«سردية الجبل» للمصطفى فروقي .. مذكرات مشاء نقل الخطى إلى كتابة ممزوجة بالتأمل في ملامح المكان

صدر مؤخرا عن «دار بصمة للنشر والتوزيع» كتاب جديد بعنوان «سردية الجبل (مذكرات مشاء)» للفاعل المدني والباحث في التراث، المصطفى فروقي، بتصميم غلاف من إنجاز ذ. توفيق البيض، وهو عمل أدبي يجمع بين جمال اللغة وعمق التجربة الإنسانية، وبين بوح الذاكرة وإيقاع الطبيعة، في نص يزاوج بين السرد والتأمل والإثنوغرافيا والمغامرة والرحلة.
في هذا العمل الجديد، لا يقدم المصطفى فروقي مذكرات بالمفهوم التقليدي للكلمة، بل يبني رحلة وجودية تنفتح على الذات والمكان والذاكرة، إنها رحلة في أعالي الجبال والبراري المغربية، حيث يختبر الكاتب مغزى المسير ومعنى الوصول، في تفاعل صادق بين جسد يتعب وروحٍ تتوهج بالتأمل والتوثيق والمتعة.
منذ الصفحات الأولى، يجد القارئ نفسه أمام كتابة تمشي بخطى هادئة على دروب الجبل، ترصد التفاصيل وتستنطق الصمت، فالمسير في «سردية الجبل» ليس مجرد فعل جسدي، بل تجربة فكرية وروحية، تنقلنا من الواقع إلى التأمل، ومن المشهد الطبيعي إلى البعد الفلسفي، في تماه بين الكاتب والمكان، وبين الخطوة والكلمة.
يتوزع الكتاب على مجموعة من النصوص التي تتخذ من المكان محورا سرديا وجماليا. فبين «جبل توبقال حكاية ما قبل الصعود للقمة» و»توبقال حكاية الصعود» و»حكاية النزوح للسفح»، يرسم الكاتب مسارا متدرجا يعكس مراحل التجربة الجبلية بكل ما فيها من عناء ومتعة واكتشاف، ثم ينتقل إلى فضاءات أخرى مثل «أيت نوح: قطب تصوف جبل زيان» و»أروكّو زيان: موطن تعايش الثقافات»، حيث يلتقي التاريخ الشعبي بالتراث الصوفي والمعماري، في مزيج يعبر عن ثراء الجغرافيا الروحية للمغرب العميق.
لا تقتصر الفصول على الجغرافيا الكبرى للجبل، بل تنفتح على أماكن ذات رمزية محلية وإنسانية مثل «باموسى»، «بوحياتي»، «أقلال»، «بووزال»، «إغود»، «تلاغين»، «تاخولانت»، «أكلمام إيفيغراون» (بحيرة الثعابين)، و»أوجكال»، التي تشكل جميعها لوحات من الذاكرة المغربية ومشاهد من الحياة الجبلية التي تجمع بين القسوة والجمال، وبين العزلة والتضامن.
وجاء في مقدمة الكتاب نص بليغ يعكس خلفية الكاتب الفكرية وعمق تجربته، إذ يقول المصطفى فروقي: «إذا كان المشي فرصة للاحتكاك بالعالم، فإنه كان، أيضا، ولايزال محفزا كبيرا على الكتابة نظرا لما يتيحه من فرص للتأمل في الطبيعة والتحاور مع عناصرها، ونظرا أيضا للفرص التي يمنحها للتحاور مع الذات والنزول أثناء المشي في الطبيعة إلى أعماقها المجهولة.»
بهذا الوعي الفلسفي، يجعل الكاتب من المشي وسيلة للتعرف على الذات والآخر، وعلى العالم في تعدده وغناه، فالمشي، كما يراه، فعل يحرر الفكر من الجمود، ويعيد الإنسان إلى جذوره الأولى، حين كان الاكتشاف فعلا وجوديا لا ترفًا سياحيا، ومن هنا تنبثق روح الكتاب التي تمزج بين الحكاية والتأمل، بين المعيش واليومي، وبين الغرائبي والعميق.
النصوص التي يتضمنها هذا العمل كتبت، كما يقول صاحبها، على امتداد سنوات، وجُمعت من تجارب متفرقة عاشها خلال رحلات مشيه في الجبال، وهي نصوص خرجت عن الطابع التوثيقي الأكاديمي الصارم لتعبر بحرية عن نبض المشاهدة الحية والتجربة الإنسانية. وقد حرص الكاتب على أن يظل وفيا لتلك اللحظات التي ألهمته الكتابة، في زمن تغمر فيه الصورة عالم الإنسان وتكاد تطغى على فعل القراءة والتأمل.
«سردية الجبل (مذكرات مشاء)» ليست فقط تأملا في المكان، بل هي أيضا بحث في معنى الوجود الإنساني حين يواجه الطبيعة بعريه وصدقه، وحين تتحول الخطى إلى كتابة، والتعب إلى معنى، والجبل إلى معبر نحو الذات، إنها تجربة تذكر القارئ بأن المسير إلى القمة هو، في جوهره، مسير إلى الداخل، إنه عمل أدبي فريد يضيف إلى المشهد الثقافي المغربي والعربي نصا استثنائيا في أدب الرحلة والتأمل، يجمع بين الدهشة والعمق، وبين الجغرافيا والروح، وبين القلم والخطوة.
بهذا الإصدار الجديد، الذي يمتد على أزيد من مئة صفحة من القطع المتوسط، يضيف الكاتب المصطفى فروقي لبنة متميزة إلى صرح أدب الرحلة المغربي في صيغته الحديثة، ذلك الأدب الذي تجاوز في العقود الأخيرة طابع الوصف الجغرافي إلى فضاء التأمل الإنساني والبحث الفلسفي. فـ «سردية الجبل (مذكرات مشاء)» تمثل تحولا نوعيا في كتابة الرحلة، إذ تجعل من المشي فعلا إبداعيا ووسيلة لاكتشاف الذات والوجود، لا مجرد انتقال في المكان.
يضع هذا العمل صاحبه ضمن الكتاب الذين يؤسسون لخطاب سردي جديد يجمع بين جمالية اللغة ودقّة الملاحظة وعمق التأمل، في تماه بين الأدب والفكر، وبين التجربة والمعنى، إنّها سردية الجبل التي تفتح الطريق نحو قراءة الجغرافيا بوصفها نصا مفتوحا، وكتابة الإنسان بوصفه كائنا دائم البحث عن قمته الخاصة، حيث لا ينتهي الصعود إلا ليبدأ من جديد في داخل الذات.


الكاتب : أحمد بيضي

  

بتاريخ : 13/12/2025