رياح مهيضة الجناحين

خريف يشبه بوشكين

كان الخريف قد عبر بطيئا مثل أشخاص ينهون نقاشا خارج قاعة المِؤتمرات. مر محتميا بمعطف بياقة عالية؛ كأنها لاقط هوائي يلتقط إشارات من كائنات فضائية. حينما رأيته يعبر، تذكرت زميلك في العمل الذي ظل لسنوات يتلفظ بكلام غير مفهوم عن التخابر الذي يتم بينه وبين السماء. كان جادا في كلامه الى الحد الذي يجعل شفتيه تمتلئان برضاب أبيض؛ كأنه طفل لم ينه فترة. أما أنت فظللت واجما، وربما غير مهتم بكلامه. فكيف يمكن لموظف صغير بقبعة شتوية لا تفارقه أن يصبح المُخَاطَب الأول في الكون لدى كائنات لا تأتيه إلا في أماكن مغلقة حاملة إليه نبوءات السماء ولوائح حضور وغياب الغيوم؟!
حاولت مرارا مباغتته بأسئلة جادة عن مواعيد المطر. فكان يهرش شعره، ويميل برأسه؛ كأنه سيخر مغشيا عليه، قبل أن يحوقل ويبسمل مثل من رأى الشياطين أو أحد عناصر الجن. يقول لك بأنهم لم يخبروه بعد. «طبعا: الكائنات الفضائية» كان يجيب حينما كنت تسأله مستفزا إياه: «من هم؟!».
هكذا عبر الخريف، وهو يتعثر في تلابيب معطفه الطويل، الذي ربما كان هو نفسه معطف غوغول الشهير، أو فقط المعطف الذي لبسه بوشكين شخصيا. لطالما كان يوحي لك بوشكين من خلال صوره، بأنه هو الخريف شخصيا. هل لأنه نفي من طرف الامبراطور الإسكندر الأول بعد أن ألقى قصيدته عن الحرية؟ أم لأنه دخل في مبارزة محفوفة بالمخاطر مع ضابط محترف نجا منها بأعجوبة مثلما نجا الخريف هو الآخر من أحابيل أكتوبر ؟!

الصيف يعود من جديد إلى مداومته

عاد الصيف للوقوف في زاوية الشارع، وهو يغمغم بكلام مبهم. كان ينظر إلى السماء بأعين ملؤها الخيبة. لقد خاب سعيه. إنه بدون رجاء الآن، إلا إذا استثنينا رجاء أن يتحمل الشتاء مسؤوليته. يجب أن يتحمل مسؤوليته كاملة: هذا ما كان يقوله لنفسه. يجب أن يجتمع بالغيوم والرياح بشكل سريع دون تلكؤ. لقد تعب الجميع من نميمة الغيم، وهي تسخر من شح الرياح. الرياح التي تَدَّعي المرض الآن. الرياح التي تركت الغيوم وحيدة تمارس ضجرها بشكل يومي .
« من يصدق أننا نجتاز الآن مفازة من مفازات الشتاء؟! «هكذا قالت غيمة ﻷخرى، واكتفت زميلتها بالتثاؤب دلالة عدم الاهتمام والعجرفة.
يريد الصيف العودة إلى فترة مداومته . لكنه يتردد في ذلك. يريد أن يؤنب الشتاء على جعجعته التي لم تعط طحينا. إن الاستعدادات على قدم وساق. كل شيء مرتب لإنجاز وليمة اسمها: المطر. لكن الضيوف تعبوا من انتظار أصبح مؤذيا كسكاكين مشحوذة.

الصيف يوجه رسالة SMS إلى الشتاء

صديقي الشتاء
أيها العزيز.
أرجوك أن تترفق بالجميع! ترفق بهم الآن! أنت تذكر ما اتفقنا عليه في مؤتمر الفصول اﻷخير. لقد قلنا إن الجميع يجب أن يتحمل مسؤوليته. لقد قلنا ذلك فعلا.
الشتاء لا يقدم أي رد.
الصيف يرسل رسالة ثانية الى الشتاء
لكن الصيف لا يصاب بالغيظ ،بل يوجه رسالة قصيرة ثانية من هاتفه الذكي إلى الشتاء فقط. هذا هو نصها:
صديقي الشتاء
لقد أمهلتك أكثر مما يجب. لذلك يجب أن تسرع! أسرع كما يجب! أسرع كما يليق بفصل شتاء حقيقي!
محبتي

رسالة الشتاء الجوابية

عزيزي الصيف
أيها المقتدر
أعرف حكمتك وسعة صدرك. لم يعد بيدي حيلة. لقد أصبحت الرياح متقاعسة عن أداء واجبها التاريخي في إثارة الغيم. لم يحدث من قبل أن رأيت رياحا مهيضة الجناحين، وبدون شأن كما أشاهد ذلك اليوم. أما الغيوم فهي ضئيلة كشياه صغيرة سيئة التغذية. غيوم مصابة بعدوى التخفي والانطواء. أعدك بأنني سأتدبر الأمر في أقل من يومين. سأعمل على تسوية اﻷمر بشكل سريع حتى أنك ستصاب بلوثة الدهشة لطريقة تدبيري لهذه الورطة التاريخية. ابق بصحة جيدة!

زميلك الشتاء

الشتاء يراسل الرياح

سيدتي الرياح

لقد بلغ إلى علمي الشطط المبالغ فيه الذي تقترفينه الآن. إنه الشطط الذي يجعلني على قمة اليأس. أنت تعدمين الآن الجسور التي بنيناها سويا بقلوبنا و بأيادينا الصغيرة الشبيهة بأجنحة طيور تستعد للسفر الكبير نحو الجنوب. معا كنا نُعَبِّد الطرق للمطر في السنوات الخوالي استعداداً لاقتطاف مباهج الربيع. لقد أصبحت الغيوم بدون مهمة محددة إلا إذا استثنينا ذلك العمق الكئيب الذي تغلف به نهارات الآحاد، فتصبح الوجوه واجمة؛ كأنها قطع خشب قديمة مرصعة بالبرد في يد نجار حريص أيما حرص على اللامبالاة تجاه كل ما يحدث أمامه. نجار يفكر في الماضي بدل التفكير في المستقبل. نجار يدخن طيلة الوقت بشراهة عاصفة بدون أمل.

سيدتي الرياح

يجب أن نبوح بكل شيء الآن . يجب أن نبوح حتى بتلك التفاهات الصغيرة التي اقترفناها معا بسذاجة أطفال يقودون باخرة الحياة ﻷول مرة . كم من غيمة قمنا بغوايتها، ونحن لا نفكر في أي شيء سوى في المطر الذي سينبجس من سراويل السماء، فينزل في هرولة محببة ليواسي أفئدة أعياها الشوق و هشمتها لوعة البعاد؟
هكذا كنت تخرجين الغيوم المنطوية على نفسها من اكتئاب ما بعد الظهر لتتجول في أشد الزوايا القائمة صرامة من شوارع الكون، بحيث تسمع وقع أقدام المطر وهو يتبختر في مجيئه الذي يشبه تلكؤ القطط؟ القدوم الذي يشبه الذهاب أو انفصال برغي عن قطعة حديد في شاحنة من نوع «فورد». فجأة يخرج هذا المطر خلسة بدون بهرجة أحيانا؛ كأنه يتخفى من شيء ما يزعجه. أحيانا يخرج مدويا يتبعه صوت الجرسين اﻷساسيين اللذين يسبقان كل الحفلات الباذخة التي أقامها إلى حد الآن: الرعد والبرق. وهما بتقديري الجرسان المبجلان اللذان يحضيان بكل التقدير والاحترام من كل مقدمي النشرات الجوية عبر العالم. أليس المطر حفلة حقيقية قائمة الذات ؟ حفلة تصل عطاياها إلى كل الحقول والوديان بحيث تصبح اﻷشجار مستثارة بشكل كبير، إذ تُهَدِّد بالإزهار في أي لحظة سهو تتخلص فيها الشمس من رقابة الغيوم، ومن خجلها الذي يلازمها طيلة أيام عملي أنا الشتاء. الشمس التي ستصبح أكثر جرأة مع قدوم أول بشائر الربيع فيتخلص الجميع من تركة الكسل وخمول اﻷفرشة.

عزيزتى الرياح

الآن نستطيع أن نمضي قُدُمًا في أعمالنا. إن مجرد التفكير في قدوم الربيع بغتة يجعلني أحس بالارتباك الشديد، حتى أنني أحس بأن قلبي سينقذف من فمي من شدة لطم جدران الجسد. لن أخفيك سرا إن قلت أنني لن أستطيع تحمل شماتاته الأشد وطأة من وخز الإبر. فالإبر لا تترك تلك الندوب في الروح مثلما تتركها الشماتات. لذلك لنعمل سويا بجد ولنفكر في الآلام التي ستسحق الآبار والأنهار؛ وهي ترى الحسرة في أعين العطشى! كم من الفراشات ستتشرد وتصبح بدون مأوى؛ ﻷنها لن تنعم ببحبوحة الربيع مستسلمة لشظف العيش الفريد من نوعه؟ الحياة ستتحول إلى خريف طويل ذي صفتين أساسيين هما: الشح و اللامبالاة؟ لذلك يجب أن تشحذي همتك وتفكري بجد في مستقبلنا المهني دون تغليب للمصلحة الشخصية. فكري في هاته الفراشات التي ستُهْزَم، وفي الأعشاش التي لن تبنى، وفي السواقي التي ستنقرض مؤجلة خريرها إلى أجل غير مسمى. فكري أيضا في عزلة الحدائق بعد أن يهجرها العشاق، وفي الشواطيء التي ستشهد اكتظاظا غير مسبوق من أجل التحايل على غطرسة الصيف. فكري أيتها العزيزة، وأنت تصفحين عن الغيم الذي لن ينسى لك هذا الجميل . مهما بلغ من العمر عتيا، لن ينسى لك أريحيتك وطيبتك. إن ذلك الصفح سيكتب لك بمداد من ذهب في سجلك المهني، ويجعلك بطلة قومية للطبيعة في كل الأزمنة «أليست الرياح بطلة قومية للطبيعة في كل الأزمنة؟» قال ذلك مخاطبا جلساءه من اللقالق التي كانت تحزم حقائبها مستعدة لرحيلها السنوي.
شكرا عزيزتي الرياح للتفهم. شكرا لسعة صدرك.

مع كل المحبة والتقدير.

الرياح تبعث رسالة مستعجلة إلى الغيوم

سيدتي الغيوم
يبدو أنك ستكونين مضطرة إلى حزم حقائبك دون شكاوى أو تلميحات مبطنة بالمجاز. فالهدنة التي انخرطنا فيها بشكل توافقي، لم تعد تعنيني في شيء. كما أنني أخبرك بأنني لن أوقع معك أية وثيقة صلح أخرى، مالم أسمع خرير السواقي وأرى شقائق النعمان في كل حقل. حينذاك أستطيع أن أستريح خلف أكمة ما، وأدخل في هدنة ذات جدوى. لقد مللت هذا السكون الذي ينطوي عليه الكون. لذلك سأتحرك مساء بأقصى سرعة ممكنة؛ لا ألوي فيها على شيء. سأتحرك مثل قطار في ظهيرة صامًّا آذانه عن صيحات المتأخرين عن موعده.
لكن الغيم بقي مصرا على عناده.

هوامش:

*: عنوان كتاب شهير للزعيم لينين، والذي يدافع فيه عن حزبه البلشفي سنة 1904
**:حديقة شهيرة بمدينة فاس أسسها السلطان عبد الله العلوي، وخصصت للأميرات. افتتحت في وجه العموم سنة1917.
***: ساحة شهيرة بمدينة مراكش تعرض فيها مجموعة من الفنون الشعبية.


الكاتب : مصطفى النفيسي

  

بتاريخ : 11/11/2022