«سبع رسائل إلى صالح بن طريف»

أناشيد وترانيم تصب في حرقة وظلم التاريخ

 

«في برغواطة أمانة وبذل للطعام وتجنب للكبائر من الحرام والمحظورات من الآثام».
ابن حوقل

يبصم الكاتب و الروائي شعيب حليفي، الحائز على جائزة وزارة الثقافة المغربية لسنة 2020 عن روايته» لا تنس ما تقول»، نهاية السنة الحالية بعمل جديد، «سبع رسائل الى صالح ابن طريف» الصادر عن منشورات القلم المغربي.رسائل شوق وتوق الى زمن مؤسس الامارة البرغواطية، التي وجدت في غرب المغرب من عام 740الى1059م في بلاد تامسنا على ضفة المحيط الاطلسي، والتي كان يحدها شمالا واد بورقراق، وجنوبا واد أم الربيع وسجلماسة شرقا.
في هذه الرسائل السبع، يحاور حليفي الزمن وتعاقب السنين وطمس الهوية. يفتح نافذة، تهيب بالقارئ أن يلج يما عميقا، مغرقا في غياهب وهاد التاريخ. رسائل يعانق فيها الكاتب الذي عودنا على سرديات مفتتنة بالذاكرة الشفوية ، التي يسجلها بمداد الفخر والحسرة لعالم مرتع طفولته ومضارب والديه، في مدينة سطات ومنطقة الشاوية. يشخص هنا السرد الروائي والبحث التاريخي اللذين يسيران يدا بيد وقدما بقدم، امتزاج أحدهما بالآخر، كما يمتزج الزيت والماء. فهذه الرسائل السبع الى بويا صالح، كما يحب حليفي دائما أن يسميه، هي أناشيد وترانيم تصب في حرقة وظلم التاريخ ، لقوم «استعادوا (المغرب) الأقصى وخلصوه من جور بني أمية، وسجلوا في التاريخ العربي أول ثورة تحررية تقوض حكم الظلم وتعصف به الى الأبد.»
ارتكز كاتب الرسائل في سياحته المتصفحة لثنايا التاريخ،على تقييم كتابات من سبقوا في تسجيل تعاقب الأحداث ودورة الإمارات، منتقيا صفحات الأسفار والكتب الصفراء، بحثا عن الحقيقة المنصفة لماضي إمارة وأمة، أُقبر ودفن تاريخها ونسي كالقمامة تحت أسوار الشهرة وعلى عتبات القصور الباذخة ، متروكا في لفافات خلف الأسماء و الأحداث المعروفة. إنها رسائل ترشح بحوارات ذاتية منحها الكاتب سلطة المناجاة وفيضا من التساؤلات المغرقة في سر قراءة ما بين السطور الصفحات، وتدوينات مؤرخين علمين شكلا عبر تاريخ طويل هُداة لمن جاؤوا بعدهما في ما يخص تاريخ برغواطة: أبو القاسم محمد ابن حوقل (643 ـ 988)، التاجر الجغرافي الشرقي المولد، الذي زار المغرب وعاش في زمن إمارة برغواطة، وأبو عبيد الله البكري (1014ـ 1094) الأندلسي أكبر جغرافيي الأندلس، و كذا من نقل عنهما لاحقا كابن خلدون وابن عذارى وعبد الواحد المراكشي وغيرهم. فالرسائل تطرح أسئلة هي أهم من الأجوبة كما يقول الفيلسوف الألماني كارل ياسبر. إنها اسئلة تطول الزمن، تجادله ، تفث في عضد المؤرخين حاطبي الليل، تقلب مجرى الأحداث ذات اليمين وذات الشمال، تسائل مجرات الثابت والمحتمل، سعيا وراء الحقيقة المستترة.
سبع رسائل، رقم سري مطلسم بحمولته الدلالية، كرحلات مغامرات سندبادية سبع بين مراجع التاريخ، تتوغل في بحور سبعة من الصفحات و التدوينات الشرقية والغربية.رسائل يرحل فيها شعيب حليفي بالقارئ الى عوالم سبعة، الى محطات سبع، الى خيالات سبعة، الى سنوات 740م، ميعاد تأسيس إمارة برغواطة ومؤسسها وبطلها صالح ابن طريف ابن مالك، بطل تمهيد الفتح الاندلسي، الذي لاتزال شبه جزيرة طريفة في بلدية قادس بالاندلس، تحمل اسمه حتى اليوم.
رسائل سبع الى إمارة برغواطة و»حكامها سبعة ملوك وتلاهم آخرون جاؤوا في تلك النهايات.» الى ذلك المؤسس الذي اعتزل الإمارة وتنبأ بعودته في فترة حكم الامير السابع لدولة برغواطة. هذه الدولة، التي امتدت من سلا شمالا الى ازمور جنوبا وكانت حدودها تزيد تارة عن هذه البقعة وتتقلص تارة أخرى، وامتد بها عمر وجودها قرابة أربعة قرون، كأطول عمر دولة مغربية مستقلة عن الحكم العباسي في الشرق والأموي في الاندلس منذ الادارسة حتى السعديين. وظهرها مسنود الى المحيط الاطلسي، الذي يتقيأ البغاة والطغاة و الغزاة، وبفيض المآسي والويلات ووجهها مول شطر أرض بسماء مدرارة بالعطاء والخيرات ومن حولها المكائد والغارات وغزوات وحروب دول متاخمة، الأمويون، الأدارسة، المغراويون ، بنو مدرار، الفاطميون، ثم المرابطون، فالموحدون. فالرسائل توق الى تلك الصورة العامة لـ»نمط من التحرر الوطني للعصر الوسيط، وأفضل تشخيص في مجموع الغرب الإسلامي للمثاقفة الدفاعية.» يقول حليفي.
لقد انتظر الزمان عودة صالح ابن طريف، كما انتظرها شعيب حليفي وهو يحاوره، يبين له أن هذه الرسائل ليست من أجل : تصحيح الافتراضات أوتقليب النوايا أو شم «رائحة المداد الذي كتبوك به»، إنه ينتظره كما ينتظر الجميع بسؤال: « متى نكون ما نريد نحن؟»
قبل الكلام يأسف حليفي، الذي يبرز كباحث مغامر ينسل الى متاهة و ثنايا دروب التاريخ، يسبح في بحره، يحلق بين مجراته الملتوية، المعقدة، بحثا عن قبس في ظلام بهيم حالك، يقلب صفحاته الظاهرة والباطنة، المعلنة والمنسية، المتحرية الصدق والمفترية، عن تاريخ غير ذلك الذي لسوء حظ المغرب، كتبه: «ولمدة طويلة هواة بلا تأهيل، جغرافيون أصحاب أفكار براقة، موظفون يدعون العلم ، وعسكريون يتظاهرون بالثقافة.»حليفي يحاول أن يلملم شتات وشظايا هذا التاريخ ، كأجزاء فسيفساء مبعثرة، ليرتبها من جديد، ليجد لهذا التجميع قدما في مجريات توالي قرون تامسنا الضبابية وليمنحها روحا حية.
كابن بار للمنطقة وللمغرب عامة، يحاول إنصاف تاريخه وماضيه. يكتب حليفي ويغضب لهذا البلد، ويتساءل:»هل كان المغرب مجالا لمبادرات الغير؟ أين مبادرات أهل البلد..أهي في الحروب فقط… نسمع ونقرأ للغزات الفاتحين، فنعجب مما فعلوا، ونستغرب مما قالوا، وكيف حبكوه، ولم نسمع صوتنا في تلك اللحظات. هل قدرنا أن نتكلم الآن بعدما صمت الجميع..؟ كثيرة هي الاشياء الخادعة والموهمة، كأننا نعيش تكرارا معتما!!“
نلاقي في فصل حوار داخل المرآة وخارجها، حوارا يغوص بعيدا في عمق الأسطورة، متراجعا الى الوراء الى تاريخ ما قبل التاريخ ، الى آلاف السنين، بل الى ملايين السنين، بحثا عن النشاة الأولى لهذا الكائن المغربي. فيبحث حليفي في طيات الاسطورة و طبقاتها المكونة لأصول الجنس البشري المغربي. فيستعرض ما قيل فيه وما لم يُقل، ويجنح الى التدرجات والانحدارات والمناطق الجغرافية المترامية فوق الكرة الأرضية والاسماء والنعوت والصفات والهجرات وتحولاتها، وتعاقب الأزمنة واختلاف الأمكنة، ليصل الى عصارة هذه الآراء، التي «تصر في ما يشبه الإجماع على أن بلاد المغرب، التي هي أقصى نقطة في الغرب الإفريقي على الساحل الاطلسي، بحر الظلمات، هي أرض الفارين وبلاد الخطيئة.» لكن شعيب حليفي يبرئ هذا البلد وهذا الإنسان الذي يعيش فوقه من الخطيئة ببساطة الأشياء والاعتراف بأن اصل هذا الجنس المغربي، يعود الى هذه الأرض. إنه يطرح أسئلة مصيرية، مفاتيح لفهم المستقبل من خلال الاطلالة على الماضي، فمن لا ماضي له لا مستقبل له. أسئلة يعانق فيها مؤرخين وباحثين يجعل منهم دعامة لأطروحته القلقة المستفزة. فيتساءل مع عبد الله العروي إن كان التاريخ ، «فنا قبل ان يكون علما، ورواية قبل أن يكون مقالة تحليلية.»
في هذا الحوار الذي تعكس فيه المرآة ضوء البزوغ التاريخي، وتجلى فتنة حليفي بتاريخ هذه المنطقة تامسنا ضمن تاريخ مغربي شامل، تبدو فتنته ، فتنة لا تروم أن تكون قارة جامدة ثابتة، بل متحركة ومتحولة، فاعلة في خيوط نسيج الماضي، فتنة تدفع بالبحث الى أقصى مداه المشتعل وليس الوقوف عند الضفاف الآمنة. إنها تصوغ منه أشرعة ومراكب قادرة على الأبحار في أعمق نقطة لبحر لجي يغشاه ظلام من فوقه ظلام . سفن تجوب البسيطة من شرقها الى غربها ، بحثا عن هذا الترابط المغربي الافريقي الإنساني وتلاحمه مع العوالم والحضارات الاخرى التي عبرت فوقه أو التي غازلته. تعرج الرسائل بالقارئ إلى طبقات من حقب قل من نفض عنها الغبار أو عبأ بها.ثم تتوالى الرسائل السبع ، بهواجسها، بمقارعاتها، بأسئلتها، التي تتوالد ، تتكاثر تنفطر عنها أسئلة غيرها، بحثا عن أجوبة لا وجود لها. اسئلة تجمعت فيها الاضداد من أولها حتى ختمها ، كتلاقي الماء والنار في المنبع الواحد. «لكني يا صالح لم أستوعب ما جرى.. لا أريدك أن تجيبني لأنني أحس بكل ما جرى،كأنني كنتُ هناك أو شاركتُ في الثورة ورأسي ملفوف بعمامة حمراء، ومرتديا فرجية بيضاء أشدها بحزام أخضر.»
يعانق الحلم التغيير في الرسائل وينشد أنشودة ينتظرها فجر جديد، فالرسائل لم تكتب، لمجادلة الآخرين، ولا لتتبع أخطائهم ولا لإثبات ضلالهم، بل كتبت لإعادة ترتيب منظومة عصف بها الزمن و طالها النسيان في خضم زوبعة تعالي المنتصروسيطرته على منابع آيات التدوين حتى إبادتها وإتلافها.
«أكتب اليك اليوم، ليس ردا على أحاديث المؤرخين التي لا تستند على وثيقة أو شهادة، وإنما لأن الافتراء يتلاشى أمام عظمة الزمن والتاريخ.»
تاريخ إمارة ألصق بها الضلال والزيغ عن الطريق المستقيم، ودين جديد وتنزيل محدث من صالح ابن طريف، لقبه صالح المؤمنين. غير أن كل هذه الإسقاطات التي لا تستند الى وثيقة، يضرب عنها حليفي صفحا لأنها لا تسند ظهرها إلا على «شهادة لا يوجد لها أصل لمبعوث برغواطي في سفارة الى الحكم المستنصر بقرطبة سنة 963 م.. فكل المؤرخين والجغرافيين والرحالة قبل بن حوقل والبكري وابن عذاري ، لم يذكروا من هذا الامر شيئا: مثل ابن الحكم والبلاذري.»
في الختام يقرر شعيب حليفي، الترقب ومواصلة كتابة رسائله التي يخاطب فيها بويا صالح ، سينتظر لكن لن يتوقف عن الكتابة وطرح الأسئلة:
ـ انتظرُ في خضم هذا السماد برائحته الحارة، سأكتبُ، رسائلي الى صالح بن طريف.
ـ هل عاد أخيرا.. أم يتأهب للعودة!!
ـ هو لن يعود، لن يعود. لكنه ينتظر عودتنا نحن بشغف.. وها أنا أكاتبه.
ـ تكاتبه أم تكاتبنا نحن؟
ـ (…).


الكاتب : ادريس الجاي

  

بتاريخ : 14/01/2023