ساحة بوجلود أو مملكة الخطاطيف

جلس با دريس (الأب ادريس) كآخر حكواتي مدينة فاس فوق كرسيه القماشي، كنصب تذكاري شاهد على حيوية كانت الساحة تتمتع بها يوما ما، حين كانت تعج بحلقات فرجة الشارع: موسيقيون،راقصون، بهلوانيون وحكواتيون. حين كانت المنافسة متعددة ومتنوعة، تقدمها أصوات تردد صداها في الأسوارالمحيطة بهذا الفضاء التاريخي، أصوات حكواتيين مثل الجناتي، برق العيار، سيد الغالي، حربة ،الذي كانت كل مشاهده الحكائية ذات مخيال مستقبلي.الملاكم البهجة، عيشة بطيط وسيد الحسين، أصوات دفوف مروضي الأفاعي والأهازيج وصدى النواقيس النحاسية (للكرابة) قرابين الماء للعطشى وقائمة اسماء كثيرة. لقد رممت هذه الساحة وصار لها بلاط ومدرجات لكن مجدها، الذي كان يقوم ذات يوم على ذلك الكم الهائل من الحلقات كمتنفس فرجوي للبسطاء، قد هجرها ومدرجاتها فارغة إلا من أجساد هامدة تجلس متفرقة تأمل كل عشية في هواء غير هواء يومها العادي، الذي ألفته خلف الأبواب الموصدة .لم تعد الساحة مملكة الفرجة، التي كان يحج اليها سكان فاس البسطاء كل يوم وبالمئات من كل حذب وصب، ليستمتعوا بتلك اللحظات، التي تملأ فيها الاصوات سماء الامكنة بصخبها ومروياتها. اما الان فالفضاء مملكة للخطاطيف، وحدها من تقوم كل مساء ولساعات بعروضها الجوية المصحوب بصفيرقوي في سماء الساحة. حيث تعشش بأسرابها التي لا حصر لها في ثقوب الأسوارالشاهقة المسننة في أعلاها والتي تحف الساحة من الجنوب والشرق والغرب، ثقوب غائرة، مصففة في تباعد هندسي، خصصتقديما مأوي للطيور و للحمام البري.
هذه الأسوارالشامخة، التي بقيت على هيئتها الأولى منذ القرن 13، الفترة الأخيرة من حكم دولة الموحدين (1147-1269) تخفي وراءها عوالم وألغازا تاريخية لم يتم كشفها حتى اليوم، ابتداء من اسم الساحة، بوجلود او أبي الجنود اسمان، لم يحسم الخلاف فيهما بعد.فهل للاسم الأول المتداول نبع من الجلود كما يخمن الرحالة الالماني غيرهارتس غولف، الذي عاش في فاس في منتصف القرن 19 وكتب عن هذه المدينة فصلا مسهبا كجزء مميز في كتابه «اقامتي الاولى في المغرب»، حين يقول في أحد هوامش الكتاب: „من الجائز انه كانت هناك عند الواد ، حيث يجري واد سبو قريبا جدا من القصر مدبغة بتسمية مماثلة لقصر الحاكم الفرنسي في باريس.» Tuilerie، (صناعة القرميد). أم هواشتقاق من المرحلة، التي كانت الساحة مكان تجمع واستعراض الجنود المرابطين والموحدين في طريقهم إلى الأندلس أو إلى ثغور غيرها، كما يشير إلى ذلك الكاتب هنري دي كاسترفي كتابه «مذكرة تاريخية حول قصر بوجلود»؟ و كما يؤكد روجي لطرنو في كتابه، فاس ما قبل الحماية، وما بوجلود إلا تحريف شعبي لإسم ابي الجنود، المكان الذي هو مثبوت دائما في جميع الوثائق المطبوعة.
لساحة بوجلود شكل قلعة أو حصن شاسع، تحفها قصبتان كانتا رباطا للجنود، حميتان لمدينة فاس من جهة الغرب قبل بناء فاس الجديد. الأولى الغربية قصبة بوجلود، التي أسسها المرابطون (1046 – 1147) وأعاد بنائها الموحدون لتصبح سكنا ومقر إدارة ولاتهم على المدينة وأضافوا إليها مسجدا باسم القصبة له أبواب خمسة رمز الصلوات الخمس وصومعته الحالية ذات طراز الفن المريني. اليوم فقدت القصبة أسوارتأسيسها الأولى وأصبحت حيا سكنيا بدروب وازقة ملتوية وبهوية منغلقة تحجبها الدكاكين و المقاهي.

حلم وحدة الشرق والغرب

القصبة الثانية توجد في الشرق الجنوبي من الساحة ، قصبة ذات بوابة ضخمة جميلة وبمدخل واحد، لها أسماء عدة، قصبة النوار، قصبة الشرفاء او قصبة فيلالة . كانت هي الأخرى تكنة عسكرية من بداية القرن 13 ثم تحولت مع مرورالزمن محتفظة بأسوارها الأولى العتيدة، إلى تجمع سكاني لبقايا عائلات الجنود أو الوافدين على فاس، خاصة من المناطق الجنوبية الشرقية من المغرب.على بعد عدة أمتار من مدخل هذه القصبة تبرز بوابة أخرى، باب المحروق، الذي يربط الساحة بجنائن للخضروالمدافن وبالقصبة العسكرية، التي تقبع فوق الربوة، قصبة الشراردة، والتي تعود إلى منتصف القرن 17. باب المحروق،اسم مازال شاهدا على جريمة بشعة من القرن 14، إحراق جثمان العلامة الاندلسي الكبير لسان الدين ابن الخطيب (1313-1374)، الذي واجه نهاية همجية على يد أعدائه، الذين كادوا له حسدا من عند أنفسهم، على المكانة العالية، التي وصل إليها عند السلطان المريني ابي فارس (1349-1372). فقد لفقوا له تهمة الإلحاد والطعن في الدين والزندقة وغيرهذا ، ثم خنقوه في السجن، وبعد دفنه في المدافن المقابلة لهذا الباب، أخرج جثمانه في اليوم التالي من قبره واحرق فوق القبر. بعد أن استقال المغرب، أعيد له اعتباره وأقيم ضريح على قبره، كما سمي جزء قصبة الشرارة الشرقي، بعد تحويله بداية الحماية الفرنسية عام 1912 إلى مستشفى عمومي على يد الفرنسيين باسم الممرض كلود كوكارClaude Cocard، مستشفى لسان الدين ابن الخطيب. ومن الشخصيات السياسية، التي زارت ضريح ابن الخطيب رفقة الملك محمد الخامس جمال عبد الناصر في اول زيارته إلى المغرب سنة 1960.
من الجهة الشرقية الشمالية، تنفرج الساحة ببوابتها الصغيرة الجديدة ككوة اجتثت من بين ضلوع السورالعتيق امام حركة السير، على مدافن باب المحروق وعلى ضريح العلامة ابي بكر ابن العربي (1076 – 1148) احد كبار علماء الاندلس، الذي رافق اباه كسفير للمغرب إلى الشرق وإلى علمائه، حيث التقى بالغزالي والطرطوشي والشاشييحمل رسالة من يوسف ابن تاشفين إلى العباسيين تدعوهم إلىتوحيد الشرق والغرب الاسلامي.

المسرح والسياسة

على الجهة الغربية من الساحة تقف بواب احد القصور القديمة والذي يعود هو الأخر إلى فترة القرن 13وفي سنة 1917 حول إلى مؤسسة تعليمة كأول ثانوية حديثة في المغرب باسم مولاي ادريس، حيث مازلت هذه البناية حتى اليوم تحتفظ بطرازها المعماري المغربي الاندلسي مع اضافات من نفس المعماركمدرج للأنشطة التعليمية والفنية. عرفت هذه الثانوية انطلاق أول تجربة مسرحية في المغرب، حيث تأسست فيها عام 1926 أول فرقة مسرحية على الصعيد الوطني، كما تكونت بين جنباتها خلية نشطة من التلاميذ، الذين ساهموا في الفعل السياسي المطالب باستقلال المغرب.
في جنوب الساحة البوابة العظيمة باب بوجلود الثانية المفضية إلى فاس الجديدة، المدينة التي أسسها المرينيون (1244-1465) وأطلقوا عليها اسم المدينة البيضاء. قبل فتح هذا البوابة، كان هناك باب من جهة باب الشمس يفضي إلى قصبة بوجلود بنته فرنسا بطراز معمار فرنسي فأصبح يحمل اسم باب النصارى، الذي استاءت منه ساكنة فاس وامتنعت عن المرور عبره ، حتى إن بعض علماء فاس افتوا: «ومن دخله فهو كافر“. إلى أن هدم وتم بناء البوابة الحالية.
خلف بوابة بوجلود الثانية، مباشرة عند باب الشمس، التي تحاذيها، تمتد على مساحة 8 هكتارات الحديقة العمومية ذات الطراز المعماري المغربي، التي أنشئت في بداية القرن 18 وكانت جزءا من القصر الملكي خاص بالنساء. تم التنازل عنهاعام 1917 و فتحت كهدية للعموم ومن هنا جاء اسمها „جنان السبيل“ اي هدية. وتعد أقدم حديقة عومية في المغرب، فريدة في جمال هندستهاونباتاتهاالغريبة عن التربة والمناخ المغربي وفيها بحيرة كانت تسبح فوقها القوارب ومقاهي وناعورات مائية. إلا أنه لم يبق من هذه المقاهي الا واحدة تلتصق بالحديقة مباشرة، وهي عبارة عن حديقة صغيرة بمعرض داخلي لصور فاس في بداية القرن العشرين باسم «مقهى الناعورة»، التي تقابل ناعورة مائية عتيقة، كما تنفتح بوابة بوجلود الثانية على الطريق الواصل بين المدينتين فاس القديمة وفاس الجديدة، والحي اليهودي و القصرالملكي.

مشروع حداثة لم يكتمل

على الجهة الشرقية الشمالية من القصر الملكي و ليس بعيدا عن مقى الناعورة، توجد باب المكينة ، هذه المدرسة ومصنع للسلاح ، الذي لم تتبق منه الا بوابة ذات الطراز الايطالي الغريب عن المحيط المعماري،وقد تم بناؤه في سرية تامة بأمر من السلطان الحسن الأول (1836 – 1894) عام 1886و استغرق بناؤها أربع سنوات ومن تخطيط ثلاثة مهندسين إيطاليين تحت اشراف الكولونيل الإيطالي جيورجيو بروكولي، وجلبت لها آلالات من البندقية. فقد جاءت هذه المؤسسة العسكرية بناء على اتفاقية بين السلطان الحسن الأول والسلطات الايطالية، على إثرها أرسل المغرب بعثات طلابية إلى إيطاليا للدراسة في مجال الدفاع، ومن هنا جاء اسمها من اللغة الايطالية المكينة macchina. فهذا الفضاء الخارجي الشاسع أمام مدخل المكينة، له شكل ساحة مستطيلة مغلقة بأسوار شاهقة ولها بوابتان في نهايتي المستطيل، تحملان معااسم باب المكينة ايضا.قديما كان هذا الفضاء خشبة مفتوحة لفنون فرجة الشارع من حكي وموسيقى والعاب بهلوانية، الآن وفي شهريونيو من كل عام تنصب أمام بوابته الجنوبية خشبة عروض أهم مهرجان للموسيقى الروحية على الصعيد العالمي.
شمالا من الساحة وبمحاذاةالمدخل الرئيسي والشهير للمدينة القديمة بوابة بوجلود، فتح في سنوات السبعينات من القرن الماضي طريق في الطرف الشمالي لقصبة بوجلود يصلالبوابة بساحة البطحاء، التي كانت حتى بعد نقل العاصمة من فاس إلى الرباط سنة 1912 تمثل المنطقة الإدارية للدولة، حيث بقيت فيها حتى سنوات الستينات من القرن الماضي القنصلية الانجليزية، التي حولت لاحقا إلى فندق سياحي، المركز الثقافي المصري ومكتب الجمارك والمركز الثقافي الفرنسي ودور عدد من القادة السياسيين مثل احمد مكوار او المخزنيين مثل الباشا التازي كما تضم لائحة الموقعين على وثيقة المطالبة باستقلال المغرب عام 1944. فساحة البطحاءهي صلة وصل بين الأحياء الجديدة للمدينة فاس القديمة، التي أنشأت مع بداية الاستعمار وسلسلة القصورالملكية.
أولها قصر البطحاء ، الذي يتكون من قسمين، يطلق عليهما الدار الكبيرة وهو الجزء الموالي للمدخل والدار الصغيرة الجزء المقابل له وتفصل بينهما حديقة اندلسية شاسعة بممرات جانبة شبيهة بالطراز الصيني.كان قصر البطحاء إقامة صيفية ملكية معدة للاستقبالات، بدأ تشييده السلطان الحسن الأول وتم الانتهاء من بنائه أربع سنوات بعد وفاته سنة 1897. عام 1915 تم تحويله إلى متحف عمومي على يد الفرنسيين، حيث كان إلى سنوات الستينات من القرن الماضي يضم عددا من التحف و القطع الاثرية الرومانية ،عربة خيل كانت ملك السلطان الحسن الأول والقفص، الذي اعتقل فيه الثائر بوحمارة. (1860 – 1909) وأسلحة قديمة ومدافع من معركة واد المخازن (1578)، قبل نقل هذه إلى المتحف العسكري ببرج الشمال، المعروف ببرج النور، كما جعلت إحدى غرف المتحف إذاعة جهوية، بثت برامجها من هناك أول مرة سنة 1936 إلى ان اننقلت عام 1961 إلى فاس الفرنسية الحديثة.

سنفونية الخطاطيف

ساحة بوجلود عرفت تقلبات على مدى التاريخ . في بداية القرن العشرين كانت الساحة تحتوي على مجزرة تزود ساكنة فاس بحاجتها من الحوم ، ثم صارت سوقا لفحم الطهي وتدفئة المنازل، بعدها سوقا للخضار، كما كان فيها حمام تركي كانت ساكنة فاس تسميه „ حمام شبكوني“ الذي تم هدمه في منتصف الستينيات لتتحول الساحة إلى محطة لحافلات الأسفار خارج فاس.
حين يجلس با دريس ومن حوله ثلة صغيرة من السامعين، يجول من حين لآخر ببصره في الساحة، كأنه يستحضر تلك الحركة الذائبة لفرجة الشارع، التي كان هو أحد روادها إلى حدود الستينات. ثم أصبحت مسرحا لمنافسات الأحزاب،التي تصل إلى السلطة، فهذا الحزب يحولها إلى حديقة عمومية والأخر إلى محطات لحافلات النقل العمومي. ثم يعود الأول فيؤجرها كموقف للسيارات. لقد كانت هناك في الآونة الأخيرة محاولة لإعادة نشاط فنون فرجة الشارع للساحة، لكن الغزو الرقمي سرق منها زوارها إلى المقاهي بثمن بخس بقيمةكأس شاي او قهوة ، ليغرقه في المسلسلات ومنافسات الريال والبارصا.فحتى وإن بقي با دريس صامدا محبا وفيا لحكاياته كآخر حكواتي المدينة، فهو ملزم بإخلاء الساحة في شهر يونيو من كل سنة، وطي صفحة روح الساحة الأخيرة، لخشبة بعض عروض مهرجان الموسيقى الروحية عمومية، أو في شهر أكتوبر للطوائف الدينية، التي تتخذ الساحة منطق طريقها إلى تقديم كسوة الإجلال السنوية إلى ضريح مؤسس المدينة مولاي ادريس. (793 – 828)
فحتى وان كانت كل الانغام الموسيقية والأصوات الحكائية، قد توقفت عن تقديم عروضها في هذا الفضاء الرحب التريخي، فقد بقيت الخطاطيف وفية في تقديم سنفونيتها المسائية كل يوم و كل هذه الأعوام، لتحفظ من السماء للساحة ماضي مجدها الأرضي.


الكاتب : ادريس الجاي

  

بتاريخ : 26/02/2021