سؤال الشباب وذاكرة المستقبل .. تأملات في كتاب، محمد الحيحي ذاكرة حياة، لجمال المحافظ وعبد الرزاق الحنوشي

 

(… نَبْنِي الطّريق، والطّريق تَبْنِينَا….)
(…نَبْنِي الشّباب، والشّباب يَبنِي الوَطن…)

من بواعث الأطلال: جدلية الهامش والمركز في تجربة محمد الحيحي والعمل الجمعوي

لم تكن الجمعية المغربية لتربية الشبيبة (A.M.E.J) في ذاكرة نسبة كبيرة من الشباب المغربي نَكرة. فشهرة خدماتها التربوية والتثقيفية والترفيهية في المدن الكبرى للمملكة، لا تقل شهرة وذيوعا عن خدماتها عند أغلب شباب المدن الصغرى وجوارها القروي. كانت علامة محفوظة لشباب المغرب على مدى تاريخه الحديث وجغرافيته الممتدة. وقد انخرطتُ في أنشطتها التربوية والتثقيفية، وأنا في أواخر طفولتي و»سذاجتها»، وبداية شبابي و»حماسته»، دون سابق وعي أو تخطيط. واستفدت بعض الاستفادة من خدماتها، وحفظت بعض شذرات أناشيدها، بل وعشت تجربة غنية بالاحتكاك المباشر مع كثير من «أبناء» الجمعية في مخيماتها، خاصة في مخيم رأس الماء، وجوارها في مدينتي أزرو وإيفران، دون أن أعرف الاسم الكامل للجمعية ولا مُسيرّيها، ودون أن أهتم بمُؤسّسها، أو أبحث عن الخلفيات المختلفة التي كانت وراء تأسيسها، والمشروع الذي تنتظم فيه في سياق نشأتها وأفقها المستقبلي.
تلك كانت أسئلة بَعدية لم تكن مطروحة عصرئذ، ولا كانت من باب المفكر فيه أصلا، على الأقل بالنسبة لي عصر ذاك. ولمّا زاد وعيي بعض الزيادة، واتسعت معرفتي نوعا من الاتساع، والتحقت بمقر عملي بمدينة بني ملال، في ريعان الشباب وتوثّبه، بدأت أحاول ربط السابق بالراهن، وأجتهد في تجسير الصلات بين خطوط الطول والعرض؛ فكان أول السؤال عن جمعية مررتُ منها عابرا، واستفدت من بعض خيراتها شابا يافعا. سألت في المدينة والجوار، ووجدت جمعيات تربوية وتثقيفية مختلفة ما تزال تنشط وتؤدي رسالتها منذ فجر الاستقلال، في مقدمتها جمعية الطفولة الشعبية، وجمعية المواهب للتربية والثقافة، باستثناء الجمعية المغربية لتربية الشبيبة. ولما زدت في السؤال وألححت، وقد بدأت أنشطة بعض الجمعيات الأخرى بدار الشباب بالمغرب العربي بالمدينة، عرفت أنها كانت قائمة ونشيطة في بدايات الثمانينيات، خاصة في مدينة الفقيه بنصالح، وقصبة تادلة، وبني ملال، ولكنها لم تعد قائمة بعد من الناحية القانونية، لأسباب ما زلت أجهل أغلبها، ومسوغات جمود أنشطتها، وأسباب توقفها.
ومرت الأيام والسنون، وما تزال الجمعية المغربية لتربية الشبيبة، بعد الوعي بتاريخيتها وريادتها في الأنشطة التربوية، وما يتصل بها، الجمعية الأكثر ارتباطا بوجداني، وزاد ارتباطي بها لكون مُلهم تأسيسها هو الشهيد المهدي بن بركة، بشهرته العابرة للقارات، وقد انتظمت في فكره وانتمائه حتى هذه اللحظة، وبكون مُؤسسها الأشهر، والمُؤتمن الأول عليها، هو محمد الحيحي، وإن كنت أسمع به فيما بعد، وأنا أُعرّج على اسمه في سياقات قراءاتي وبحوثي واهتماماتي المختلفة، دون أن يكون لي علم بقيمته ومقامه وصلاته بالجمعية المغربية لتربية الشبيبة، حتى بعد أن تأسس فرع الجمعية بزاوية الشيخ سنة 1998، قُبيل وفاته، وقد نشطت فيه ما تيسر لي ذلك، بدعوة من رئيسه وَقْتها الأخ والصديق حسن معروف، وقد انتخب في المؤتمر الوطني السادس عشر عضوا في مكتبها الوطني.
بكلمات معدودات، كنت أعرف الجمعية وأجهل رئيسها وأحد مؤسسيها وأعمدتها. كنت أعرف الجمعية وأفضالها على الشباب المغربي وشاباته، وأجهل رائدها الميداني وراعيها المُؤتمن عليها، بل وأجهل الخلفيات التي كانت وراء تأسيسها وإسناد أمر تدبيرها لمحمد الحيحي. تلك مفارقة لم أفهم حيثياتها، وأدرك ثقلها، وأقترب من فلسفتها وأبعادها الاستراتيجية الوطنية والسياسية التي سطرها الشهيد المهدي بن بركة حتى صدر كتاب، محمد الحيحي ذاكرة حياة للصديقين: «الحاج» جمال المحافظ، و»المجاهد» عبد الرزاق الحنوشي. وتلك أولى حسنات الكتاب وفتوحاته، إذ لأول مرة في التاريخ، وفي حدود علمي، تحول الهامش إلى المركز وتوحدا، على الأقل بالنسبة لمن عَاش الجمعية في الهامش، وأنا واحد منهم، وصارت الجمعية مَقرونة بمحمد الحيحي، وصار النسب بينهما شرعيا، وبميثاق غليظ. ولكم الدليل على هذا الادعاء ومساره.
أولا- تأملات على هامش كتاب، محمد الحيحي ذاكرة حياة، لجمال المحافظ وعبد الرزاق الحنوشي.
تأكيدا لما سبق وتعميقا له أزعم أنني كنت أعرف الجمعية المغربية لتربية الشبيبة، وما تقوم به لفائدة الشبيبة، على الأقل في المجال الجغرافي الذي كنت أتحرك فيه، أو الفضاء الذي جمعني وأنشطة الجمعية والمنخرطين فيها، بوعي وبدونه، وبعض المستفيدين من جليل خدماتها، وفي الوقت ذاته لم أكن أسمع بسي محمد الحيحي، ولا أعرف حتى صلته بالجمعية، مع أنه كان من مهندسي أنشطتها والساهر على تنفيذها، والمراقب لسيرها وضامنَ انتظامه، بل والمُؤتمن الأول على دوامها.
والحق أقول، وفي سياق قراءتي لأعمال محمد عابد الجابري، والبحث في مشروعه الفكري، ومنجزه العلمي، لم أكن أسمع باسم محمد الحيحي وصلته بالجمعية، ولا حتى بالحزب الذي أنتمي إليه، بقدر ما كنت أصادف، عادة، اسمه على هامش ذكر اسم الشهيد المهدي بن بركة، أو في سياق الحديث عنه دون أن يعني لي اسم محمد الحيحي سوى مجايلته للشهيد أو لمن عرّج على ذكره. ذلك ما حدث وأنا أقرأ ذاكرة محمد عابد الجابري السياسية والثقافية في كتابه، مواقف في عدديه السادس والسابع (2002)، وهو يتذكر سياق تعرفه على المهدي بن بركة، والتذكير بأجواء انتفاضة 25 يناير 1959، وحيثيات تأسيس الاتحاد المغربي للشباب. في هذا السياق، ذكر اسم محمد الحيحي على هامش الكتاب قائلا:»… في إطار الإعداد لعملية 25 يناير 1959 طلب مني الشهيد المهدي الحضور في اجتماعات اللجنة التحضيرية للمنظمة التي كان يعمل على تأسيسها، منظمة الاتحاد المغربي للشباب، بصفتي أمثّل شباب الحزب (أو قسما منه) إلى جانب إخوان آخرين أذكر منهم المرحوم محمد الحيحي الذي كان على رأس جمعية الشبيبة المغربية(لاميج)، والطيب عمر الذي كان على رأس جمعية الطفولة الشعبية….»(هامش رقم 4، ص23).
مررت بالاسم والجمعية، ومع ذلك لم أربط الربط اللازم، ولم أتوقف عنده، لهامشية الحدث، وعرضية ذكر الاسم وباقي الأسماء، على الأقل في تمثلي الشخصي، وظلت «دار لقمان على حالها»، وبقيت حليمة على عاداتها القديمة». الجمعية في واد، ومحمد الحيحي في واد آخر، وبينهما برزخ لا يبغيان. ذلك ما حدث كذلك لما صدر كتاب، المغرب الذي عشته لعبد الواحد الراضي، سيرة حياة، سنة 2017. بدأت في قراءة السيرة إلى أن وصلت أيضا إلى سياق لقاء الكاتب كذلك بالمرحوم المهدي بن بركة (1920-1965)، وعندها أورد اسم محمد الحيحي، بشكل عابر، وفي سياق استراتيجية تنظيمية لاستيعاب الشباب وتأطيرهم بخلق جمعيات وطنية. هكذا جاءت، كما يقول:» فكرة جمعية حركة الطفولة الشعبية (MTC) وكلفتْ بها مجموعة من إخواننا بإشراف سي الطيبي بنعمر. كما هيأنا فكرة جمعية شبابية فكانت الجمعية المغربية لتربية الشبيبة (A.M.E.J) وكلفتْ بها مجموعة أخرى من الإخوان كان من أبرزهم المرحوم محمد الحيحي والمرحوم عبد السلام بناني والإخوان بنعبد الجليل وسي محمد بنسعيد والدريسي»(ص90). كان كل ذلك، تحت إشراف المهدي بن بركة، ومن «مبتكرات خياله الخصب»، بتعبير الجابري(نفسه)، بالنظر إلى وعيه الاستباقي بأهمية الرأسمال البشري، وعلى رأسه الشباب. لم تكن الإشارة إلى اسم محمد الحيحي أيضا في هذا الباب عند الواحد الراضي إلا عابرة. ولذلك، ظلت الجمعية، بالنسبة إلي، أشهر من مؤسسيها وقائدها، وغاب الرابط الطبيعي بينهما.
ذلك ما تؤكده كذلك شهادة عبد الرحمن اليوسفي في سيرته أحاديث في ما جرى (2020) إذ لم أجد فيها، هذه المرة، ذكرا لمحمد الحيحي وصلته بالجمعية والعمل التربوي، ولا أشار إليه في سياق الحديث عن الشهيد بن بركة، ولا أومأ إلى مساهماته في تاريخ بناء المغرب الحديث، إن على الوجهة الحزبية أو الجمعوية، إلا ما كان، على الأقل في حدود علمي، من شهادته في إحياء ذكراه الأربعينية، كما جاءت لاحقا في كتاب، محمد الحيحي ذاكرة حياة للمحافظ والحنوشي(ص162-165). وربما من المفارقات الفاقعة في هذا الصدد، غياب اسم محمد الحيحي في سياق تأبين محمد السملالي، وهو توأم روحه، وقرينه في العمل الجمعوي، وفي تدبير أمور الجمعية المغربية لتربية الشبيبة.
لقد أَبّن عبد الرحمان اليوسفي سي محمد السملالي في ذكراه الأربعينية، ونشر شهادته في سيرته أحاديث في ما جرى، ولم يذكر الحيحي ولا أومأ إليه، مع أنهما قرينان متلازمان، يتعذر ذكر الواحد دون الآخر. ماذا جرى؟ ذلك ما يعزز حضور الجمعية المغربية لتربية الشبيبة وغياب رئيسها وأبيها الروحي، لمدى عقود من الزمن، بإنجازاته وأفضاله العديدة على شباب كثير من شباب المغرب، في القرى كما في البوادي.
ولا غرابة في الأمر فقد اختار محمد الحيحي أن يتحرك في الظل وبعيدا عن الأنوار على غرار كثير من أقرانه عصرئذ. ربما كان الاهتمام في الإعلام والمناسبات ينصبّ على «نجوم» الحركة الوطنية والحزبية والسياسية من القيادات والزعماء والمؤثرين منهم، دون غيرهم من قيادات المجتمع المدني بمختلف أطيافه، فقط لأنهم يشتغلون في عمق المجتمع وعلى هامش مؤسسات الدولة دون صخب السياسية و»صراعاتها».
غير أن ما أثار انتباهي، ولأول مرة، ونبهني إلى سي محمد الحيحي وقيمته الوطنية والجمعوية وما يليهما، ذلك التقديم الباذخ التي دبج به إدريس اليزمي كتاب جمال المحافظ، حفريات صحفية، من المجلة الحائطية إلى حائط فايس بوك (2022). إذ عوض أن يدشن حديثه عن صاحب الكتاب ومحتوياته، افتتح تقديمه بالحديث عن الراحل محمد الحيحي قائلا: «التقيت المرحوم السي محمد الحيحي(1928-1998) لأول وآخر مرة في بداية التسعينيات من القرن الماضي. كان ذلك، إذا لم تخنن الذاكرة، يوم إثنين من سنة 1991، كنت يومها أشتغل بزنقة لافونتين-أو-روا، قرب ساحة الجمهورية بباريس، مقر الجمعية التي كنت أعمل بها. لم يسبق لي أن التقينا أو عملنا معا، سي محمد الحيحي وأنا، ولكن كان كل واحد منا يعرف الآخر بالاسم. بيد أن توقفه بالعاصمة الفرنسية بباريس بمناسبة حصوله على جائزة تكريم من لدن إحدى المنظمات الأمريكية المعنية بحقوق الإنسان، تلقيت اتصالا هاتفيا منه واتفقنا على اللقاء بمكتبي.
لم أتعرف إذن على هذا الوطني الذي كان مقربا جدا، وعلى أكثر، من صعيد من المهدي بن بركة والذي كان رئيسا للجمعية المغربية لحقوق الإنسان ما بين 1989 و1992. ولكن يبدو لي أنني تعرفت على روحه وتأثيره الذي كان له طابعا يتميز به، وأنا أتابع، منذ حوالي 15 عاما، بعض الأصدقاء والصديقات، وهم يعملون ويفكرون وينشطون ضمن الحياة السياسية والاجتماعية. إنهم قدماء الجمعية المغربية لتربية الشباب (لاميج) التي أنشئت مباشرة بعد الاستقلال في 19 ماي 1956»( من تقديم اليزمي، ص3). إنها الجمعية التي تم تأسيسها بأمر من المهدي بن بركة وتحت إشرافه، وتولى رئاستها في البداية عبد السلام بناني وبعده محمد الحيحي ولعقود طويلة(1964-1998). وقد أنشئت ضمن دينامية جمعوية أسهمت في تكوين أجيال من المناضلين والمناضلات تلقت تربيتها في مدرسة الالتزام والمواطنة ما بين دور الشباب والمخيمات الصيفية، وورشات القراءة والأوراش المفتوحة والمغلقة…
غير أن اللافت للانتباه في تقديم اليزمي هذا، قوله، وهو يربط بين صاحبه ومحمد الحيحي:» جمال المحافظ الذي عرفته في زمن متأخر، هو ابن هذه التقاليد، إذ تمّ إعداده وتكوينه مباشرة من قِبل محمد الحيحي، وتأثير هذه المدرسة المستدام بادٍ في هذه المقالات المكتوبة من طرف مواطن يقظ تختبر يقظته في علاقة مع الأحداث التي يجد ضمنها دوما مبررا لكتابة مقالاته واختيار مواضيعها» (ص4). ذلك ما انعكس بقوة في كثير من مقالات هذا الكتاب لجمال المحافظ قبل أن تباغثه الثورة الرقمية وحائط الفايس البوك، وينبه إلى القطيعة التي ستطال مرحلة وتؤسس لأخرى.
ليبقى، بناء على ما سبق ذكره، كتاب الصديقين المواطنين الحيحيين: الحاج جمال المحافظ والمجاهد عبد الرزاق الحنوشي، محمد الحيحي ذاكرة حياة (2024)، لحظة مفارقة، على الأقل بالنسبة لي، وربما لمن جاء الجمعية المغربية لتربية الشبيبة من الهامش، في اكتشاف شخصية وطنية سامقة من طينة القائد الميداني محمد الحيحي وما قدمه لمغرب ما بعد الاستقلال، ومن مواقع تربوية وسياسية وحقوقية وجمعوية، وهو يطبق، بلغة حسن بنعدادة، أحد خريجي مدرسة الحيحي، ما عبر عنه ب» وصايا المهدي بن بركة» (ص118-359).
وبناء على كل ما مضى واستحضاراً له، يمكن أن أدعي أن من حسنات كتاب محمد الحيحي ذاكرة حياة للمحافظ والحنوشي، ومدار فضله كونه نقل الشهرة من الجمعية المغربية لتربية الشبيبة إلى رئيسها ولازم الحديث عنهما، بل نقل الهامش إلى المركز والمركز إلى الهامش وسوّى بينهما، على الأقل لكثير من المنتسبين للجمعية دون وعي منهم. أكثر من هذا، فقد أسهم هذا الكتاب «الاستثنائي» في بابه، في إبراز الرسالة التي انتدب لها سي محمد الحيحي والأدوار التي قام بها من أجل هذا. ذلك بعض ما سنبسط القول فيها في المحطة الموالية.
ثانيا-عن كتاب، محمد الحيحي ذاكرة حياة: من البناء إلى سؤال الشباب ورهاناته
في بناء الكتاب وحيثياته: ملاحظات واقتراحات
يُعد كتاب، محمد الحيحي ذاكرة حياة لجمال المحافظ وعبد الرزاق الحنوشي لحظة فارقة في تاريخ المغرب الحديث، لما يتضمنه الكتاب من شهادة تزيد عن الخمسين في حق محمد الحيحي، و»تراثه» المادي واللامادي. وهي شهادات ثمينة من أجيال مختلفة، ومن زوايا متعددة، وأساليب متنوعة، وحسب درجات القرب منه أو البُعد عنه، من أقرانه وغير أقرانه، وفي مجالات تتقاطع واهتماماته المركزية. شهادات في كتاب تؤرخ لأحداث تاريخية وسياسية وحقوقية وثقافية وفكرية واجتماعية وأخلاقية وتربوية كانت مقدمات مفصلية لما صار عليه مغرب اليوم، وما سيصير عليه في المدى البعيد والراهن.
إنه كتاب يشهد على تاريخ وضع لبناته الأولى جيل الحركة الوطنية، وقادات التحرر الوطني والقادة السياسيين، ويوثق لمدرسة وطنية تراهن على «الشباب توجيها وتأطيرا ونصحا ورؤية» (ص8) في أفق بناء مغرب جدير بمغرب الاستقلال، وانتظارات أهله. وأعتبر الشهيد المهدي بن بركة، ومن في مقامه، وامتداده في محمد الحيحي، ومن تقيّلهما، بشائر تلك المدرسة وأفقها المنظور.
علاوة على ما سبق، فإعداد كتاب ضخم (437 من القطع المتوسط) عن مسار محمد الحيحي، وتخليد ذاكرته في أبعادها المركبة والمواكبة، عمل من قيمة تاريخية فائقة الرمزية، أَبَى مُعِدّاه ومُنسّقاه إلا أن يُرمّما صورة وطني فذ، ويرسما ملامح رجل رافق الشهيد المهدي، وآمن برسالته، فحافظا عن ذاكرته وصاناها، وضحيا من أجلها، سواء بجمع تلك الشهادات وتصويبها وتجويدها وترتيبها وتصنيفها وتبويبها وترجمة بعضها أو التعليق على البعض الآخر. فضلا عن إضافة استهلال وحوار وملاحق وصور فتوغرافية نادرة، وباهضة في القيمة. الشيء الذي عكس بجلاء، جميل اعترافهما، ودرجة وفائهما، وقدْر تعلقهما بأستاذهما ومربيهما وقدوتهما. قيمة الرجل ومسار ما كان ليكون لهما ذلك لولا أنهما من الأوفياء لمدرسة محمد الحيحي ومن أشباله البررة الذين أعادوا الاعتبار لرجل يشتغل في الظل وينأى عن الأنوار. بهذا المعنى، فالكتاب إذن، كتاب رد اعتبار ووفاء، يعود الفضل المباشر فيهما إلى مؤلفيه، جمال المحافظ وعبد الرزاق الحنوشي، ويعود الفضل غير المباشر لأعضاء حلقة الوفاء لذاكرة محمد الحيحي.
غير أن قارئ الكتاب، لا بد وأن يُحس، وهو يتوخى نوعا من «الكمال»، بصرف النظر عن المجهود «الخرافي» الذي بذله المؤلفين، وعلى مستويات مختلفة، بِنوعٍ من الحَيرة والارتبَاك، وبعض الضّيق، وهو يتقدم في مساريب الكتاب وفصوله، وينتقل من قسم إلى آخر، إذ يحس أنه يعيد قراءته من جديد، ويُكرر مضامينه. يقرأ القسم الأول، وهو يعيد تركيب شهادات الشهود في حق محمد الحيحي، وتقديمها بأسلوب آخر، ثم يقرأ القسم الثاني، ليكون أمام تلك الشهادات كما قدمها أصحابها، فيعيد قراءتها من جديد، وإن بأسلوبين مختلفين. وهكذا، يستعيد قارئ الكتاب بعض محتوياته كلما تقدم في القراءة وتوغل. هكذا، فقد يقرأ القسم الأول من الكتاب بالقسم الثاني، والعكس صحيح. الأول، صاغه المؤلفان بأسلوبهما وركّباه على أساس قراءتهما وتأويلهما لما ورد في القسم الثاني من الشهادات، والثاني، شهادات «خام» كما قدمها أصحابها ومن أجيال مختلفة ممن جايلوا محمد الحيحي، أو تتلمذوا على يديه أبجديات العمل الجمعوي والتطوعي.
علاوة على ذلك، كان من الأجدى نقل مقالتي المؤلفين للكتاب من حيّز الشهادات إلى مساحة الفصل السادس، وضمن ملحق جديد، لكونهما يتضمنان من جهة شهادتهما على مسار قضّياه مع المرحوم محمد الحيحي، وفي الوقت ذاته، يحيلان على شهادات غيرهما بالشرح والتعليق والتحليل والتأويل، مما قد يخلق التباسا عند القارئ لا داعي له.
كنت أفضل، لو أمكن ذلك، ومن باب طلب تجويد الكتاب، تقديم القسم الثاني الذي يضم الشهادات، ويعرضها بنوع من «الحياد»، ليكون موقعها في القسم الأول، ويكون القسم الثاني، إن كانت الحاجة إلى ذلك، مجالا لتركيب المؤلفَين وتأويلهما، فإعادة صياغة أهم ما جاء في تلك الشهادات، فتركيبها بحس بيداغوجي، حتى تكون في متناول القارئ. في القسم الأول «حياد»، وفي القسم الثاني قراءة وتأويل وتركيب وانتقاء بلمسة المؤلفين وبصمتهما، تتمثل في كثير من العبارات والروابط الدالة على ذلك (… قال في شهادته، حكى، أعرب، أكد، توقف، بدأ، وصف، في رأي أخته، في رأي زوجته…).
وددت لو أعيد بناء الكتاب ليحكمه منطق غير الذي بُني عليه، تجويدا لعمل كان من المفروض أن تتكفل به مؤسسة قائمة الذات، بلوازمها وإمكاناتها المادية والبشرية، عوض فردين معزولين ومعتزلين إلا من صِدق وفائهما وخالص انتمائهما لمدرسة تخرجا منها، ولها فضل عليهما. لعل ذلك ما أدى إلى عزف بعض النوتات «النشاز»، على قلّتها، في سمفونية كبيرة بحجم ذاكرة حياة سي محمد الحيحي، ذاكرة بحجم وطن.
في تقديري كقارئ ومحلل للخطاب، ولو خُيرت في إعادة ترتيب محتويات الكتاب، وإعادة بنائه، فلن أتردد في أن أحتفظ على تقديم الكتاب، وألحق «استهلال» محمد برادة، والزاوية التاريخية لمحمد معروف الدفالي، بالشهادات التي تناسبها مساحة القسم الأول من الكتاب، وإن كانت الأولى تؤرخ لمسار مفارق جمع تلميذا بأستاذه، وصار فيه الأستاذ طالبا، والثانية تؤطر المسار التاريخي للعمل الجمعوي في المغرب الذي يُعد محمد الحيحي واحدا من حلقاته الأساسية.
بعبارات أخرى، كان من الممكن أن يخصص القسم الأول من الكتاب لشهادات من عاشروا الراحل محمد الحيحي وعايشوه، بدرجات متفاوتة، قربا أو بعداً، ومن كل الأجيال المتعاقبة، يضاف إليه عوض عنوان: سادسا، تسمية الفصل بالسادس ووسمه ب، «الذاكرة من خلال الصور والوثائق»، يبدأ بضميمة أو ملحق رقم1، يتضمن حوارا سابقا مع محمد الحيحي في صحيفة النشرة سنة 1994؛ وهو أقرب إلى الشهادة منه إلى شيء آخر( شهادة / حوار، أو حوار / شهادة، ص410 وما بعدها)، وبعدها ضميمة رقم 2 عن قرار الغُرفة الإدارية حول إضراب محمد الحيحي، وهي وثيقة تاريخية ثمينة للمختصين من الحقوقيين وغيرهم، ثم ضميمة رقم 3 تكون مفيدة للتعريف بحلقة الوفاء لذاكرة محمد الحيحي ودورها في حفظ ذاكرة الجمعية المغربية لتربية الشبيبة ومهندس أنشطتها المختلفة، ثم ضميمة رقم 4 عن ذاكرة محمد الحيحي بالصور الفوتوغرافية، على غرار كثير من السير الذاتية أو الجماعية، أما كلمة محمد بنسعيد، باعتباره أول كاتب عام للجمعية فأولى أن تلحق بالشهادات، في أي موقع يقدّره المنسقان، في حق الراحل محمد الحيحي في القسم الأول، بما هي حصيلة شهادة لشاهد فعلي على التأسيس ولسيرورة التطور والاستواء والثمار.
سؤال الشباب: مدار الكتاب وخيطه الناظم
لمن قرأ كتاب، محمد الحيحي ذاكرة حياة، وتمعن في محتوياته، وتوقف عند مفاصله الكبرى، واستحضر حيثيات تأسيس الجمعية المغربية لتربية الشبيبة وخلفيات من أمر بها وأشرف عليها، يدرك، في نظري، أن سؤال الشباب وإعداده وتأطيره وتأهيله لبناء مجتمع الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة، هو مدار الكتاب، ورسالة محمد الحيحي ومن كان معه. فلا تجد في الكتاب شهادة أو تعليقا أو بوحاً أو سرداَ… إلا وكان الشباب مداره. فسؤال الشباب سؤال يخترق الكتاب من ألفه إلى يائه.
في تقديم الكتاب الذي أعدته حلقة الوفاء لذاكرة محمد الحيحي، وتحت عنوان، «الحيحي تراث حي ومعين لا ينضب»، نقرأ ما يلي: «لم يكن الحيحي معروفا بمواقفه السياسية فقط، بل بفلسفته التربوية والأخلاقية والاجتماعية التي لامست مجالات متعددة متنوعة تجمع بين ما هو جمعوي وحقوقي وتطوعي في ظل قيم إنسانية نبيلة مشرقة ومشرفة. وهو الأمر الذي جعله يؤسس لمدرسة كرست اهتمامها للاشتغال مع الشباب، توجيها وتدريبا وتأطيرا ونصحا ورؤية…»(ص8). وهي الخلاصة التي تشهد لها أغلب الشهادات الواردة في الكتاب.
فقد كان الحيحي، بلغة عبد الرحمان اليوسفي» رسولا يحمل لشباب المغرب الصاعد تعاليم حب الوطن والتضحية من أجل تحريره والذود عن حرمته وسيادته وعزته وكرامته»(ص163). لقد خُلق الحيحي للعمل الجمعوي، بعدما «أعياه» العمل السياسي والحزبي وحدة تناقضاته وشدة صراعاته، فوهب نفسه وحياته للشباب من موقع آخر، وقرر بلغة محمد اليازغي «التّفرغ بشكل نهائي لخدمة قضايا الطفولة والشباب»(ص168) وضمن «آفاق تنظيمية لاستيعاب الشباب وتأطيره»، على حد تعبير عبد الواحد الراضي (ص179) لأن الشباب وحده القادر على بناء مغرب جديد.
يقول عبد لله ساعف في شهادته مؤكدا زعمي ذاك، ومُدعما فرضية الانطلاق أعلاه:» من جهة أخرى كان الحيحي كلما تذكر مواقف وتصرفات صهره المهدي بن بركة والسيرة الاستثنائية لهذا الأخير، فإنه كان يتذكر تأكيد هذا المعارض الكبير الذي قد يكون تعرض للتصفية الجسدية على قضية أساسية كانت تشغل باله هي: الاهتمام بالشباب، وهو انشغال كان يحتل مكانة كبيرة في فكر بن بركة كما كان يكرر دائما الحيحي؟ (ص190). ألم يخلص المجاهد عبد الرزاق الحنوشي، وبعد استقراء لمختلف الشهادات الخمسين التي وردت في الكتاب لمجايلي محمد الحيحي والمُعاشرين له بأنه «راهن على الشباب» (ص396)، ومن أجلهم عاش.

لقد وضع عبد الله ساعف في الاستشهاد السابق، يده على سر اهتمام محمد الحيحي بالشباب، من الواجهة الجمعوية، بالتحديد، لمّا أقرنَه بالمهدي بن بركة. فلماذا الاهتمام بالشباب؟ وما صلة الحيحي ببنركة؟ وهل هناك بالفعل أسرار جمعت بين الحيحي وبن بركة، ولأي هدف إستراتيجي كان ذلك؟

كان الصراع محتدما بين قوة الاستعمار والحركة الوطنية من جهة، وزاد احتداما بُعيد الاستقلال بين قادات الحركة الوطنية، والموالين “المغاربة” للاستعمار من “القوة الثالثة” بلغة الجابري (ص-37- -28/6)، من جهة ثانية، وبين أجنحة الحركة الوطنية نفسها، تقدما وارتكاسا، من جهة ثالثة، وبين جناح النقابة والحزب الذي ينتمي إليه المهدي بن بركة من جهة رابعة، وجناح آخر من أجنحة النظام التقليدي من أنصار الحكم الفردي من جهة أخرى. كانت حدة الاستقطاب كبيرة وشديدة عصر ذاك بين مختلف الأجنحة، وكان الشباب بالدرجة الأولى، مدار هذا الصراع، ومجال ذلك الاستقطاب. فلم يكن من جناح المهدي بن بركة ومن معه سوى الرهان على الجمعيات الشبابية، بملامح يسارية، ومن منظور إستراتيجي تنظيمي واسع لعلّ من تجلياته، بلغة عبد الواحد الراضي، “استيعاب الشباب وتأطيره” (ص90) واستقطابه بتأسيس جمعيات في هذا الاتجاه، من أشهرها جمعية الاتحاد الوطني لطلبة المغرب (UNEM)، وجمعية الطفولة الشعبية (MTC)، والجمعية المغربية لتربية الشبيبة ((AMEJ.

كان المهدي بن بركة، بتعبير اليوسفي “مُولعا بلقاء الشباب”(ص130)، وكان من الطبيعي والحال هذه، أن يخلق له إطارات للتأطير والتكوين والإعداد للمهام السياسية التي سطرها وفق إستراتيجية تتخطى حدود الوطن في لحظات تاريخية لاحقة. كان الشباب دائما عبر التاريخ وعند جميع الأمم مدار الرهان للتجديد أو التغيير أو ما في معناهما. ذلك ما تنبّه إليه أحد خريجي المدرسة وكبار المُحتكّين بالراحل محمد الحيحي، لما قال، مع مراعاة الاختلاف بين السياقين الثقافيين، والزمنين الحضاريين:” …تعود إلي صورة سقراط حين اتهمه قومه بالهرطقة وإفساد الشباب، وحكموا عليه بالموت عبر تجرع قدح السمّ (ص229).

كان الصراع دوما، عبر تاريخ الإنسان، حول السلطة والمشاركة في الشأن العام، وتدبير أمور الدولة/ المدينة (من يحكم؟) وإن اختلفت الأدوات الموظفة لتحقيق ذلك، وتنوعت الرهانات، وتعددت المآلات. لم يكن موت سقراط من أجل فكرة مجردة، ولا كان مبعثها فلسفيا تأمليا، بقدر ما كان سياسيا صرفا (من يقنع أكثر ليحكم ويسود؟).  من يُعلم الشّباب ويؤطرهم ويُكوّنهم ليسوس الدولة ودواليبها. ذلك ما خلص إليه أحد كبار الفلسفة والبلاغيين والقانونيين الغربيين المحدثين، وأقصد شاييم بيرلمان (Ch. Perelman)، لما أكد أن مدار الصراع عصرئذ بين الفلاسفة والبلاغيين، أو “السفسطائيين”، هو من هو أولى “بتربية الشباب؟ أهو البلاغي “السفسطائي” أم الفيلسوف؟ لمن يجب أن نعهد بتكوين رجالات الدولة الذين سيتولون تدبير شؤون المدينة وحكمها؟ (L’empire rhétorique, p10).

مراعاة للفروقات الممكنة بين تجربة اليونان القديمة والمغرب الحديث، واستحضارا لاختلاف السياقات، فالأمر في جوهره واحد، وإن اختلف الزمن، وتغيرت الأدوات، وتنوعت الرهانات، وتبدل الرجال. فقد كان المهدي بن بركة صاحب قضية ومشروع لبناء دولة، كما يتصورها إلى جانب نظام الحكم عصرئذ، وفي خلاف مع جناح منه، وصراع مع الجهاز النقابي معه، ناهيك عن مؤامرات الاستعمار الجديد في العالم، وما كان يعرف عصر ذاك، بالإمبريالية العالمية.  فالمهدي بن بركة “ظاهرة فريدة، وأمة وحده” بلغة الجابري(ص81/7).  ومن الطبيعي أن يكثر خصومه، ويكشر أعداؤه، علما بأن الراحل “قد خُلق ليتحرك ويُحرّك” (ص171 الراضي)، يفكر ويتحرك، ويُنَظّر ويُمارس، يَقترح ويُكلف، يحضر ويغيب ويحضر إلى الأبد، “وكأن الله خلقه من صلصال آخر”، بتعبير الراضي (ص177).

لم يكن محمد الحيحي من طينة المهدي بن بركة ولا بأفقه الكوني الممتد، ولكن كان منخرطا في ذلك الأفق، ومقتنعا به، وحريصا على الانتظام فيه والإخلاص له ولصاحبه وطموحه السياسي، ومجتهدا في الارتقاء إلى ثقته. لذلك يتعذر فصل مسار المهدي عن مسار الحيحي. الأول من موقع التنظير، والثاني من موقع التنفيذ، ويصعب فهم أفق الثاني بعيدا عن أفق الأول. ذلك بعض ما يشهد له ما ورد في الحوار الصحافي الذي أجرته معه صحيفة النشرة، ويعضده، وذلك ما خلص إليه في الآن نفسه، أحد محاوريه وانتهى إليه أحد نُجباء مدرسته لما قال: “كان أول المتحمسين والفاعلين الأساسيين الذين اعتمد عليهم الشهيد المهدي بن بركة في وضع مشروع طريق الوحدة حيز النفاذ، تصورا وتنظيما وتأطيرا وفلسفة…هذه الثقة الكبيرة بين الرجلين (بن بركة والحيحي) والتي نشأت قبل طريق الوحدة وتقوّت بعده…”(ص397).

أما بعد،إن فهم مسار محمد الحيحي وإعادة بناء ذاكرته وبث الحياة فيها رهين باستحضار مسار المهدي بن بركة وسيرته الوطنية. فقد كان الشهيد صهرا لمحمد الحيحي، قريبا منه، وكان الحيحي مؤمنا بخط قائده السياسي، ومنتظما في إستراتيجيته، وواثقا في بُعد نظره (ص397 الحنوشي)، بل ومؤتمنا على خياراته الكبرى، ومنفذا لها، خاصة لما راهن على الشباب وتربيته، مما جعل الجناح المعادي له من النظام الحاكم وقتها، إبان تنزيل مشروع طريق الوحدة، “يشي إلى ملك البلاد ويخبره بأن هؤلاء المتطوعين الذين يتم تكوينهم ليسوا سوى الأنْويّة والخلايا السّرية التي يُخمّرُها المهدي لثَورتِه المُقبلة. نْهار يضْغَط علَى الزّر غَدِين ينُوضُوا ليِها” (ص183 الراضي).

فإن مات سقراط “بسذاجته” و”غروره”، وربما  ب”كبريائه” و”عنجهيته” و”تعاليه”، وعبر محاكمة علنية، وبشروطها المَرعية عصر ذاك، فإن المهدي بن بركة، مع مراعاة الفروقات الممكنة، لم يُقدم إلى محاكمة، ولم يرافع للدفاع عن نفسه وأفكاره، ولم يصدر الحكم عليه من هيئة القضاء بشرب السّم، وما سواه، ولكن تمّ  اختطافه وتعذيبه واغتياله بأبشع الطرق وأكثرها همجية. ولا غرابة في الأمر، كما عبّر عن ذلك رفيقه محمد عابد الجابري، لمّا قال وجمع فأحكم:” والحق أن الشهيد من أولئك الأشخاص الذين يشكلون مصدر قلق وخوف للشركاء والأصدقاء قبل الخصوم والأعداء. كان فكرا يتحرك وحركة تفكر. كان الزمان والمكان يفقدان جوهرهما معه، لأنه لم يكن يعترف، لا في تفكيره ولا في سلوكه بالمسافة. كان الناس، وخاصة المتصلين به، يشعرون به حاضرا في الزمن الواحد في أمكنة متعددة، ويرونه في المكان الواحد يتنقل بين أزمنة مختلفة”. ويضيف، بعد بسط ظروف اختطافه وملابسات اغتياله، في الداخل كما في الخارج:” كان الشهيد المهدي بن بركة “أمة وحده”، ولذلك كان لا بد من تواطؤ جميع “أُمَم الشّر” ضده حتى يصبح في الإمكان القبض عليه. لم يعد سِرا أن المهدي ذهب ضحية تواطؤ المخابرات الأمريكية والمخابرات الفرنسية والمخابرات الإسرائيلية، و”الكبار” “الأقزام” من عملاء الاستعمار في المغرب”.(ص15- 127/7).

غير أن إيمان رفاق الشهيد المهدي بوطنيته الثابتة، وعبقريته الفذة، وفي مقدمتهم محمد الحيحي، جعله يخلص لمشروعه السياسي والحضاري، وينخرط في أسئلته ومقترح أجوبته، وهو “قُدوته وعُمدته”(من شهادة أميلي حسن، ص356) وعلى رأسها سؤال الشباب وتكوينهم وتأطيرهم وإعدادهم من أجل رسالة حددتها القيادات السياسية والوطنية في بناء ” مغرب آخر، مغرب أكثر عدلاً وأكثر إنصافاً” (الحنوشي ص396). وهو المغرب الذي عاش من أجله عريس الشهداء المهدي بن بركة، ومن أجله “استشهد” مغدورا، وعلى خطاه سار محمد الحيحي وفاء بوفاء، وعلى هَديه مَشت باقي الأجيال مِن بَعده، وتلك رِسالة جِيلٍ لِجيل…/.

 

 


الكاتب :   إدريـس جــبـري

  

بتاريخ : 22/06/2024