية الرواية إلى نهايتها أو لا نهايتها.
الظاهر أن الكاتب يدعونا للعب ( لأحمد المديني مجموعة قصصية عنوانها « هيا نلعب»)، فهل نتأهّب له ونقبله؟ قد يتوقف الأمر على طبيعة اللعب الذي دعينا إليه ، على حجمه، سعته ومداه، هل هو لعب «بعقلو»، كما نقول بالعامية، أم لعب قد « يلعب» بعقولنا. نطوي الصفحة الموالية. تصادفنا قولة للروائي الأمريكي الراحل بول أوستر: «أريد أن أقلب كلّ شيء، رأسًا على عقب». هي قولة تندرج حسب الرطانة النقدية ضمن مكونات النص الموازي، لها متكلم فعلي هو بول أوستر، ولها أيضا متكلم ضمني، تبناها واعتمدها وضعها على عتبة روايته، لتنطق باسمه وتُشعر بقصده. نخاله كاتب « لعبة الكراسي»، يريد بدوره، شأن بول أوستر، أن يكتب ليقلب الأشياء ويُشيعَ الفوضى في نظامها المفترض. ترتسم سماتُ الجنون، اللعب، والقلب ( قلب الأشياء) على العتبات الأولى للرواية، وتشعرنا أننا مقبلون على قراءة نصٍّ قد لا تسلم منه عقولُنا وأفهامُنا. يتنامى الفضول، يشتدّ ويقوى بعبور عتبات الرواية. نطوي الصفحة الموالية، لنقف على فصل أول عنوانه « ديباجة».
هي فاتحة الرواية، بيانها المشهر، يمثل أولا خطابًا حول رواية «لعبة الكراسي»، ثم ثانيًّا تكثيفًا لتاريخ الرواية، منذ أشكالها الأولى البسيطة، إلى أشكالها المعقدة، المركبة، في غرب القرن التاسع عشر بأوروبا، ثم إلى عهد الشك، في زمن ما بين الحربين، قبل أن تتشيأ مع الرواية الجديدة بتشيِئ الرأسمالية للعلاقات والقيم. يخصُّ هذا الخطاب، بالكثافة والتركيب ذاتهما، تاريخ الرواية العربية، ببنائها الواقعي المتماسك زمن الخمسينات والستينات، قبل أن تذرُوَّه هزيمة حزيران 1967، طوّحت باليقين، وأفرزت معادلًا جماليًّا، سِمتُه التشظي شكلًا ومعنى.
تخبرنا الديباجة أن الرواية كُتبت من جملة واحدة، وبنفَس واحد، وبدون ترقيم. الفصول فيها ليست نظامًا، بل وقفات استراحة، تستمر بعدها الجملة الروائية الواحدة، منسربةً كالأفعوان.في هذه الرواية تتعدد شخصيات وتتشعب مساراتها، أما محكياتُها فتتدرّج لولبيةً مجزّأةً، متفرعةً، تلتقي ثم تفترق، وما يبدو نهاية، يُفضي إلى بداية تستأنف من جديد.
تُعلمنا الديباجة أن قلة من القراء ستتحمل قراءة رواية بهذه الصفات، وما وُضع من رشم وتذكير بعلامات، لن يحد من تيه القارئ وضياعه: «وستتيه وينبغي أن تختلف عليك الأسماء والعلامات والطرقات لأنه سرد مضاد لليقين» .
يبدو الخطاب حول الرواية، من جهة أخرى، نوعا من شرعنة الرواية لذاتها، بحرصها على وصل صنيعها بحداثة متأصلة، روادها»رامبو وجويس وبروست وكافكا ومحفوظ، أيضا»، يعترف الكاتب أنه مَدينٌ لهم جميعا بعد أن « ارتاد التجريب مبكّرًا ولم يفارقه، هو عنده في فن السرد النضجُ في صوغه وتخييله وحيازة أسلوبٍ وتخطّيه» ص13.
نكون الآن قد عبرنا العتبات، وتهيأنا مخفورين بتوقعات غامضة، لقراءة «لعبة الكراسي»، كي نعاين نصيا ما أعلنه العنوان، وأوحى به التصدير ومهدت له الديباجة. فأي جنون يتهددنا إذن؟!يمكن للخطاب حول الرواية أن يسلمنا بعض مفاتيحها،»تساعدنا» على فتح مغاليقها المفترضة، إنما يصعب أن يكون بديلا، نستعيض به عن العلاقة المباشرة والمجازفة بالرواية.
بدت الأخيرة منذ سطورها الأولى فعلا جملة واحدة، دَفقًا متصلًا، تنتفي منها العلاماتُ الناظمةُ للكلام، وتنحلّ فيها خطاطةُ التواصل، من قبيل سياق يؤطِّر، ومُرسِلٍ ومرسَلٍ إليه يتخاطبان بشفرةٍ متعارفٍ عليها، ومقامٍ وهويةٍ معلومين.
أسجل أني قرأت الرواية مرتين. في الأولى، مستكشفًا، أتحسّس حذِرًا حقيقةَ ما أفضت به عتباتُها. حاولت أن ألتقط في الطريق بعض المعنى.جمعت بعض شتاته.لعلي توفقت في التقاط إشارات، ورسم ملامح أولى لأمكنة ووجوه ووقائع. لكن وجدت حصيلتي زهيدة. شعرت فورًا بضرورة معاودة القراءة. أردت أن أتأكد من حدوسٍ وتخميناتٍ انتابتني، من أصوات تعددت وتداخلت، فالتبست عليَّ هويتُها. ومن وقائعَ ارتبتُ للحظة في حدوثها، هل هي حدثت فعلًا أم أنها مجرد تهيؤات، أضغاث أحلامٍ وهوامِ رؤى.
حاولت أن أجعل قراءتي الثانية أكثرَ إمعانَا وأوْغلَ استقصاء. عدت إلى حدوسي وتخميناتي، غرضي رصدُ هوية الأصوات، والتأكد من الوقائع والأحلام والرؤى، وكذلك من سمات الوجوه والأمكنة؛ لأنتهي فانتهيت إلى ما سأقتسمه معكم.
تجري وقائع الرواية في مدينة الرباط. مدينة وُسمت في كثير من مقاطع الرواية بالمدينة المغلقة خلاف نعتِها ب «رباط الفتح». مدينة أقفالُها عصيّة، هي «مدينة مغلقة بين المحيط والأسوار وإداراتٍ صمّاءَ يقطنها من هم أقرب إلى الأشباح منهم إلى البشر»؛ «مدينة بلا قلب» عنوان الديوان الأول للشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي(1959) كناية عن القاهرة؛ مدينة بلا صديق أو حبيب، الأفئدة فيها موصدة؛ لا رائحة لها وبلا حياة، « أشبه بضريح»، « بيوتها مصطفةٌ كالقبور مع بعض تباين بسيط في الشواهد».
لكن المدينة تبرز أساسا في الرواية، مسرحًا للمطامح والصراع المشتد حول المكاسب وحيازة المناصب والتشبث بها: هي حالة عامة تطبع العاملين في المؤسسات الإدارية والناشطين في المؤسسات المدنية (نقابات، أحزاب…)، تُشيع ما يشبه حالة عُصاب جماعي «كشفت في هذه المدينة أنك إما تتآمر مع جهة وأحد أو هناك من يتآمر عليك لا توجد وسائل تلهية ومتع متاحة فيتسلون هنا بهذا.».قاربت الرواية هذا الوضع الرباطي من منظور هزلي دافق وكاسح، جعلت الرواية أقرب إلى الملهاة، تحكي التهافت المضحك لأشخاص وجماعات، على حيازة الكراسي(المناصب) والتشبث بها، بشكل جعل الكرسي في الرواية مجاز المدينة الأكبر وعنوانها الدال.الأغلب والأعم. تظافرت المحكيات، تشعبت وتشابكت حول هذه النواة الصلبة، الكرسي- المغناطيس إليه تنشدّ الذوات، وتهفو على إيقاع عزف مزدوج بين الجذب والنبذ، الامتلاك والفقدان، بين الحبور والحبوط.
في قلب هذه المحكيات، شخصيتان رئيسيتان، الزوهرة، (زهيرو أو زيزو):تقدمها الرواية خريجة «المعهد العالي للصورولوجيا والدراما تولوجيا البانورامية من الجامعة الوطواطية»، وزوجها عليلو، الوافد على الرباط من بلدة بعيدة، اسمها «بوكليبة». تشخص المحكيات الخاصة بهما، الألاعيب والدسائس التي يمكن أن يلجأ لها زوج وصولي موتور للفوز بمنصب / كرسي رفيع: اندس عليلو مالك مواهب «الاحتيال والإضحاك»، مخبرًا في تنظيم سياسي يسمى حزب « البيان والتبين»، ثم ارتقى بسرعة ونباهة مراتبه، فأصبح في صدارة التنظيم، مناضلًا مدّعيا، ثم في زمن الاستوزار، ناور بمساعدة زوجته وأطرافٍ نافذة (مولاي الشريف) كي يحوز كرسيّ وزارة باسم حزبه. حين غادر عليلو الكرسي اضطربت حياته وانتكست، فصار يبحث عن منصب جديد لأن :»رأسه ظل ينغل وجلده يحكُّه ومؤخرتُه لا يعرف كيف يضعها في أي مكان».
تترى حكايات أخرى، تحكي من منظور يطفح هزلًا اللهفة، والشغف ذاته، لحيازة كرسي، شأن أستاذ جامعي، « أستاذ عريق راسخ مسؤول عن شعبة « دراسة الأنساق الثقافية الرمزية للبنيات الانتروبو سيميائية»، رابطَ في جنبات زاوية لدى قطبها المزواري، يطلب شفاعته ووساطته، كي يحوز بدوره كرسيًّا، ظن يستحقه بعد أن كابد مسارًا جامعيًّا طويلًا وشاقًا.
لعبة الكراسي، ستطول شخصيات أخرى، يسارية، مثل عماد الهاشمي، وياسين، اليساري الثوري الذي قبع سنينًا في سجن القنيطرة، قبل أن يتخلى عن موقفه الرافض، أدى ثمنه سنوات سجنًا، لنجدَه لاحقًا وقد حاز منصبًا رفيعًا واقتعد كرسيًّا، بمواصفات فانتازية، صُنع من خشب الأبنوس. تناسلت محكيات الكراسي، وتفاقمت أكثر في شخص الأمين العام لحزب، «البيان والتبيين». كان هذا المسؤول على وشك الفوز بمنصب مرموق بعد طول انتظار ومكابدة، خاب أمله، فاضطر بنصيحة من أطراف خفية إلى استطالة انتظاره، والقيام بتمارين رياضية في حلبة سباق الخيل، للحفاظ على لياقته وجاهزيته استعدادا لليوم الموعود.
مقابل هذه الفئات، تفرز الرواية جماعات رباطية نقيضة، على رأسها شخصٌ يدعى عمر كَزناي، تسكن الهامش ( شباب المعاضيد، دوار الدوم، دوار الحاجة، أوليدات التقدم..)، لا تستهويها لعبة الكراسي، خبرت زيفها، تشخَصُ في كوابيسَ تؤرّق ليل عليلو وتقضُّ مضجعه، في صفة جماعة ستنهي اللعبة وتلغي شروطها:» بالمناسبة لا كراسي بعد اليوم ولا خشب في السوق ستلغى الوزارات وتؤمّم الغابات لا جلوس بعد اليوم الكلُّ وقوفٌ أفق آش من وقوف ولا جلوس أنت تحلم لا هذا كابوس أغرب من الواقع يازوزي الكرسي تحتي هوَيْت هوَينا».
لقد انعكست كتابة الرواية بجملة واحدة على وضعية المتكلمين فيها. إذ لم تعتمد العلامات الطباعية التي تفرز عادة مستويات التلفظ وتراتب الملفوظات وتفاعلها. لذا يتجاور المتكلمون في السطر الواحد، ننتقل دون تعيين من صوت إلى آخر، قد يكون الساردَ حينا، والشخصيةَ/ الشخصياتِ حينًا ثانيًّا، والمؤلف حينًا ثالثًا. يصبح معنى الرواية وفق ذلك متحرّرًا من شرطية الانشداد التلفظي، القاعدة المرعية في تشكل الخطاب وتبلور معناه.
وبالانتباه أكثر إلى تشكيلةالتلفظ في الرواية، نلاحظ أن الزوج عليلو/ الزوهرة، لم يمثلا فقط دور شخصيتين أساسيتين في الرواية،بل اضطلعا أيضا بدور أساس في الحكي وتشكيل الحكاية بتقييم، اختيار أو العدول عن بعض مساراتها ومآلاتها. فكثير من فصول الرواية، نخالها وقائع مثبتة تحكى من طرف سارد الرواية، لننتبه في النهاية إلى أنها حلم أو كابوس داهَمَ نومَ عليلو المضطرب، أو هي حالات وأوضاع « يتسلى» الزوجان خاصة زيزو (المهندس الخفي للحكايات ص.171) في تصورها وصياغتها. لذا تنزلق المحكيات من وضع إلى آخر، وضع الوقائع المحتملة، ووضع الوقائع الحلمية، الفانتازية، فتصبح محكيات بهُويات زئبقية مهجّنة.
كما تلجأ الرواية في سياقات مماثلة إلى إضفاء طابع فانتازي بله كرنفالي على وقائع ومشاهد كثيرة: مثال المحطة/الفصل بعنوان « لعبة اللعب» ، يكثف عنصري اللعب والفانتازيا ويُصعِّد جماليتهما في الرواية؛ في هذا الفصل نُصبت شاشةٌ كبيرةٌ في «ساحة العلويين» بالمدينة، تعرض للفرجة مشاهد طريفة بإيحاءات متنوعة: مشهد جماعة الجلاليب البيضاء تعبر باب رواح؛ مشهد موظفين حلّوا بإداراتهم فلم يجدوا كراسي بمكاتبهم؛ مشهد الرجل ذي القعدة العريضة الذي يمكن أن يكون في الآن شيخ قبيلة، رئيس فرقة برلمانية، رئيس عصابة لتهريب المخدرات؛ مشهد الكرسي- الجنازة. الخ.؛ ثم في سياق آخر مشهد ملعب الفتح بالمدينة الذي استضاف حفلا دعا إليه عليلو بعد استوزاره، فملأ الساحة بالكراسي لاستضافة فئاتتهفو إليها وتسعى لمعرفة أسرار حيازتها ، في تصادٍ وتناصٍّ محوَّر وفكاهي مع مسرحية أوجين يونسكو « les Chaises»(1953)، ليبلغهم رسالة تكشف سر ارتقائه وفوزه بالكرسي العظيم.
والحال أن الفانتازيا في حكم الرواية، ليست مفارقة للواقع، أو نافية له، بل هي محايثة له، تثلمه وتفغره،»تلعب» به، تعجِّبه وتغرِّبه، كي يسطع بتمام مفارقاته ومنتهى عبثه.
وقد أمعنت الرواية في اعتماد الأساليب الممعنة في الإضحاك والتغريب والمحاكاة الساخرة، مثل اللعب بالأسماء، أسماء المعاهد والجامعات والشعب: المعهد العالي للصورولوجيا والدراماتولوجيا البانورامية؛ والجامعة الوطواطية؛ وشعبة دراسة الأنساق الثقافية الرمزية للبنيات الانتروبوسيميائية». أسماء الشخصيات: عليلو؛ زيزو؛ مولاي الشريف الأول والثاني، واللذان يدبران خفية لعبة الكراسي ومآلاتها؛ اسم الزاوية المزوارية التي تستشفع في الترقيات؛ اسم التنظيمات السياسية: حزب البيان والتبيين؛ حركة البلاّميين؛ ثم الصوغ البارودي لخطابات وبيانات التنظيمات والمؤسسات، والوسم الغروتسكي لهيآت شخصيات وأجسامها؛ منها هيئة عليلو: «شكله مفلطح، ساقاه قصيرتان وأعلاه منتفخ كالسارية، له قفص صدري عريض ووجه منتفخ يشبه أنفه لاعب البوكس، بأذنين مشرعتين مثل الصحون اللاقطة».
أعود إلى البداية، إلى السؤال حول ماذا تمثل رواية «لعبة الكراسي» في المسار الإبداعي المديد لأحمد المديني؟ يمكن لمتتبع إبداعه أن يفترض أن الكاتب يشتغل في رواياته وقصصه على إبدالات إبداعية متفردة ومتقاطعة في آن. وأظن أن «لعبة الكراسي» قد انتدبت أحد الإبدالات المتأصلة في أدب المديني، ارتسمت بعض ملامحها في روايات سابقة له مثل» العجب العجاب»، «هموم بطة»، «بلاد نون».
ويمكن القول إن»لعبة الكراسي» صعّدت جماليًا هذا الإبدال إلى حد الإيغال والتجاوز، والارتقاء به إلى مرتبة الإنجاز الفريد في جماع مدونته الروائية. فلم يسبق للمديني أن ألّف رواية كاملة بجملة واحدة، وبنفس واحد، قادها بدُربة وصنعة دقيقة، على الحافة الرهيفة بين التشظي والنظام، لينتج، وهذه سمة فريدة أخرى، رواية عن الرباط. أخالها مشروع كتابة ظل يختمر في ذهنه و شعوره وحواسه، يبحث عن» النبرة الفريدة «التي تقوده إليها، وتفتح مصاريعها لأدبه وفنه. أظن أنه وجدها في مجاز كبير، تفاعل في صنعه مع واقع محلّي أولا وأدب عالمي ثانيّا، وسكبه في ملهاة، ببنية سردية وتلفّظية مُطرّزة ومُركّبة.
رواية «لعبة الكراسي» لأحمد المديني فنُّ المُراوحة بين اللّعب والمجاز

الكاتب : نورالدين درموش
بتاريخ : 30/05/2025