رواية يوسف فاضل «حياة الفراشات» : مغرب السبعينيات: روائح الانقلاب ودموع الأمهات

في روايته الجديدة ” حياة الفراشات ” ، يعود بنا الروائي يوسف فاضل إلى حقبة الصراع السبعيني حول السلطة من خلال بطل الرواية أو الشخصية المحورية ” سالم “، الموسيقي والفنان المشهور الذي يعزف في ملهى ” دون كيشوت”، هذا الأخير ذهب إلى مبنى الإذاعة لتسجيل أغنيته الثالثة في بناية عتيقة اسمها زنقة البريهي بالرباط .
في الساعة الثانية والنصف من شهر يوليوز، سيدخل العسكريون ويطلبون من سالم قراءة البلاغ العسكري رقم 1 ” الجيش قام بالثورة “مباشرة على أثير المذياع. يقول سالم : ” عرجت على مقهى حسان لأشرب قهوة الصباح ، بانتظار أن يأتي موظفو الإذاعة …أدركت بعد مدة أنهم جميعهم في المقهى، لا ينتظرون تسجيل أغنية أو ملحمة تمجد بطولات الملك ، وإنما ينتظرون هبة ملكية ، ستأتيهم من القصر بمناسبة هذا النهار. في السنوات الماضية كانوا ينتظرون أمام باب القصر، الذين حصلوا على الهبات الملكية أصبح لهم دخل قار، واعتزلوا الغناء والتمثيل . يملكون الآن سيارات الأجرة وحافلات لنقل المسافرين . ويجلسون في مقهى ” لاشوب ” ، ويضعون رجلا على رجل ، ويسبون الفن والفنانين . ويسبون الحكومة ، لأنهم أصبحوا الآن يهتمون بالسياسة . وهؤلاء ينتظرون هبة تأخرت ، ليجلسوا بدورهم في مقهى ” لاشوب ” . ينسون الغناء والتمثيل، ويهتمون بالسياسة ، ويسبون الحكومة والبرلمان “. ص 28-29 .
سالم يريد أن يسجل أغنية في دار البريهي في العاشرة صباحا . رجل قصير القامة يمشي حتى النافذة ثم يعود ليقف بالقرب من الباب …ثم يلتفت إلى سالم ويسأله واش وصلو؟ والرجل، الموسيقي الذي اسمه سالم ، لا يعرف من وصل ومن لم يصل . في هذه اللحظة سالم سمع أولى طلقات الرصاص . (ص 40).
تجري وقائع الرواية في الدار البيضاء بين ساحة السراغنة ودرب عمر . وتتكون شخوص رواية يوسف فاضل من الأب عاشور له ولد “سالم” وابنة اسمها “حبيبة”، كان في الهند الصينية والتحق بالاتحاد المغربي للشغل ، يقطن في بيت من الطراز الأوروبي يعود لثلاثينيات القرن الماضي بشارع ستراسبورغ يطل على ساحة النصر وشارع لالة ياقوت . بعد تقاعده من النقابة تفرغ للسهر مع الأصدقاء الذين يأتون لشرب الخمر مجانا وهو يحكي لهم الأزليات والحكايات التي لا تنتهي ، وفي الحالات النادرة يذهب إلى الصيد في غابة بن سليمان.. أصله من دمنات “الواقعة ما بين الجبل والسهل” حسب وصفه.
أما حبيبة فهي امرأة كانت في الأربعين من عمرها عندما تعرفت على هاني، في طريقها إلى معمل النسيج ، كانا كلاهما يعبر ساحة السراغنة ، عند الفجر في هدوء وخطى حازمة، حيث يصف السارد مشهد اللقاء قائلا «….المرأة تتطلع إلى الوصول إلى معمل النسيج تحن أن تنجو بجلدها من مصيدة تعرف أنها ستقع فيها ، سواء اقترب المعمل أم ظل بعيدا … الشاب الذي لم يتجاوز العشرين اسمه هاني ، والمرأة التي ستحتفل في الغد بعيد ميلادها الأربعين ، في حالة ما إذا نجت ، اسمها حبيبة « ص 8 .
أما هاني فهو مصارع علمه خاله فنون « الكاتش « يقول : « جسدي معافى ، سليم ، في كامل لياقته …لست مصارعا محترفا .ليس بعد . ولكني كنت دائما مستعدا. كما قال خالي مصطفى : المصارعة تجري في دم هذا الشاب . خالي مصطفى مصارع معروف . قبل عام ونصف جاء إلى قريتنا ليعلمنا فنون الكاتش . وطيلة أسبوع تعرفنا على أنواع الحيل والقبضات المشهورة في هذه الرياضة . وقال للوالدة ، في نهاية الاسبوع الثقافي الذي نظمته دار الشباب ببن سليمان ، إنني مصارع جيد « ص 14-15 .
منذ بدايتها تتوالى أحداث الرواية وفق ضبط دقيق للزمن والتوقيت، وفي كل مرة يتم الإخبار باليوم وبالحدث في رغبة حثيثة للإيهام بواقعية الأمور، مثال: يوم السبت ، يوم الانقلاب – الأحد ، عيد الميلاد -الإثنين ، يوم الحب – الثلاثاء ، يوم النكسة . الأربعاء يوم السفر…بدأت الساعة السادسة صباحا وانتهت في الليل ، في وقت ما… كما تم توظيف بعض الأحداث وأسماء الشخصيات لنفس الغرض، حيث يلجأ السارد إلى التنقيب بين سطور الجرائد عن أخبار جديدة حول الانقلاب . جرد أسماء الضحايا . في القصر وأمام بناية الإذاعة الوطنية . أسماء الذين سقطوا خلال تبادل لإطلاق النار بالأسلحة أمام القيادة العامة للجيش . إعدام الضباط المشاركين في المحاولة الانقلابية … فيذكر شخصية العيساوي الذي « يملك حزمة من حافلات النقل بين الدار البيضاء وآسفي ، أهدتها له المقاومة ، رغم أنه لا يعرج ولا تنقصه يد أو عين . عندما زارنا في تلك المرة تعجبنا ، لأنه خرج من المقاومة سليما معافى ، كما لو كان في الحمام ، ولم تمس جسده الأبيض البض ، ولو شظية رصاصة عابرة (ص 183 ). كما تتم الإشارة إلى عملية إعدام الانقلابيين حيث يروي السارد قائلا: « ثم ظهر الملك على الشاشة . أعني على شرفة بناية السجن التي تظهر على الشاشة . محاطا بحاشيته . في يده منظار . من خلاله يتابع وقائع إعدام ضباطه ، عشرة ضباط ، وربما أكثر ، مرورا أمام فصيل الإعدام ، الواحد تلو الآخر . مع الوقت كله الذي تستغرقه العملية ما بين إخراج المقبل على الموت من زنزانته وجره حتى الساحة وربطه إلى العمود وتجريده من نياشينه وتعصيب عينيه وإطلاق النار عليه والـتأكد من أنه مات فعلا ، ثم جره خارج الساحة ، هذا كله يتطلب جهدا روتينيا . لهذا استغرقت العملية وقتا طويلا . ثم هناك من رفض وضع العصابة واستمر يحدق في السماء أم في وجه الملك ؟ الله أعلم . ص 202
تأتي شخصية هلال لتحكي في الصفحة 291 : « نحن لسنا قتلة محترفين . كأصحاب القسم السري الذي يسمى الكاب 1 والذين قتلوا وأحرقوا وسمموا عددا كبيرا من المواطنين بدم بارد . أنا والجنرال مجرد هواة . ولا تزال تجري في دمنا روح الانسانية التي تعلمنا في الكتب . نحب الثقافة والعلم . نحب كل ما هو مفيد لتغذية العقل …إنما أعرف أنني لن أصير أبدا قاتلا محترفا كأصحاب الكاب 1 لأن هذا مخالف لمبادئي».
يبقى لغز الرواية هو سبب موت سالم وسر جثثه : «ترفض حبيبة تسلم جثة أخيها سالم لأنها لا تعرف الجثة التي توجد في الصندوق ولا تعرف كيف مات ؟ وطلبت من سائق سيارة نقل أموات المسلمين فتح التابوت. رفض طلبها لأن مهمته هي نقل الموتى وليس فتح التوابيت. وبعد أخذ ورد يظهر سيدي أحمد ليقول «هذه الايام يبيعون نقانق من لحوم الكلاب، ويضيفون لها مواد كيماوية سامة. وهي التي قتلت سالم الذي اعتاد على أكلها عند باب مارشي الجمعة. تقول حبيبة عن جارها سيدي أحمد : « سيدي أحمد لا شغل له . هذا الرجل غامض، ظل دائما بالنسبة لي رجلا غامضا . وأنا لا أكن له أي مودة . الناس في الحي تحترمه وتقصده لهذا الغرض أو ذاك . موعد في المستشفى العمومي أو قضية في المحكمة أو الحصول على رخصة أو وثيقة إدارية ، لأن علاقاته متنوعة ومتشعبة . الأبواب كلها تفتح في وجهه ، لأن معارفه كثر . وعنده هاتف في البيت» . ص 297
تكتشف حبيبة أن الجثة ليست جثة أخيها سالم فهي لامرأة : «هل أذهب إلى العمالة، لأخبرهم أنني حملت من المقبرة ترابا غير تراب سالم ؟ وأسأل في الوقت نفسه ماذا تفعل جثة امرأة في قبره. أليس هذا أمرا مثيرا للعجب ؟ ويدعو إلى التساؤل ؟ على الأقل ليست أول جثة تختفي. مئات الجثث اختفت دون أن يظهر لها أثر. بعد أن أضرموا النار في المحطة ذلك الصباح قبل ست سنوات، توجهوا إلى المستوصف . عبثوا بمحتوياته كلها . قلعوا الأبواب والنوافذ، ورموا بالكراسي والأسرة من فوق السور، ثم أشعلوا فيها النار. لم يطلع النهار حتى كان المستوصف قد عاد إلى سابق عهده ، مطليا بالجير ، مجهزا لاستقبال النساء المتجمهرات عند بابه . مدير المستوصف ، فتح أمامهن الباب على مصراعيه ، متهلل الوجه ، حليق الذقن ، في وزرته البيضاء، الجديدة ، معتقدا أن الطلاء الأبيض كاف لإزالة آثار المجزرة .
تقول الأمهات «رأينا المروحيات تقصفهم ، ورأينا أولادنا يسقطون أمام باب المستوصف . ولم نستطع أن نأخذهم ، لأن الجنود منعونا . ولم نستطع أن نحصي عددهم ، لأنهم كانوا كثيرين، ونحن نريد أن ندفنهم قبل العصر» .ص367
صدرت رواية «حياة الفراشات» عن منشورات المتوسط- إيطاليا، وجاءت في 384 صفحة من القطع الوسط، وفيها يشيِّدُ يوسف فاضل « حياةً بأكمَلها، وإن بدت ناقصةً، إلَّا أنَّه نقصانٌ مقصودٌ تكشفهُ أيامُ الرّواية الخمسة: السبت وهو يوم الانقلاب، الأحد وهو يوم عيد الميلاد، الاثنين وهو يوم الحبّ، الثلاثاء وهو يوم النّكسة، والأربعاء وهو يوم السّفر، وقبل اليومِ الأخير، سنجدُ أنفُسَنا وقد عشنا هامشَ الهامِش، ولامسنا بأيدينا أقصى القاع في مدينةِ الدَّار البيضاء، وما من بياضٍ إلَّا لسيّارات نقل الموتى والنعوش وخِيَم الأعراس التي تتحوَّل إلى مآتم، لنتساءَل: كم هي خاسرة صفقةُ الحياة؟ وهل كلُّ شيءٍ نختاره سيكون الشيء الخَطأ؟
وقد كتبت منشورات المتوسط في كلمتها على غلاف الكتاب، إننا :
«ما أنْ نشرع في قراءةِ الرواية حتّى تنطلق من حولنا الموسيقى، تُداهمُنا من النَّافذة، من الجدران الصّمّاء، من ذاكرتنا المُنهكة. نتتَّبعُ خطى شخصياتٍ يتقمَّصُها الرَّاوي، بل نتشابك مع مصائر تلك الشخصيات وهي تمضي وتتقاطع وتنتهي على أرضٍ غير صلبةٍ، حيثُ الحبُّ المُشتعل، والمدينةُ المُلتهبة، والجنون المُتَّقد، حيثُ الحكاياتُ والأنغامُ والمقطوعاتُ الموسيقية الصَّاعدة مع دخَّان نادي «دون كيشوت» المحترق، والمتناثرة هنا وهناك كجثثٍ متفحِّمة.
يوسف فاضل روائي ومسرحي وسيناريست مغربي مواليد عام 1949 في مدينة الدار البيضاء بالمغرب.
يتوزَّع إنتاجه الأدبي بين الكتابة المسرحية والروائية والسيناريو، سُجنَ بين عامي (1974-1975) في معتقل مولاي الشريف في فترة «سنوات الرَّصاص» في المغرب، اشتغل بتدريس اللغة الفرنسية بمدينة كازابلانكا، وانضمَّ إلى اتحاد كتّاب المغرب عام 1982، وهو العام الذي تحوَّلت فيه مسرحيته الأولى «حلَّاق درب الفقراء» إلى فيلم أخرجه الرّاحل محمد الركاب. أصدر 11 رواية هي: «الخنازير»، 1983. «أغمات»، 1990. «سلستينا»، 1992. «ملك اليهود»، 1996. «حشيش»، 2000. «ميترو محال»، 2006. «قصة حديقة الحيوان»، 2008. «قط أبيض جميل يسير معي»، 2011. «طائر أزرق نادر يحلق معي»، 2013، والتي وصلت إلى القائمة القصيرة للروايات المرشحة لنيل الجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) لعام 2014 في دورتها السابعة. وهي الرواية التي حازت على جائزة المغرب للكتاب للعام نفسه. صدرت له كذلك رواية «فرح»، 2016. ورواية «مثل ملاك في الظلام» 2018. توِّج الكاتب بجائزة الأطلس الكبرى التي تُنظمها السفارة الفرنسية في المغرب عام 2001 عن رواية «حشيش».


الكاتب : مصطفى الإدريسي

  

بتاريخ : 10/04/2020