سعدي يوسف..سلاما أيها الولد الطليق

«الشيوعي الأخير» يكتب قصيدته الأخيرة وينام

 

ها قد انتهت رحلة العزلة والفوضى والترحال، وأُغلِق قوس الحنين الى «السماء الأولى» بعد أن أرهقه تدوين دفاتر الغياب حتى قال: «ترحّلتُ حتى ما عادَ من مُرتحلٍ»، ولم يتسع صدر الألم للألم.
هل وصل الشيوعي الأخير إلى الجنة أو
«ربّما كانت حديقتُهُ من الصبّارِ ،
أو كانت سفينتُهُ من الورقِ الـمُـقَـوّى»

 

عن عمر يناهز 87 ، رحل أمس الأحد الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف، أحد كبار الشعراء في العالم العربي خلال العقود الخمسة الماضية وأحد أبرز الأصوات الشعرية من حيث التجربة الشعرية وغزارة الإنتاج.
ينتمي «الشيوعي الأخير» نسبة إلى ديوانه « الشيوعي الاخير يدخل الجنة»، إلى موجة الشعراء العراقيين التي برزت في أواسط القرن الماضي، وجاءت مباشرة بعد جيل رواد ما عرف بالشعر الحر أو التفعيلة، الذي أطلق على رواد تحديث القصيدة العربية من أمثال نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وبلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي.
تنفرد تجربة الشاعر العراقي الراحل سعدي يوسف، ضمن تيار الحداثة الشعرية، بتنوعها وغزارتها واكتناهها للرموز التاريخية والأسطورية والسياسية، وسياحتها بين أماكن ومساحات جغرافية متعددة. هذه التجربة تركت آثارها على الأجيال التالية من الشعراء واحتازت مكانها الخاص في الإرث الحداثي العربي. كما شكلت استثناء أدخل القصيدة العربية إلى مختبر بلاغي مختلف، يعمل على تأصيل اليومي والشفوي بأقل قدر من المجاز.
وبرحيله ستكون الساحة الشعرية العربية قد فقدت أحد أبرز الأصوات التي ملأت الأجواء الشعرية تجديدا وصخبا وتمردا.
تعرض يوسف مثل كثير من الكتاب والشعراء العراقيين للسجن بسبب مواقفه السياسية واضطر للهجرة إلى أكثر من بلد ليعيش منفيا مغتربا فقد ألقي عليه القبض في أعقاب الانقلاب الذي قاده حزب البعث في8 فبراير 1963.
وذهب إلى طهران ودمشق ثم إلى الجزائر حيث أقام لسنوات قبل أن يعود الى وطنه بعد انقلاب البعث الثاني في يوليوز 1968، ولم تطل إقامته هذه المرة، إذ كان الوضع يتدهور وكانت هناك حملة قمع واسعة ضد الشيوعيين وضد كل من يشتبه في معارضتهم للنظام وإن كانوا بعثيين.
وفي غربته الثانية، تنقّل سعدي بين مدن كثيرة مثل بلغراد، نيقوسيا، باريس، بيروت، دمشق، وعدن… ليستقر أخيراً في لندن، ويحصل على الجنسية البريطانية.
وتناقض نصوص سعدي يوسف الشعرية المشبعة بالرمزية والسلسة مثل الأحداث اليومية التي نمر بها وحتى الرتيبة والهادئة، مواقفه السياسية الحادة التي دخل بسببها في معارك عنيفة وسجالات فكرية وأولها مع رفاق دربه القدماء. وقد دفع الشاعر ثمنا باهظا بسبب أفكاره وانتمائه اليساري، وبشكل خاص بعد اختلافه مع حزبه في الموقف من غزو العراق والتحولات السياسية التي أعقبته.

الراحل في قطار الفجر

الشاعر العراقي محمد المظلوم ، نعى صديقه الراحل بكلمة مؤثرة قائلا:
« أيها الموت لا تفتخر.
وسلاماً أيها الولد الطليقُ
نيابةً عن أُسرة الشاعر ابنتيه: مريم وشيراز، وحفيداته نادية ونادين وماركيتا، وزوجته السيدة إقبال محمد علي كاظم. أنعي لكم سعدي يوسف.
أنعي لكم أحد العقول الكبرى في الثقافة العربية. وضميراً شعرياً تبنى طيلة مسيرته موقفاً أخلاقياً جذرياً لا مساومة فيه للقضايا الإنسانية العادلة على مدى ستة عقود ومن بينها موقفه من الاحتلال الأمريكي لبلاده وهو الموقف الذي دفع لأجله أفدح الأثمان وتحمل حملات التشنيع والتشويه بصبر الأنبياء وبسالة الفرسان.
نحيا حياةً لا يليقُ بنا
إلا الكريمانِ فيها:
الطُّهرُ، والخطَرُ!
أنعى لكم سيِّدَ المنفى الذي لم يغادره الوطن.
أنعى لكم جبلاً وكيف يمكن أن يرثى الجبل؟
لقد فاضت تلك الروح البهية المعطاءة مع الفجر كما يليق بشاعر صنع فجره في زمن الظلام العربي ففي تمام الساعة الرابعة وعشر دقائق من فجر يوم السبت 12-6-2021 استراح المحارب مثلما استراحت آلهة الأساطير القديمة بعد اكتمال خليقتها، سعدي الذي اعتاد أن يستقبل الفجر بقصيدة جديدة استقبل فجر السبت بقصيدته الأخيرة وأغمض عينيه على رؤياه الأخيرة بينما كانت طيور الفجر تعلن ميلاد يوم جديد، يوم هو تاريخ جديد لرحلة خلود الروح في أبديتها.
وسيوارى رماده في مقبرة (الهاي غيت) في لندن يوم الإثنين وبلا مُشيِّعين تنفيذاً لوصيته.
هل أرثيه رثاء شاعر لشاعر؟ أم صديق لصديق؟ أم ابن لأب؟ وهو الأب الشعري لسلالة شعرية عربية تمتد من المحيط إلى الخليج.
إِن لَم تَكُن مِن أُسرَتي وَعَشيرَتي فَلَأَنتَ أَعلَقُهُم يَداً بِوِدادي
ضاقَت عَلَيَّ الأَرضُ بَعدَكَ كُلُّها وَتَرَكتَ أَضيَقَها عَلَيَّ بِلادي
لقد عاش حراً، طفلاً أبدياً (ولداً طليقاً) اختار أن يحيا بشروطه مثلما اختار طقوس رحيله، بعنفوان الشعراء الفرسان، تاركاً هَدْياً مهدياً وأرثاً ثرياً لأجيال الشعراء العرب. اختار نعيه ورثى نفسه واصطفى مراثيه. اكتمل خريفه بما يليق، فمثله لا يرحل بل يكتمل، وهكذا كان موته اكتمالاً وليس انتهاء. اكتملت دورة حياته الجسدية وبدأت رحلة خلوده الأبدية، أتمَّ رسالته في الشعر والحياة، اختار لناره أنْ تشبَّ من رماد، ولرماده أن ينبعث عنقاء من تراب، وكانت آخر وصاياه أن يؤخَّر نعيه، لذلك تأجل إعلان خبر رحيله احتراماً لوصيته، فقد أراد لروحه زمناً خاصاً لتحلق فريدة وتعرج إلى ملكوتها بسرية مقدسة لتنصرف عن عالم الضوضاء بهدوء وسلام، مثل قصيدته الهادئة في مظهرها، الصاخبة والمحتدمة في جوهرها. مقتدياً بجدِّه المتنبي: أنامُ ملءَ جفوني عن شواردها… ونامَ الأخضرُ ولم تنم قصيدته: خضرته التي ستبقى بستان عالمنا منذُ أن فتح عينه على تلك البساتين في (حمدان) أبي الخصيب.
(علواً في الحياة وفي الممات) يا سعدي، يا صديقي ومعلمي، علواً وشمماً وفخراً بحيث لم تترك للموت ما يفتخر به كما قال (جون دن) في رثائيته لنفسه.
لن أقول وداعاً يا سعدي كمراثي الراحلين، بل أستعير لسانك في تحية الخالدين وأقول: سلاماً أيها الولد الطليق، سلاماَ أيها الأب والصديق وأنت تختار الفجر وقطاره موعداً للرحيل مستجيباً لنداء سماء (بعيداً عن سمائك الأولى) ومعلناً نبوءة شعرية للروح العظيمة التي تختار التوقيت الأخير لغياب الجسد:
سأرحلُ في قطارِ الفجرِ:
شَعري يموجُ، وريشُ قُبَّعَتي رقيقُ
تناديني السماءُ لها بُروقٌ
ويدفعُني السبيلُ بهِ عُروقُ
سأرحلُ …
إنّ مُقتبَلِي الطريقُ.
سلاماً أيها الولدُ الطليقُ!
حقائبُكَ الروائحُ والرحيقُ
ترى الأشجارَ عندَ الفجرِ زُرقاً
وتلقى الطيرَ قبلكَ يستفيقُ..».

سعدي يوسف
صديق المغرب

كان الراحل من أصدقاء المغرب، بفعل تردده الدائم على الملتقيات الثقافية بالعديد من المدن المغربية
ففي حوار سابق له مع جريدتنا، أكد الراحل أن علاقته بالمغرب، ليست علاقة جديدة، مضيفا أن «معرفتي المباشرة للمغرب بدأت في أواسط الستينات حين كنت أزوره بين الفينة والأخرى. فكانت زياراتي لهذا البلد الشقيق زيارة سهلة، بحكم أنني في ذلك الوقت كنت أسكن في غرب الجزائر وبالضبط في مدينة سيدي بلعباس، وهي غير بعيدة عن الحدود المغربية التي توجد بها مدينة وجدة. ومن المعلوم أن اللهجة متشابهة والعادات مشتركة ما بين غرب الجزائر وشرق المغرب. هكذا عرفت المغرب من وجدة إلى سبتة، بالاضافة إلى التاريخ والناس والأرض. لقد كنت من بين الحاضرين الذين شهدوا ميلاد بيت الشعر بالمغرب، كما أنني أتابع باهتمام كبير الانتاج الثقافي في المغرب، ولي علاقات صداقة مع مثقفيه وشعراءه النثريين».
ويذكر أن الراحل سبق له أن فاز في الدورة الرابعة لجائزة الأركانة في 2009 والتي ينظمها بيت الشعر بالمغرب تقديرا لمنجزه الشعري الذي يغطي حوالي ستة عقود ويؤشّر على كدّ تصوّري عصامي وملحاح وعلى مثابرة كتابية جديرة بالاشادة .
وقد نعى رئيس بيت الشعر في المغرب كراد القادري الراحل قائلا:»الشاعر سعدي يوسف، يختارُ عنوانا جديدًا لإقامته الشعرية و يرحلُ عن عالمنا.
سعدي يوسف، الصديق الكبير للمغرب، ولبيت الشعر، لم يبخل بالحضور و المشاركة متى دعاه صوت الشعر إلينا. في الدار البيضاء، بمناسبة مهرجانها العالمي للشعر، أو في الرباط سنة 2003، بمناسبة اختيارها عاصمة للثقافة العربية، أو عند تتويجه بجائزة الأركانة العالمية للشعر سنة 2009.
وداعا سعدي….»
كان الراحل أيضا متابعا للمخاض السياسي لمغرب ما بعد الاستقلال، خاصة جريمة اغتيال الشهيد المهدي بنبركة وقد كتب قصيدة حول الشهيد بعنوان «أوراق من ملف المهدي بنبركة»، حرص فيها على أن تتمتع بشيء من طبيعة الوثيقة، فكانت محاولة منه لتقديم صورة مفصلة شعريا عن اختطاف واغتيال المناضل المهدي بنبركة، وهي القصيدة التي اعتبرها مثالا لأهمية السرد في النص الشعري الجديد.
الشاعر والناقد عبد اللطيف الوراري كتب عن الراحل « يظل سعدي استراتيجيا في ثقافتنا الشعرية المعاصرة، لأن كتابته، التي لها صفة المغامرة، ظلتْ راهنية مفارقة في علاقتها بالميثات التي تحكم الكتابة راهنا وتؤدلجها، ولأن كتابته تتجاوز الاختزالات الإيديولوجية المتعاقبة، إذ لا أهم في حسبانه من أن يعنى المرء بالشفافية الخاصة بالقصيدة المتجددة باستمرار، غير منصرف داخلها عن ندائه وتكوينه ونسقيته. ومن ثمة، نكون بصدد سعدي يوسف أمام شاعر أمةٍ، شاعرٍ ظل الأكثر تأثيراً في شعراء العربية خلال العقود الخمسة الأخيرة، ولا سيما في شعراء قصيدة النثر، الذين استهواهم ما وجدوا في قصيدته من رعشةٍ جديدة أصابت جسد الشعر العربي الحديث، تمثلت في العناية بالشفوي واليومي والعابر».
وفي رثائه لـسعدي يوسف، قال الكاتب والروائي السوري إبراهيم الجبين: «سعدي يوسف لم يكن شاعراً عادياً، كان مجدداً وخلاقاً وصاحب رؤية في عالم القصيدة، تكوينها وبنيتها ولغتها وإيقاعاتها. أشعر أن صفحة كبرى من حياتنا تنطوي برحيله، ولا أعرف كيف يمكن تصوّر الحياة الشعرية العربية من دون سعدي».
عمل الراحل في التدريس والصحافة الثقافية، غادر العراق فى السبعينيات، ونال جوائز فى الشعر منها جائزة سلطان بن على العويس، والتى سحبت منه لاحقا، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة كافافىس من الجمعية الهلّينية، في عام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلف أجنبيّ. وفي 2008 حصل على جائزة المتروبوليس في مونتريال فى كندا.
ومن دواوين سعدي يوسف:
القرصان (1952) أغنيات ليست للآخرين (1955) ، النجم والرماد (1960) ، قصائد مرئية (1965)، بعيداً عن السماء الأولى»، نهايات الشمال الإفريقي (1972) الأخضر بن يوسف ومشاغله(1972) تحت جدارية فائق حسن (1974)، الليالي كلها (1976)، الساعة الأخيرة (1977)، كيف كتب الأخضر بن يوسف قصيدته الجديدة (1977)، قصائد أقل صمتاً (1979)، الأعمال الشعرية (1980)، من يعرف الوردة (1981) يوميات الجنوب يوميات الجنون (1981) ، مريم تأتي (1983)، الينبوع (1983)، خذ وردة الثلج، خذ القيراونية (1987)، محاولات (1990) ، قصائد باريس، شجر ايثاكا (1992)، جنة المنسيات (1993) ، الوحيد يستيقظ (1993).


الكاتب : المحرر الثقافي

  

بتاريخ : 14/06/2021

أخبار مرتبطة

كتب الصحفي البريطاني الحائز على عدة جوائز، والذي عاش في «الناصرة»(إسرائيل) لمدة 20 عاما، ثم عاد إلى «المملكة المتحدة» في

يستضيف المغرب، انطلاقا من أول أمس الاثنين وحتى 16 من غشت الجاري، مناورات «Arcane Thunder 24» (الرعد الغامض) بشكل مشترك

تأكدت تحليلات الاتحاد خصوصا واليسار الوطني عموما من كون الحل الجدري للوضعية التنموية في المغرب يمر عبر الدولة الاجتماعية، نريد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *