تفاصيل إنقاذ وثائق من تاريخ عائلات فلسطينية كبيرة

رولان دوما يحكي
عن رحيل جان جنيه..
ما بين الموت والدفن

 

 

عشرة أيام قبل وفاته، في أبريل 1986، بباريس، سلم الكاتب والمسرحي الفرنسي والعالمي جان جنيه، ثلاث حقائب خاصة، تتضمن وثائق غاية في الأهمية (تخص كلا من فيصل الحسيني وليلى شهيد وياسر عرفات، كان قد تمكن من تهريبها من مدينة القدس).. أقول سلم تلك الحقائب لمحاميه وصديقه الكبير، وزير الخارجية الفرنسي رولان دوما. وهي الحقائب التي سلمت في ما بعد للأرشيف الوطني الفرنسي، والتي أسالت مدادا كثيرا في كبريات الصحف والمجلات الفرنسية والأوربية والعالمية.
سيعود رولان دوما، في كتاب مذكراته، إلى بعض من تفاصيل علاقته بجان جنيه وصداقتهما، حيث سيصف بدقة لحظات وفاته ونقله إلى المغرب لدفنه في مقبرة صغيرة قبالة المحيط الأطلسي بمدينة العرائش، بوصية منه. مثلما سيحكي كيف تم تهريب تلك الحقائب الثلاث من فلسطين سنة 1984. وهو النص البليغ، العميق، الدقيق في الوصف، بلغة شفيفة، الذي ننقله هنا باللغة العربية إلى القارئ العربي والمغربي.

 

طلب جان جنيه مقابلتي في بداية سنة 1984. كان يأتي مرارا إلى مقر وزارة الخارجية (الفرنسية). من حسن الحظ أنني لست بوزارة العدل بساحة فوندوم، فأنا أذكر أنه حمل لي ذات يوم نسخة من مسرحيته «الحواجز» (التي قدم فيها نقدا لاذعا للمؤسسة العسكرية الفرنسية بسبب حربها في الجزائر)، قبل أن أصبح وزيرا، حيث كتب لي إهداء لئيما قال فيه: «إلى رولان دوما، صداقتي له، وليسرع في الإستفادة منها قبل أن يصبح وزيرا للعدل». لم تكن علاقتنا لتصمد لأي تعيين لي وزيرا مشرفا على السجون.
جاء لزيارتي، بخصوص أمر هام من وجهة نظره. فأرشيفات كل من فيصل الحسيني وليلى شهيد وياسر عرفات، في مكان ما بمدينة القدس مهددة بالسرقة أو الإتلاف. ولابد من وضع ذاكرة أوائل مناضلي الشعب الفلسطيني في مكان آمن. فطلبت من قنصلنا في مدينة القدس أن يضع اليد على تلك الوثائق في أكبر قدر من السرية. وعبر الحقيبة الديبلوماسية، نقلتها إلى باريس، ووضعتها في مكتبي بالوزارة.
سيتسلم جنيه بنفسه الحقائب الثلاثة تلك. وحتى أضمن عدم تسرب الخبر، لم أخبره بسبب دعوتي إياه لزيارتي. تفاجأ كثيرا وتأثر من فكرة تسليمي إياها له. كان يدرك حجم المغامرة، والتحدي الذي سيواجهه لو ضبطت الشرطة تلك الحقائب بحوزته، وكانت حماسته في قمة إثارتها. خرج من عندي «مثل لص»، عبر باب ثانوية، بملامح مثيرة ومشية أشبه بمشية قط. بل إنه قد استعاد مظهره الشبابي والحيوي فجأة.
علمت بخبر وفاة جان جنيه عبر المذياع. تجمدت في مكاني، واجتاحني إحساس من فقد شخصا غاليا لديه. كنت أعرف أنه متعب منذ شهور بسبب سرطان في الفك. لكن المرض لم يمنعه من السفر إلى المغرب بالسيارة التي كان يقودها صديقه جاكي ماغليا. حين جاء إلى باريس، لم يجد غرفة في فندق روبين، حيث اعتاد النزول. فالتجأ إلى جاكس أوتيل، ب 19 شارع ستفين بيشون، قرب ساحة إيطاليا. فأسرعت إليه هناك.
أخبرتني موظفة الإستقبال أن جثمانه لم يعد هناك. لكنني ألححت عليها في الطلب أن تمنحني مفتاح الغرفة التي نزل بها، وأفهمتني أنها تعرفت علي. صعدت إلى الطابق الثاني عبر الأدراج، وولجت إلى الغرفة الصغيرة الفارغة، بمحتوياتها الخشبية البيضاء. لا يزال السرير كما هو، وعلى كرسي لا تزال ثيابه كما أزالها ليلة البارحة: سروال من القماش، سترة وجاكيته الجلدي الشهير. لا شيء في الخزانة التي كان بابها مواربا. كان عابرا فقط. وعلى المائدة بقايا وجبته: قنينة حليب نصف فارغة، بضع بسكوتات، وزجاجة دواء نيمبوتال، ذلك الحامض، الذي كان يقول، إنه يسكن آلامه.
اعتاد أن يقول دوما إنه سيضع حدا يوما لحياته. ومنذ سنوات أصيب بدوار وسقط في الحمام. وسرت حينها شائعة في اليونان، حيث كان، بأنها كانت محاولة انتحار بأثينا. حين تمنكت أخيرا من العثور عليه عبر الهاتف، قال لي: «اطمئن رولان، لقد ضاعفت فقط من حصة الدواء، لم تكن لي أية نية لوضع حد لحياتي». كنت حائرا في الواقع، لأنني علمت عن طريق صديقتي بول تيفينان أن زوجها الطبيب كان يرفض أن يقدم له كميات كبيرة من المهدئات. كان جينيه يغضب من ذلك، فيسرق روشيتة الطبيب ويدون فيها وصفات كاذبة بأسماء أصدقائه.
فاجأتني منظفتان في الفندق وأنا ساهم في تأملاتي تلك، اعتذرتا أنهما لم تجدا الوقت لإعادة ترتيب الغرفة. كانت كبراهن، وهي من أصول إفريقية، بالكاد تغمغم شارحة: «لقد وقع حين توجه صوب المغسل». كانت تعتقد أنه لا يزال حيا بالمستشفى. حين أخبرتها بوفاته تجمدت في مكانها. فشرعت تمرر آلة الشفط بطريقة عشوائية، غير منتظمة. تذكرت والدة جان جنيه، فهي أيضا منظفة غرف، حتى لا أقول خادمة، التي أنجبته في مكان غير بعيد بمستشفى الولادة بتارنيي، رقم 89، زنقة آساس.
نزلت إلى مكتب الاستقبال، أستعلم أكثر من مديرة الفندق. أكدت لي أن رجال الإطفاء حضروا بسرعة، وأنهم حملوا جثته. أكدت لي أنه كان مرافقا باثنين من أصدقائه نزلا في غرفة مجاورة لغرفته، حيث أكدت لي أنهما فعلا جاكي ماغليا وشخص إسمه محمد. استغربت أن مخطوطا له قد اختفى، فأخبرتني بأن السيد غاليمار قد جاء إلى الفندق. كنت أعرف أنه ينهي كتابه «الأسير العاشق».
توجهت صوب المشرحة، وعرفت عن نفسي عبر الكوة الصغيرة للباب. انتظرت قليلا، قبل أن أسمع أثر خطو متثاقل، وصرير مفاتيح وضعت داخل القفل. فعادت إلي ذكريات لزيارات سابقة إلى ذلك المكان القفر القاتم. كنت قد جئت مرة للتعرف على جثة عبد لله بنتاغة، البهلواني العابر على الحبال، الذي كان يعزه جنيه كثيرا، والذي سقط مرة فأصبح مقعدا ووضع حدا لحياته بأن جرح بآلة حادة معصميه. لقد هز موته جان كثيرا. جاء يبكي ببيتي، بل إنه مزق آخر مخطوطاته قائلا أنه قرر التوقف عن الكتابة نهائيا. واسيته، وقال لي هامسا، قرب نار موقدة، في ما بين غمامتين من دخان سيجارته: «نعم، لا بد أن يصلح موت ما لشيء ما، لا بد أن يكون له معنى».
كنت مستغرقا في تذكاراتي، دون أن أنتبه إلى ما كان يحيط بي في قاعة الانتظار تلك، وكان ذلك من حسن حظي، حيث تمة أجساد عارية، وبعضها الآخر بلباسها وأخرى مغطاة بإزار. انتبهت إلى نقالات يدفعها شباب بالقاعة جيئة وذهابا، تاركين وراءهم صوت عجلاتها الصغيرة فوق الأرض المبلطة اللزجة. كان الأمر أشبه برقصة بالي سريالية، مدوزنة بموسيقى مسرح غير مسموعة. طلبت ملاقاة أحد المسؤولين بالمكان، الذي جاء وأدخلني إلى قاعة حيث الثلاجات الكبرى الباردة. فوراء كل باب منها هناك جثة.
سأل بصوت مسموع أحد مساعديه:
هل عندك أحدهم يدعى جنيه؟
أجابه الآخر:
نعم.
جاء بنقالة، كانت عليها جثة جان جنيه كما وصلت من فندق جاكس أوتيل. وضعت النقالة بين نقالتين أخريين، واحدة بها شخص أسود البشرة عار، بعضو تناسلي كبير، وعلى الأخرى جثة متشرد متسخ بلحية غير مشذبة. كانا حثالتين مثلما كان يحب جنيه في حياته.
تأكد المكلف القضائي أن الاسم المكتوب على الورقة المعلقة على يده هو اسمه وقال: «نعم، إنه جان جنيه». كانت عيناه لا تزالان مفتوحتان وفمه مفتوحا بالكامل. لبس الطبيب الشرعي بدلته البيضاء بسرعة، حتى يكون أكثر جدية أمامي أكيد، وأغلق له عيناه محاولا عبثا إغلاق الفم. وقال لي:
صعب إغلاق فمه، لأن جزء من فكه ناقص
أعتقد أن طقم أسنانه بقي بالفندق (أجبته).
كان وجهه رغم ذلك هادئا، مما طمأنني أنه لم يتعذب.
كان لا يزال بلباس نومه: قميص بيجامته وسروالها. كان القميص مفتوحا مما جعل بياض صدره الشديد (الحليبي) يظهر مثل صدر شاب مراهق، لم يفعل الزمن فيه عواديه. لاحظت جرحين صغيرين في رأسه، مع أثر دم متجمد. فطلبت الإطلاع على تقرير التشريح الذي كتب فيه الطبيب المختص: «وفاة طبيعية». فقط.
كان علي أن أنظم جنازته. كان قد قال لي، من قبل، إنه يحب أن يدفن، في حال وفاته، في المقبرة الصغيرة لمدينة العرائش بشمال المغرب. فاتصلت بسفير الملك الحسن الثاني بباريس، الذي قال إنه لا بد من إخبار الملك وموافقته. فيما قال لي صديقه جاكي، أن جنيه سيكون راضيا أن يدفن جوار صديقه عبد لله بمقبرة تيي. قلت مع نفسي: جنيه في مقبرة مسلمة؟ ولم لا؟ أنا متأكد أنه لن يعترض أبدا على ذلك. حددنا تاريخ 23 أبريل، وتواعدنا على أن نكون حاضرين فقط نحن الثلاثة: أنا وجاكي ماغليا ومحمد القطراني. لم يكن يحب الخطب والتمجيدات.
كان جاكي قد غير رأيه، لأنه موقن أن جنيه يفضل المغرب.

23 أبريل 1986
الرجل بنعال الريح

التقيت، في الساعة الثانية عشرة وخمس وأربعين دقيقة، مع صديقي الكاتب بالمشرحة، قبل إغلاق نعشه. كان جاكي متعجرفا ومرهقا، فيما محمد سادر في صمت طويل. وضع النعش في قاعة للموتى، التي لا علاقة لها مع ما سبق وشاهدته في قاعات التشريح الكئيبة. فقد غيرت تقنيات التنظيف الخاصة بالموتى شكل الرجل. أعيد له طقم أسنانه، مثلما تم تعديل أنفه الأشبه بأنف الملاكمين. كان قميصه نظيفا، مكويا، كل أزراره مغلقة حتى الرقبة. ما جعلني لم أتعرف على صديقي جنيه. حتى جاكي ومحمد أحسا نفس الإحساس، الذي قرآه على ملامحي (كان جنيه مختلفا). انفجر محمد بالبكاء، فأخذته بين ذراعي. فيما واساه جاكي هو أيضا بعينين محمرتين. كان قد قطف زهرة برية صغيرة نابتة في الطوار من الخارج، زهرة مثل جنيه، ووضعها بحنو على قميصه النظيف. قال لي جاكي:
قبل أن تصل رمينا بتلات ورود على جسده. فلابد من بعض الشاعرية هنا.
كان جاكي يريد لو يفتح له أزرار قميصه قليلا، قائلا: «لم يلبس قميصا بهذا الشكل أبدا»، لكنه لم يجرؤ على ذلك.
لم يتعب الصديقان من تأمل ذلك الوجه الجديد الغريب لجنيه. كانا يحاولان التأكد أنه هو فعلا. حيث تقدم جاكي كثيرا من وجهه ثم من حذائه، وقال: «نعم، إنه هو، فأنا أعرف قدميه»، وأكد محمد على كلامه. إن الموت، من حيث إنها تلعب بالأحياء، تترك دوما بعض مجال للسخرية.
رفعت الجثة في الساعة الثانية بعد الزوال. سلمنا، جاكي ومحمد وأنا، على كلود غاليمار ولوران بويير، ناشرا أعماله. كانت حاضرة أيضا السيدة ليلى شهيد المناضلة الفلسطينية، التي كانت قضية شعبها «القضية الكبرى» في حياة جنيه. لبنانية الأصل، وهي زوجة الأديب والروائي المغربي محمد برادة. كانت تجربتهما المرعبة معا (جنيه وشهيد)، هي زيارتهما سنة 1982 لمخيم اللاجئين الفلسطينيين صبرا وشاتيلا ببيروت الغربية. ففيه قامت وحدات الكتائب اللبنانية بمجزرة، تحملت فيها القوات الإسرائيلية جزءا من المسؤولية بسبب أنها لم تتدخل لمنعهم من ذلك. كان ذلك المشهد المروع قد زلزل جنيه، الذي أزمه وجدانيا حتى وفاته. ويرتبط كتاباه «أربع ساعات في شاتيلا» و «العاشق الأسير»، بتلك القضية.
يرقد جان جنيه بالتراب المغربي، في تلك المقبرة الصغيرة المطلة على البحر بالعرائش، حيث تهب عليه رياح المحيط الأطلسي، 80 كلمترا جنوب مدينة طنجة. مثل برنس [اللباس التقليدي للرجال بالمغرب] من الحجر، تحيط بالقبر حاشية بيضاء مصبوغة بالجير الناصع، تاركة الأعشاب البرية متعرشة على جنب. وعلى حجر مصبوغ بالأبيض أيضا، شاهدة القبر بسيطة، محفورة عليها أحرف اسمه بخط اليد. كنت أعرف أنه لن يقبل تدخلي لدى العاهل المغربي، لكنه لن يعرف ذلك حيث هو الآن. الأساسي هو أن يكون هنا، غير بعيد عن المنزل الذي بناه لصديقه محمد القطراني، خصوصا بالنسبة لصغير هذا الأخير، عزالدين، الذي كان يعزه كثيرا ويعتبره مثل حفيده.
بقيت على الرف فقط الكتب التي هي أثر عن عبوره بيننا: مؤلفات ميشال فوكو بحواشيه عليها، كتاب «هنري ماتيس» لأراغون، كتب حول تاريخ الإسلام والفن الإغريقي. ثم كتاب آخر عن فن رامبرانت [الهولندي]. كان مفتونا بلوحة «جولة المراقبة الليلية»، التي قال لي عنها ذات يوم: «إن هذه اللوحة أشبه بسوناتة لباخ، ولها قوة بناية كاتدرائية». وللحفاظ على ذلك الموروث البسيط، اقترحت على العائلة أن ينقلوه إلى المركز الثقافي الفرنسي بطنجة.
كانت الكتب مقدسة بالنسبة لجان جنيه. فقد مكنته من انتزاع حريته. وستظل دوما، في محفظته، قصيدة لفرلين وأخرى لرامبو. فقد قال لي مرة: «أتمنى أن لا أبقي سوى على واحدة منها».
هل في ما بين عواصف مدينة العرائش (المغربية) هناك رجل بنعال من ريح؟

هامش:

(*) جان جنيه، كاتب ومسرحي فرنسي شهير، عاش حياة صعبة وقاسية، وكان دوما ثوريا في مواقفه وأفكاره، متمردا على المواضعات الثقافية والسلوكية للمجتمعات الغربية. عاش لسنوات بمدن المغرب، بين طنجة وأصيلة والعرائش، وبين باريس وبيروت. كان واحدا من كبار الشهود العالميين على مجزرة صبرا وشاتيلا التي ارتكبتها الكتائب اللبنانية المسيحية ضد اللاجئين الفلسطينيين بالعاصمة اللبنانية بحماية من الجيش الإسرائيلي بقيادة آرييل شارون، التي أبدع بسببها كتابين هائلين هما «أربع ساعات في شاتيلا» و «العاشق الأسير». مثلما أن له العشرات من المسرحيات العالمية، لعل من أشهرها مسرحية «الزنوج».
(*) رولان دوما، محامي فرنسي، صديق مقرب من الرئيس الفرنسي الاشتراكي فرانسوا ميتران، ولقد كان وزير خارجية فرنسا لسنوات طويلة ما بين 1984 و 1993، مثلما عين رئيسا للمجلس الدستوري بفرنسا ما بين 1995 و 2000. يبلغ اليوم من العمر 98 سنة، فهو من مواليد 23 غشت 1922.


الكاتب : إعداد: لحسن العسبي

  

بتاريخ : 27/01/2021