مفتتح :
شهدت الثقافة العربية مؤخرا ارتفاعا ملحوظا في نشر كتب اليوميات، ساهم فيه لجوء الكتاب إلى تدوين يومياتهم ورقيا وافتراضيا، خاصة أثناء انتشار فيروس كورونا .كما ساهمت الجائزة السنوية التي يمنحها «المركز العربي للأدب الجغرافي- ارتياد الآفاق» (ابن بطوطة) في أبوظبي ، وانفتاح دور النشر على هذا النوع الأدبي الذي ظل غير متداول عربيا ، علاوة على غياب الاهتمام به نقديا ، عدا اهتمامات نادرة، تساوقت مع السيرة الذاتية أو المذكرات.
وعليه ، تتأسس اليوميات على تشميل جوانب يومية دقيقة من حياة الكاتب وما يطرأ في معيشه من وقائع وأحداث. إنها ” ضرب من الاعتراف.. وكتابة حميمية تخاطب فيها الذات نفسها دون ادعاء، ويقوم فيها الشك والتردد مكان اليقين والمعرفة”، كما يذهب إلى ذلك الناقد والروائي المغربي أحمد المديني، في كتابه “فِتَن كاتب عربي في باريس”.
والمتتبع للمشهد الثقافي التونسي تحضره عناوين “يوميات أبو القاسم” و”جولة في حانات البحر الأبيض المتوسط” لعلي الدوعاجي ،و”واحد صفر للقتيل” لكمال الرياحي “الحائزة على جائزة ابن بطوطة و”صديقتي قاتلة” لفاطمة بن محمود التي تغطي جوانب دقيقة من يوميات كورونا، ومؤخرا يوميات مسعودة أبو بكر “حقيبة وذاكرة” الصادرة ضمن منشورات سوتيميديا بتونس العاصمة.
يتألف المتن النصي لهذه اليوميات من22 يومية اختلفت موضوعاتها المركزية، واشتغلت على صفحة 135من القطع المتوسط، وتزين غلافها صورة لبرج إيفيل بباريس.
وقبل الدخول إلى فضاء هذا السرد اليومياتي لمسعودة أبوبكر، يمكن ملامسة عنوانها المركزي ” حقيبة وذاكرة ” وكذا خطابها المقدماتي لأن العنوان يمثل ” جزءا من سلطة النص وواجهته الإعلامية التي تمارس على المتلقي إكراها أدبيا كما أنه وسيلة للكشف عن طبيعة النص والمساهمة في فك غموضه” كما يرى شعيب حليفي ، أما خطابها المقدماتي فيمكن اعتباره “خطابا مساعدا” بتعبير ديريدا.
وعليه، “حقيبة وذاكرة ” هو العنوان الذي اطمأنت إليه الكاتبة ليكون ثريا الدفة الأولى لغلاف يومياتها، ويحيلنا على جملة اسمية ( اسم نكرة حرف- اسم نكرة )، مقبولة دلاليا، لكنها تثير فضول القارئ مما يفتح شهيته على طرح مجموعة من الأسئلة من قبيل: ما علاقة الحقيبة بالذاكرة؟
في ضوء هذا المعطى، تعني الحقيبة في قواميس اللغة حاوية تستعمل من أجل وضع أغراض فيها ويمكن أن تكون حقائب نسائية أو حقائب سفر، والذاكرة تعني قدرات الدماغ التي تمكن من تخزين المعلومات واسترجاعها، وبتقدمنا في فضاء اليوميات، نتعرف على أن الحقيبة هي للسفر ، أما الذاكرة فتحيل إلى تذكر واسترجاع واستحضار ومطابقة للمكان والزمان كما ترصدته الساردة خلال زيارتها لفرنسا، وهو ما تعضده صورة برج إيفيل على غلاف الدفة الأولى من الغلاف، والخطاب المقدماتي الذي سيفشي بنية اليوميات نقرأ في الصفحة 8 :” أما سفرتي الثانية إلى القارة العجوز( التي لا أحسبها إلا وهي تزداد جمالا ونضارة كلما تقادم بها الزمن ) فكانت إلى العاصمة الفرنسية باريس بدعوة من غادة ابنتي وزوجها، المقيمين هناك”، وبذلك تبرمجنا الكاتبة على استقبال يوميات باريسية، بهذا المعنى ، نكون أمام ذاكرة مضادة للنسيان والمحو.
سردية المكان:
“حقيبة وذاكرة” هي سيرة مكانية، تحتفي بالمكان من حيث كونه ذاكرة وجغرافيا وتاريخا وراهنا، يتجسد ذلك عميقا في المحكي السردي حيث يتحول المكان إلى سلطة مركزية مهيمنةعلى نحو بالغ الغزارة فيكل اليوميات .
بناء عليه، سنتعرف في هذا التمرين على نماذج من هذه الأمكنة التي ترصدتها الساردة” برج إيفيل، شارع هوسمان، أنهج خلفية”، وهي أماكن مفتوحة على الخارج حيث الانتقال والحركة
باريس :مكان مركزي في اليوميات، في يوميتين بنفس العنوان “باريس بلد الجن والملائكة ومن خلالهما نتعرف على باريس ذات الوجهين، وجه يكتسي طابعا ثقافيا ونهضوياو كرنفاليا مشبعا بالحياة :”اتفق غالبية الرحالة العرب على أن باريس هي حقا مدينة الفنون والأنوار والأناقة والوحي الإبداعي” ص 123، ثم وجه ثان نقيض للأول عار وحاف من الحميمية،حيث تغدو باريس تيها وتشردا وبطالة ومكننة وجوعا :”لكن هذه المدينة على سحرها، لم تترك لدى البعض من الذين ساقهم الاختيار للعيش فيها ردحا من الزمن ولم يحققوا فيها استقرارا، بل عرفوا التشرد والجوع “ص127، وبهذا الوجه تتحول باريس إلى مكان مسيء وعاملا من عوامل الدونية والتشويه والمنفى، له تأثيراته النفسية والجسدية.
برج إيفيل :يحضر هندسة وذاكرة تاريخية ووثائقية ” أقف اليوم أمام برج إيفيل الأصلي، وهندسته الفريدة، كما صممه غوستاف إيفيل في آخر النصف الثاني من القرن التاسع عشر” ص 30، مما يثبت العلاقة الراسخة بين المكان والذاكرة .
ج – شارع هوسمان: يحضر مكانا باهرا طافحا بالحركة وتجربة معيشة، تقول الساردة:”كانت الحركة على أشدها في شارع هوسمان الكبير، سياح من الأفارقة والأسيويين تحار أبصارهم ( هن تحديدا) بين واجهات البلور وماحوت مما يغري بالتوقف والفرجة ” ص34.
عطفا على ما سبق، يتعثر القارئ بثنائية مكانية “ويعني وجود قطبين متعارضين في المكان وفق تقابلات ضدية” 148، ويتضح في المقابلة بين أمكنة خلفية ضيقة :”انتقلت من طوق الحركة الشارعية وزعيق سيارات النجدة الذي لا ينقطع من شوارع باريس تحت أعين علامات المرور اليقظة، لأجدني في نهج ضيق ” ص 48، وأخرى فسيحة، ثم أمكنة تحيل على القدامة وثانية تحيل على الحداثة .
إلى جانب الأماكن المفتوحة،أماكن مغلقة “متحف اللوفر ، العمارة الدينية”، وهي أمكنة تجسد “الانغلاق والانسداد، ونمثل لها نموذجا ب :
متحف اللوفر :في يومية “في أروقة التاريخ، متحف اللوفر” تستوقفنا كاميرا الكاتبة لتلتقط بعين سينمائية محترفة من أروقة اللوفر مشاهد بصرية في كل الاتجاهات، ومن ثم تمريرها إلى شاشة القارئ بتصوير محايد، إنها كاميرا بعينين ذكيتين:” أتنقل في أروقة تستوقفني لوحات زيتية لمشاهير الرسامين، منها ما يمثل مشاهد ميتولوجية ووقائع مستلهمة من النصوص التوراتية القديمة، على غرار معركة داود وجالوت أو ميلاد المسيح والسيدة العذراء في أكثر من مقام ” ص39.
ب- العمارة الدينية :بنفس الكاميرات ترصد العين السينمائية للساردة العمارة المسيحية من كنائس، وكاتدرائيات، ودير من الخارج وكل ما يحتويه فضاؤها الداخلي من صحائف ومنحوتات، وزخارف وهندسة، ورسوم، وبكل ما تحمله من معنى وجمالية تقول الساردة :”لا شيء في باريس وربما في مدن العالم، يدل بين عن فخامة المعمار والمواد المنتقية لتشييدها وزخرفتها من الخارج والداخل، مثل العمارة الدينية المسيحية” ص 109.
يمكن للقارئ أن يكتشف دون عناء حضور التاريخ في يوميات “حقيبة وذاكرة” بشكل لافت ومثير للاهتمام، حيث يكون من الصعب إيقافه أو صده، ويخص المكان والإنسان، لأن التاريخ “مادة جاهزة تسهل على الكاتب كثيرا من مهمته فيؤثر اللجوء إليها” بتعبير الناقد المغربي جميل حمداوي. وإضافة إلى هذه الصلة بين التاريخي والسرد اليومي، نجد ميول اليوميات إلى اللغة الحنينية ويجسدها استدعاء الكاتبة لمشهد من ماضيها الطفولي والعودة إلى رحم الأمومة حين زيارتها لبرج إيفيل، “تقول الساردة:” هو مجسم مصغر زجاجي لبرج إيفيل الشهير، يتربع بين أدوات الزينة القليلة التي ترتبها والدتي في تلك السنوات البعيدة على مفرش مطرز ” ص 29. كما تؤطر اليوميات بنية أسلوبية فصيحة ونمثل لذلك باللغة الثقافوية التي تنهل من مرجعيات أدبية وفكرية وفنية وموسيقية من قبيل حديث الساردة بإسهاب عن العلاقة بين الكاتب الأمريكي هنري ميللر وأناييس، وبين آن فيليب وكاميل كلوديل.
على سبيل الخاتمة:
ومجمل القول، يكشف هذا التمرين النقدي في “يوميات ذاكرة وحقيبة” عن قدرة الكاتبة الماطرة مسعودة أبو بكر على التقاط كل الأماكن الباريسية المغلقة منها والمفتوحة، الحميمية والمعادية محققة لجمالية التواصل والتلقي، كما يتكشف هذا النص عن إضافة نوعية لرفوف المكتبة والمشهد الثقافي التونسي .