سؤال الوجود والمعنى رواية « الوراق، آمالي العلاء» ليوسف زيدان

«إذا ماتَ العَلا ماتَ العُلا»
ي.زيدان

في طبعتها الثانية2023، وفي 286 صفحة من القطع المتوسط، عن دار الشروق بمصر، تنقلنا رواية «الورّاق، أمالي العلاء» ليوسف زيدان، من سيرة الورّاق سفير، في الوراقة كفَنٍّ في النسخ والكتابة، في ق7 الهجري إلى سيرة العلامة والطبيب ابن النفيس. سيرة الرجل في علم الطب، وفي أحوال السياسة في زمن مصر المملوكية.

أسلوب يوسف زيدان في كتابة الرواية، كما عهدناه في عزازيل، وفردوقان وفي غيرها، لا يختلف من حيث رصانة اللغة ودقة الوصف، والحبك السردي، والحجاج الفكري والمعرفي. وهو بهذا يتفوق في كتابة رواية تاريخية للمشرق العربي، مصر، الشام والحجاز، وبخاصة خلال الفترة الأيوبية والمملوكية، وغزو التتر للعراق والشام.
وقد لا نتفق مع بورخيس، حين أعلن، وهذا تقديره، ورهانه، بعد تجربة طويلة في الكتابة الشعرية والسردية، أعلن عن إخفاق الرواية مستقبلا. لكن يوسف زيدان، الخبير بأنماط الكتابة السردية العالمية والعربية، وبتاريخ الأديان والمذاهب والفكر الإسلامي والمسيحي واليهودي، يتمكن من سبر عقليات وخصوصيات شخوصه، وواقعه الاجتماعي والسياسي والعلمي. يكشف عن مسار آخر للرواية العربية، حيث تمثل ليس، خيار عدائي المسافات الطويلة، بل جنس الصمت الذي يخرق الكلام، بكثافة اللغة، ودلالة الرمز. وأن الأدب جسر الفلسفة إلى التفكير والتعبير.
وبالتالي فالمتتبع لرواية «الوراق»، بحبكتها السردية، وبلاغة أسلوبها، في ضبط الأحداث، وسيرورة القصص، وتقاطعاتها، قصة الوراق وقصة ابن النفيس، واستنادا إلى متخيل تاريخي، تبرز أن كتابة التاريخ، بواسطة الرواية، قد تبدو ذات جاذبية وجدوى، بكفاية معرفية، وسلاسة في التعبير.
وإن المرور من حدث التاريخ إلى سرد الرواية ، كتابة أخرى في رتق الصمت الذي قد يتخلل لغة المؤرخ، كما قد يجعل من كتابة الحدث روائيا، أجمل من صرامة المؤرخ في بناء الحدث والبحث له عن استدلالات عقلية وحجاج برهانية، باستحضار خطوات المنهج، ووجهة التاريخ. وهو ما ليس خافيا على يوسف زيدان، في تقديم القص والحبك التاريخي بلغة ريكور، بالتلازم بين السرد التاريخي والسرد التخييلي في رواية الوراق، الذي يقدم حياته قربانا للنسخ والوراقة والحفاظ على المخطوطات والآثار المكتوبة من التلف والإهمال، لتقدم عملا أدبيا ومادة للكاتب والمؤرخ. يستند إليه في عماه وأسفاره سردا للتاريخ ووعيا به، وتأليفا لسرد روائي يبدو ظاهراتيا بالمعنى الفينومينولوجي، واستبصارا سوسيولوجيا لعالم الكتابة والمجتمع والفكر والعلوم.
ويستحضر يوسف زيدان المتخيل التاريخي العربي والإسلامي، لتوضيح انتصاره للعقل في العلاقات وفي المجتمع الحالي، من خلال ما ورد في متن الرواية من إشارات متعددة وعلامات دالة فكرية واجتماعية، ولما تعرض له المجتمع المصري والمشرقي عامة من أوبئة وأزمات اقتصادية واجتماعية، وما تخلل الخطاب السردي لحياة الوراق وسيرة صديقة الطبيب ابن النفيس، من علاقات بالفكر الصوفي ممثلا في ابن عربي وابن سبعين وغيرهما. وفي إبراز البعد العلمي والموسوعي لرجل العلم آنذاك، في علاقة ابن النفيس وكتابته في علوم اللغة والمنطق والحديث والطب، طب العيون، وقراءة كتب العلوم العقلية الحقيقية، وبخاصة كتب ابن الهيثم، التي تعتمد المنهج الاستقرائي العقلي، والذي يختلف عن المنهج النقلي الذي يعتمد الرواية والسند.
وإذ يصل الكاتب في نهاية الرواية إلى بعض الخلاصات والأفكار التي تشكل نسغها، وهي أصلا تتمثل في قيم التسامح والفضيلة وخدمة العلم والمجتمع، وهو ما اتضح من تلكؤ ابن النفيس في قبول خدمة السلطة (الظاهر بيبرس)، والتزامه بالاشتغال في طب العيون، ومعالجة الناس من مختلف الطبقات، رغم تشبث السلطة به، في خدمة السلطان، فلأنه فضل الاشتغال في التكوين العلمي والتربوي، وفي ملازمة البيمارستانات، وفي القراءة والكتابة في علم طب العيون، استهدافا لتحقيق غايته وهي « ليكون لحياته ووجوده معنى».
في يوم الختام يطرح الوراق تساؤلا وجوديا، عن جدوى العمر وما معناه حين أكد أن ليس للوجود معنى في ذاته بعيدا عما يرسمه كل إنسان لنفسه. وقد كان العلاء ابن النفيس في نظره بليغا حين قال «اجعل لوجودك معنى».
وإذا كان العلاء قد حقق هذه الغاية في ما ألفه من تآليف في الطب، فالورّاق لم يصل الى ذلك لأنه عاش مستترا ومتخفيا وتائها. وصح لديه بعد طول عمر وتفكير أن الوجود لا عقل له، وأن الزمان يعبر علينا بأقدام أعمى، يسري في صحراء بلا نهاية بلا هدى. وأن الناس سواسية في التوهم، ولا شيء يدوم، وكل الخواتيم انتهاء. والنسيان سيلحق بالجميع في آخر المطاف. النسيان هو آخرة المطاف، والخلود وهم جميل.


الكاتب : جمال أمّاش

  

بتاريخ : 29/12/2023