ستيفانو كوكي … وحده الموت وجد طريقا إليه (sulla mia pelle… صورة مقربة)

يتكأ فيلم (sulla mia pelle) على أحداث واقعية، فهو يعيد إلى الواجهة وبقوة قصة الشاب «ستيفانو كوكي» الذي قبض عليه (2009) على خلفية حيازته للمخدرات واتهامه بالتجارة فيها، سيتعرض ستيفانو أثناء التحقيق معه وقبل عرضه على القاضية للمحاكمة إلى اعتداء من طرف عناصر الدرك الذين قاموا بعملية الاعتقال، وهو الاعتداء الذي سيخلف آثارا واضحة على ملامح وجسد ستيفانو (كدمات متفرقة في كل أنحاء جسده)، تتسارع الأحداث وتتسارع معها معاناة وألم ستيفانو الذي ينتهي ميتا بطريقة مأساوية.
ففي اللحظة التي بدت قضية ستيفانو كوكي تتوارى وسط الأحداث وطول المحاكمات وتقلب الصحافة من موقع لآخر، وفي الوقت الذي بدا كافيا للقضاء ليقول كلمته، وللمجتمع المدني أن يطوي صفحة سوداء، يظهر فيلم (sulla mia pelle) ليعيد وبشدة ملف حقوق الإنسان وكرامته، حيث اتضح أنه الأنسب والأكثر وقعا لإعادة الاعتبار لستيفانو كوكي الذي مات ضحية للتعسف والإهمال.
الفيلم وما تلا خروجه للعرض من ضجة، يعتبر رمزا لانقلاب الأحداث في قضية موت ستيفانو كوكي، وشاهد على سيادة النفعي من الصورة في حالات وقضايا بهذا الشكل، وشاهد أيضا على مخاطر العودة إلى التعسف والشطط في استعمال السلطة في زمن قطعت فيه إيطاليا شوطا متقدما في قضايا حقوق الإنسان وضمان الحريات الشخصية واستقلال القضاء.
يبدأ الفيلم بمشهد استرجاعي وسط غرفة بمصحة، سيظهر فيما بعد أنها تابعة لمؤسسة سجنية … وممرض يتفقد ستيفانو في مرور روتيني ليكتشف أنه فارق الحياة.
يعود الفيلم إلى الوراء وبالضبط إلى الأيام السبعة قبل تاريخ الوفاة (الخميس 15 أكتوبر 2009) سبعة أيام من المعاناة كانت كافية لتصعد روح ستيفانو إلى بارئها، سبعة أيام أخيرة من حياة شاب اختار أن يموت في صمت، سبعة أيام هي مدة أحداث الفيلم الذي امتد (100 دقيقة) ….
من البداية يتم التأشير على الحكاية بشكل مكثف ومرتب بعناية من خلال عرض ما يشبه الاستهلال الذي يفتح عين المشاهد على عالم ستيفانو اليومي (الرياضة:ملاكمة / الكنيسة: صلاة / العمل: مساح معماري / بيت خاص: مخدرات/ العائلة: علاقته بأخته وأمه وأبيه…) خمس مشاهد كانت كافية لنخرج بعدها إلى القصد من الحكاية، والذي بدا معه المخرج مستعجلا بشكل ينبئ بانفجار حقيقي نحسه بعد مشهد توديع أمه (الوداع الأخير) مشهد نودع معه حالة من الهدوء والبساطة إلى حالة من الصراع والمعاناة …
ماذا لو نام ستيفانو في بيت العائلة كما كان مقررا؟ لماذا غير قدره بالخروج من البيت تلك الليلة؟
يظهر ستيفانو في مشهد داخل سيارته بمعية صديقه يدخنان سجائر ويتحدثان حديثا عاديا حول الأكل والفتيات، تتوقف دورية درك للاشتباه فيهما، وبعد تفتيش ستيفانو سيتم العثور على كمية من الحشيش (20 غراما) و (2 غرامات من الكوكايين) حينها سيلتحق بالمشهد عناصر من الدرك بلباس مدني، وهو ما سيزيد من تأزم الوضع الذي سينتهي بستيفانو معتقلا بقسم الدرك (أبيا/ الساعة 23و40 دقيقة) ليتضح من خلال استجوابه أن ستيفانو كان مدمن مخدرات وزائرا على مركز لإعادة التأهيل، ومريضا بالصرع، بعد تفتيش بيت العائلة سيدخل ستيفانو في مشاحنات مع عناصر الدرك، وهو ما أنبأ بتصعيد سيظهر جليا في أروقة قسم الدرك وهو منقاد لاستكمال إجراءات الاعتقال.
يظهر ستيفانو في مؤخرة سيارة الدرك وقد بدا عليه آثار اعتداء وضرب، تتصاعد أنفاسه بطريقة مؤلمة توضح أنه يعاني آلاما حادة، سيرفض التوقيع على محضر الحراسة النظرية، وعلى الساعة الرابعة والنصف صباحا سيرحل إلى مقر الدرك (تور سابينزا) ليعرض بعدها أمام القاضي للمحاكمة، من هنا تبدأ خيوط الحكاية تلتف حول ما سيؤول إليه وضع ستيفانو الصحي، ومن خلال حوار بين الدركي المكلف بالنقل وبين الدركي الذي سيستلمه سيبدأ المخرج في تشييد دائرة مغلقة للمتورطين بين مسبب مباشر وآخر ساكت عن الحق وآخر متفرج وآخر متهاون وضمنهم ستيفانو الذي يقرر أن يظل صامتا مستسلما.
ستعلن معاناة ستيفانو حين سيودع داخل زنزانة باردة وعفنة بقسم الدرك، وهنا سيبدأ عذاب ستيفانو الحقيقي (سعال حاد/ألم في الظهر/معاناة/تعب/صداع في الرأس…) الشيء الذي تطلب حضور رجال الإسعاف، لكن ستيفانو يعرض عنهم ويرفض الكشف بشكل جعلنا نتساءل عن الأسباب، فظاهريا بدا امتناعه تصرفا غريبا وغير مبرر، لتستمر بذلك معاناته وألمه وعذابه.
لماذا أصر ستيفانو على الاختباء واختار الصمت؟ ثمة شيء ما يجعل من صمته سببا لعذابه وآلامه؟
يصل إلى سجن ريجينا كويلي وأمام آمر السجن سينفجر ستيفانو في وجهه متهما ومفصحا عن سبب الكدمات وألم ظهره (رجال الدرك)، لكن الغريب أن ستيفانو ربما يختار التوقيت والشخص الخطأ ليتكلم، حيث سيلتزم الصمت مجددا أمام الطبيب الذي فحصه، وكأنه يعيش في لحظات متقلبة ومختلطة أزمة ثقة.
لماذا لم تسأله القاضية عن سبب الكدمات الظاهرة على وجهه؟ ثمة تواطؤ وتحامل في القضية مند بدايتها.
نحس بمعاناته التي تتزايد بحدة، ما جعل طبيب السجن يوصي بإيداعه المصحة (مصحة السجن) حتى يبقى تحت مراقبة الأطباء، معاناة نستشفها في لحظة البكاء التي سيعلن من خلالها عن مرحلة أخرى من المعاناة والعذاب… لكن ما يثير الانزعاج أحيانا هو لماذا اختار الصمت ورفض الكلام والفحص والإسعافات التي بدت ضرورية وملحة لحالته؟ لماذا ظلت اعترافاته محل شكوك وغير صريحة؟ ربما أعياه انتظار عدالة وسط كل الحصار الذي يعيشه.
ثمة شيء منغص تحسه من خلال مناجاة ستيفانو النفسية التي تتجلى كاحتجاجات مفجعة وخالصة لمعاناته، مناجاة بدت غير نبيهة وغير مبررة بشكل كافي، مناجاة تشبه الصمت الجنائزي…
تستمر معاناة ستيفانو من خلال رابط لا ينقطع بين الألم والعذاب (ألم فظيع وعذاب لا ينتهي) والعلاقة بينهما توجد في قلب الأحداث بل في معظم مشاهد الفيلم (باستثناء المشاهد العشر الأولى) حيث بدا واضحا أن ستيفانو لن ينفلت منه إلا بالموت أو الخضوع.
سبعة أيام كانت لوحدها قادرة على فك هذا الرابط بين الألم والعذاب، فالفرد منذور للهشاشة وستيفانو قبل طواعية أن يعيش الألم كتجربة لا تقبل التبرير، ألم لا يقتصر على الجسد بل يتعداه إلى كينونة الفرد في معنى حياته ومحيطه، فالألم يحضر كقوة ضاغطة ومحطمة عزلت ستيفانو عن العالم الخارجي وأحبطت حتى رغبته في التواصل… نحس في لحظة أنه فقد الثقة في جسده ومعها ثقته في نفسه وفي الآخرين، ليبقى معزولا بلا اتصال مع أحد وبلا حركة وسط غرفة ضيقة.
وظل معه السؤال الذي يطرح نفسه بشدة، وهو لماذا لم يتكلم ستيفانو؟ لماذا استسلم للعذاب والألم وظل صامتا؟
يتسلل الفيلم بإيقاع متجدد يحتد ويخف، يتحكم فيه خيط ناظم وهو معاناة ستيفانو التي لا تنتهي، فيلم غير مربك بعيد عن السطحية، يقترب أعمق وأعمق داخل روح الشخصية التي بدت أكثر صفاء وطهرانية، فصمته الأخير يفصح عن طاقة دفينة وصلاة متأخرة، وكأنه ينتظر معجزة لتنتشله من عذابه، ليختار في الأخير أن يخلد للراحة بعد عذاب كبير ينذر بهشاشة غريبة للوجود الإنساني.
ولتبقى أهم مناطق القوة في الفيلم هو الطريقة التي توسل بها المخرج في اختيار الإطار وزوايا الكاميرا، حيث ظهر واضحا قدرة المخرج الكامنة في القوة التي أعاد بها بعث كل ذلك الألم والمعاناة والعذاب الذي مر منه ستيفانو، ومنها نجح في الدفاع بشكل مقنع عن وجهة نظر أخلاقية تدين وبشدة نماذج من المجتمع تستغل السلطة لممارسة نوع من التعسف غير ضروري أدى إلى وفاة شخص بطريقة أقل ما يقال عنها أنها رهيبة جدا.


الكاتب : عبد الله صرداوي

  

بتاريخ : 28/09/2019