لا يمكن لأي متتبع للشأن الفني والثقافي ببلادنا إلا أن يرفع القبعة لفنان الشعب الإعلامي محمد عاطر، الذي تمكن من جعل واحد من البرامج الفنية الإذاعية الجميلة يصمد لفترة 15 سنة بدون دعم وسند لوجيستيكي قوي، فقط يحمل فنه وفكرته وينطلق إلى باديتنا العتيدة ليرسم لنا لوحة الفرجة والاستمتاع و” القرايا ” أيضا، لقد جعلنا ” ريحة الدوار” نجوب جغرافيا قرى وطننا ونهيم مع أهالينا هناك في عبق ثقافة إنسانية خالصة، افتقدناها في صالونات حواضرنا وأسوار تجمعاتنا العابرة، التي تصور البدوي الذي هو نحن جميعا، وكأنه “فولكلور كلامي”، وللأسف حتى في بعض أعمالنا المسرحية والسينمائية، جُررنا وراء هذا التصور الفظيع السطحي غير العارف بنسمة التراب، لكن ومن خلال عاطر، يحاول البرنامج تغيير هذه النظرة لدى الأجيال القادمة وهذا هو الأهم، ففي ريحة الدوار، ستقف الأجيال على الحكمة والفطنة والنباهة العميقة في باديتنا التي هي مصدر عيشنا وملاذنا الطبيعي والإنساني، عندما يخنقنا الإسمنت المسيج حولنا وحول عقولنا ..لقد تماهى الفنان محمد عاطر مع عالمه هذا الذي أرادنا أن ننتبه إلى عمقه حتى التصق بروحه وأصبح في مخيالنا جزءا منه، وهو إن كان يعني شيئا فإنه يعني نجاح هذا العمل ونجاح عرابه، ما احتاج عاطر الفنان إلى قناة تلفزية كبيرة أو دعاية باذخة، فقط إيمانه وقناعته وقلبه الذي أصبح يتقاسمه مع الملايين، وكأنه بصدد دراسة دخلها بشغف بعيدا عن جدران الأكاديميات المنغلقة على نفسها وأوراقها وآلاتها الطابعة، لا يهمه نتائج هذه الدراسة فقط يريد أن يخرج بنتيجة لنفسه وهواجس أسئلته وشغفه، وهو الشغف الذي أصبحنا كمتلقين نتقاسمه معه، ففي عمله هذا تجد عدة أغراض، بدءا بالفرجة والاستمتاع مرورا بمعرفة الجغرافيا البدوية والقروية في وطننا وتاريخ قبائلها وأهاليها والاقتصادات الفلاحية المعتمدة في كل منطقة، عبورا أيضا بمشاكلها وهمومها وتقاليدها وفنونها .. قد نقول إننا بصدد دراسة أنطروبولوجية في برنامج إذاعي فني إعلامي، نعم نجح عاطر في ذلك، بل نجح في أن يزاوج بين الإعلامي والفنان وهو أمر نادر جدا، ففي الوقت الذي يجالس ضيوفه يسهم في الحوار بصفة الفنان والمجادل، وفي الوقت نفسه يستحضر الأسئلة المتطلبة في عالم الصحافة والإعلام .
وأنت تتبع البرنامج قد تستحضر مع الفنان عاطر، كل ذلك الزمن الحرفي الجاد في عالم الصحافة والفن، تستحضر برنامج ” على ضفاف الأنهار ” حينما كان الرائع عتيق بنشيكر يعتلي المركب رفقة الكاميرا، ويأخذك من منابع الوديان المغربية إلى مصباتها، ويقف بك طيلة المسافة التي تقطعها الوديان، على ثقافة ساكنة الضفاف القريبة منها وألوانها الفنية وأنواع مأكولاتها، تستحضر أيضا تجربة مسرح البساط التي أسس لها الطيب الصديقي المسرحي الكبير على الخشبة، وتجد أن عاطر أوضح هذه التجربة عمليا، بالنزول إلى الموقع حقيقة والجلوس مع شخوص حقيقيين، ليتحفوا المتلقي بفنون القول والحكم والأمثال والنكت والعبر ذات البعد المجتمعي وحتى السياسي..
يوم السبت الأخير اختار الفنان مدينة برشيد عاصمة أولاد حريز ، ليحتفي بإطفاء الشمعة الخامسة عشرة من عمله ” ريحة الدوار ” ، الحفل كان خفيفا وعميقا حضره ثلة من المثقفين والمتشبعين بحب الفنون، المفاجأة أن هؤلاء جاؤوا ليحتفوا بعاطر الصديق والفنان، لكن في مقلب بدوي ذكي تحول المحتفى به إلى محتفل بهؤلاء، وهي سابقة في هذا النوع من اللقاءات، إذ أبى إلا أن يكرم مجموعة من المثقفين والإعلاميين عرفانا منه أنهم كانوا من الأوائل الذين شجعوا فكرته أو ألقوا به إلى خوضها في لحظة تردد كانت تسكنه، من هؤلاء، الإعلامي خالد الكيراوي الذي كان مديرا للبرمجة في إذاعة ” إم إف إم ” ، الذي ما إن سمع الحلقة الأولى حتى شجعه على النزول إلى مواقع الموضوع وأن يمده بحلقات مسترسلة في توقيت زمني معين سيدخل البرمجة السنوية بشكل رسمي، أيضا احتفى عاطر بالإعلامي يوسف الساكت، وهو أول صحفي سيتصل بعاطر عندما أذاع حلقاته الأولى ليؤكد عليه ضرورة المواصلة وعدم التوقف على اعتبار أن الفكرة رائعة وستزداد نجاحا مع مرور الوقت، الأستاذ الكاتب والإعلامي لحسن العسيبي لم يخرج من هذه الدائرة، إذ بشكل تلقائي ودون سابق تواصل سيكتب مقالا مطولا عن البرنامج وصاحبه، وهو ما أضفى على التشجيع في المواصلة شحنة قوية، مقال أسعد عاطر، إذ سيتوالى الاهتمام بالبرنامج من قبل مختلف الصحفيين، لكن الذي ظل مواكبا لكل كبيرة وصغيرة في البرنامج على المستوى الإعلامي كان الزميل الصحفي عزيز المجدوب لذلك قرر عاطر الاحتفاء به رفقة إخوانه الإعلاميين خلال هذا اللقاء، إلى جانب الداعم الكبير الزميل الصحفي حسن البصري، الذي كان ملاذ التشاور ومقترح الأشخاص الذين سيلتقيهم عاطر وأيضا المساعد في اختيار المناطق التي يجب أن يبدأ بها ..حضر اللقاء أيضا الفنان والإعلامي حسن حليم والأستاذ عزالدين محفوظ.
في هذا الحفل قدم الدكتور سعيد ياقطين قراءة ماتعة وعميقة، حول ريحة الدوار والأبعاد التي لامسها البرنامج حتى منها الشق التوثيقي للحكم والأمثال التي تفتقدها مؤسساتنا الأكاديمية، وحتى تلك التي تعنى بالتراث والفنون والثقافة، مؤكدا أن هذا العمل سنحتاجه في الزمن القادم كما نحن في أمس الحاجة إليه اليوم…
شخصيا أعجبني هذا اللقاء، الذي انزوى بعيدا عن البهرجة، كما يفعل دائما منظمه محمد عاطر الذي لن تجده “متشعبطا” وسط جوقات الازدحام، بل بحث عن مسار تمكن من خلاله من أداء فنه وشغفه على أرض الواقع، وكأنه يقول ” للي عندو باب الله يسدو عليه “، أنا فنان لأني أعشق الفن، سأنزل أين كان لأمارسه !