سردية وطنية جديدة لكي تكون الرياض..… مكة الحداثة!

 

يجتهد السعوديون في الإقناع بأن الرياض عاصمة المستقبل، وهي مختبر حداثتهم، التي يصنعونها بدون أن يسمونها هكذا. في العروض الأكاديمية في المنتدى، تم تخصيص جلسات لتثمين هذه المدينة التي تتطاول في فضاء المدن الحديثة، أحيانا تتجاوز السقف الأوروبي الذي اعتدناه… البولفارات الشاسعة، والعمارات الشاهقة، التزيين الحضاري! كلها عناصر «ماركوتينغ«« ترابي مصنوع بعناية وتصور!
ولمن سبق له أن زار الرياض مثلي في 2013، يدرك أن العشرية الماضية كانت فترة حضانة عمرانية لميلاد هذه المدينة العالية…
مدن توأم لها مثل جدة ذهبت بعيدا في تحديث نفسها على شط البحر، وهي على امتدادها العصري تصنع أسطورتها، ولا يخفي السعوديون اجتهادهم لتكون العاصمة الإدارية للبلاد،عاصمة الغد، العنوان الجديد للمملكة.. مكة الحداثة السعودية!
لم تسنح لنا الفرصة لزيارة مدينة «نيوم « التي تتبرعم استعدادا لخيال الغد. زميلتي التونسية كريمة، أبدت نفس الرغبة، ونحن نتابع الحفل الرسمي الذي دعينا إليه، صباح الخميس، لتخليد ذكرى يوم التأسيس. الحفل أقيم في القاعة الرياضية، تشبه قاعة ياسين بالرباط، ما بين المسبح وملعب كرة القدم ! الإجراءات لدخول الوفد الصحفي والوفد الديبلوماسي، ومن السفراء المعتمدين، هي نفسها في كل معبد تحت الوصاية الداخلية ! تابعنا لوحات جميلة بين الفرجة التقليدية والذكاء الاصطناعي، نقلتنا إلى ظروف تأسيس الدولة وطموحها الحالي في بناء سردية وطنية تبتعد عن أساسها القبلي وتمجد الدولة… نحن على مسافة من شرعية البناء العقائدي. هنا كل المعارك، كما يرويها جد وجدة لأطفالهما من أجل إثبات الهوية الوطنية السعودية، لا انشغال «أممي» حتى ولو كان حلم العقيدة.. هذا توجه يبدو من خلال مقومات الدولة.. مسيرة التاريخ.. كما خمنا، تدافع عن تكوين جديد للدولة… فقد كان هناك تركيز على محطات بناء الدولة. الأولى والثانية في أفق الدولة الثالثة. سمعت هذا من قبل الحفل، على لسان الأمير عبد الرحمن بن مساعد….
جلسنا مصطفين: الإعلامية في الإذاعة الوطنية المنشغلة بالفن والثقافة، سليلة أسرة مثقفة، لا تخفي انتماءها البورقيبي، التي تحب المغرب وتعرف السي بو غابة في السينما كما تعرف الراحل مصطفى المسناوي. بحرقة غير مفتعلة، نسوانية مرحة، همست لي وهي تسمع إلى العجوز في المشهد الاحتفالي أمامنا، تقول: «نحن سند الرجال».. أنا لا أحب هذه الفكرة، قلت لها: «انتظرتها منك كما كنت سأتوقعها من مناضلاتنا«..».
ضحكنا بهمس!
غير بعيد يجلس الكاتب العراقي إحسان الشمري الذي كان في منصة الحديث المخصص لصناعة المحتوى، سألنا عن سر التقارب التونسي المغربي في اللحظة: «»احنا أمازيغ مشتركين خلافكم»، أجابت ضاحكة، الأردنيان، الإعلامي وأستاذ جامعة «البتراء» صامتان إلا عندما يستفزهما محمد العرب، هو نفسه الذي يشهر حبه للمغرب، يضيف لي عناصر أخرى في سيرة المغرب الذي قضى به 5سنوات قال عنها للحاضرين«: «أجمل حياة عمري هي تلك السنوات««. ابن بلده العراق الأستاذ الشمري لاحظ عليه مبتسما: أنت تحدثت أزيد من 75% عن المغرب، كان ذلك سببا كافيا لكي يكمل %100 في مدح المغرب، ومعرفته بأهله وكيف اصطاده ولي عهد البحرين ذات مصادفة، وهو يعمل ضمن فريق لالة أمينة رحمها الله… ثم يعيد الحديث عن كل منطقة في المغرب: خنيفرة، الخميسات، الناظور.. وهلم إعجابا بالأكل والسلوك والمعقول.. والكرم.
مرافقنا الشاب، بلباس تقليدي غير مألوف لدينا، نسأل ككتلة فضول صحافي: ماذا يعني عقال مثل العقال الذي يعتمره الشاب، الذي رفعه محمد العرب إلى رتبة سفير؟
وكان الجواب أنه العقال والزي التقليدي الذي اشتهر به الملك المؤسس.. زاد الشاب السفير في زهوي المغربي عندما كان يستكمل المعلومات عن الوفد، كل يدلي باسمه واسم بلده: كريمة، تونس، نجدات، الأردن، الشمري، العراق، عبد الحميد، المغرب. سجل الشاب الأسماء ثم استسمح المستمعين قائلا” باحترامي لكم جميعا، أنا أحب المغرب”، ثم استدار عندي وقال” نبغيك بزاف« !”، اهتز كياني، وددت لو عانقته، لكن كان علي أن أعانق أيضا العرب، والتونسية… وحكيم الوفد السعودي والدكتورة منى التي تحب المغرب ولم تزره بعد !
هاهو الله يعوضك يا عبد الحميد… وكما كان يفعل والدي، رحمه الله، في لحظة الزهو، سويت الطربوش الوطني، كما كان يفعل برزته..وقلت لنفسي” الصلا والسلام على رسول الله !…”.
خمنا أن الحفل كان رسائل، كما في جلسات المنتدى، يتأكد حدسنا لما قابلنا وزير الداخلية بعد الحفل، لقد كان حفلا جميلا حقا! لاشك أنكم لاحظتم الرسائل التي يحملها الحفل؟ قلنا نعم، وبعد ذهابه بدأت تمارين استجلاء الرسائل،عنوانها الجامع:تقديم سردية وطنية موجهة للشعور الوطني، بدون غيرها، والتركيز على الإنسان والأرض في هذه الرقعة من الكون، شيء، ولاشك، سيحبه السعوديون والعالم، عندما تمر الدولة من أحلام أمة مترامية الأطواف”الأمة nation وليس oumma بالمفهوم الديني”.
هذا البناء من خلال حفل، وبتحميل منتدى دولي للإعلام نقل الرسائل، ينبه إلى خلق الفضاء العمودي على إحالات لـ”عقيدة الدولة الوهابية.
كانت العاصمة مثل غيرها فضاءات لاحتفال وطني ومن شعاراته: “الإنسان والأرض”، على أن تكون أرض وإنسان دولة تأسست منذ ثلاثة قرون، ولعل حضور الدرعية والمدينة الأم، في الحفل، يوازيه الاهتمام بها سياحيا وتسويقها، كمنبت للسلالة الحاكمة.
وماكان لي أن أعود بدون زيارتها صبيحة الجمعة، كنت رتبت نفسي للعودة، وجمعت متاعي القليل، بعد الإفطار طلبت شباب المرافقة وطلبت من أحدهم سيارة أجرة لزيارتها بعد أن علمت أنها من الرياض، بمثابة سلا من الرباط !
لم يكن لدي شرط، سوى ألا يكون السائق هنديا، كما هو حال، الذي جاء بي من المطار. ضحك الشاب وعلق قائلا: كلهم عرب الآن! “، قلت له: “سبحان من جعل الهند عضوا في جامعة الدول العربية”، انفجروا ضاحكين، هو ورفقته.
بالفعل كان الاختيار موفقا وكان السائق الشديد السمرة، طيبا وسلسا ومخارج حروفه تسعف على الفهم بسرعة، “إلى أين«؟” سأل، قلت: “إلى قمة الرياض العصرية، ثم إلى حضنها التاريخي التقليدي” قال: “فهمتك ..سنمر على شارع الملك عبد الله، ثم المركز المالي، ومنه إلى المدينة العتيقة”.
على بركة الله! لم يكن المركز المالي الذي يعادله “القطب المالي” بالبيضاء بعيدا عن الفندق.. عمارات فارهة بهندسة حداثية تفوق الوصف، في مركز مالي يحمل اسم “الملك عبد الله”… وله 5 مناطق، كل واحدة منها تنسي في الأخرى، كنا نتجول والرأس إلى السماء، لنحد طول العمارات حينا ولنجمع المشهد أحيانا أخرى.. كنا نسير، وسط الأموال الطائلة.. والطائرة في الهواء!
لقد اقتربنا من »صندوق “السعودي للاستثمار”« بدون الانتباه إلى لوحة إشهار اسمه، استوقفتنا سيارة شرطة، يقودها شاب في مقتبل العمر. سأل السائق: “لوين رايحين؟” أجابه أنه يقود وفدا ضيفا على المنتدى، نظر الشرطي الشاب إلي ولعله تساءل: “هل شخص واحد صار يصرف وفدا؟”. قرأت لوحة الصندوق، عرفت سبب وجوده هنا، نبه السائق:” لابد من التراخيص”، لكنه استمر بدون النزول من السيارة…«
يوم الجمعة، الناس قلة، اللهم إلا الحراس وبعض العمال اليدويين في أوراش لم تشكل بعد، قلت لنفسي “ها أنت أيها الفقير تمر بجانب الملايير الممليرة من الريال والدولار، فقل سبحانه الله، واشكر الاتحاد الاشتراكي.. علاش قاد«!”.
يمكن أن يقضي الزائر يومه كله بدون أن يستوفي المنطقة.”في الليل ، يقول مرافقي، يحج الناس إلى المكان لجماله، منذ عشر سنوات خلت لم يكن شيء من هذا في الرياض، الوقت يستعجلنا لزيارة “الدرعية” هنا، عش الهوية من طين وأحجيات التحرير، مدينة مازالت بيوتها الأصلية موجودة، أغلبها في طور الترميم، وفيها وحولها وبجانبها تنمو رضيعتها العصرية، مبان فاخرة، بمادة الطين الأصلي، والمعمار الأولي نفسه. لا يشعر المغربي هنا بغربة، فالطين هونفسه مع فارق اللون. حدث أن كنا نتبع سيارتين يفتح لهما الطريق ولو كانت مغلقة وصلنا بابا خشبيا كبيرا، يسحب للداخلين، السائق تبع السيارتين، وجدنا نفسنا وجها لوجه مع شخصين يحملان جهاز تلفزيون كبيرا، نظرة أحدهما لا علاقة لها بعمال البيوت سأل:”مين أنتم؟” تحدث السائق وطلب ما يمكن زيارته.
جاء الرد جافا” أنت في المكان الخطأ، هذا قصر لصاحبه. انتبهت إلى وجود سيدات بلباس البيت غير بعيد وأطفال. جازف السائق بالسؤال:”لمن يكون هذا المكان؟”، فجاءه الرد صاعقا مرة أخرى “مليكش صالح تسأل”.
ألححت على السائق بالرجوع القهقرى لنخرج. وصلت سيارة من الخلف، السائق ارتبك قليلا، أسعفته بالقول تقدم قليلا حتى تمر السيارة خلفك. كذلك كان رجع إلى الوراء، ثم خرجنا ..قطعنا بعض أمتار.. وضحكنا معا، بعد أن أفلتنا من صدفة ملغمة !
زرنا الحدائق في الجوار، ثم المنتجع، واضح أن يوم العطلة أخرج الناس من بيوتها، أغلب زوار المنتجع من الأجانب.. اليوم يوم صيفي.. فبراير هنا هو ماي عندنا …


الكاتب : الرياض: عبد الحميد جماهري

  

بتاريخ : 24/02/2024