سعيد عاهد … يقظة الهيولى النائمة

لو أتيح لي أن أرسم «بورتريها» على القماش للماثل أمامكم المدعو سعيد عاهد لاخترت أن أرسمه بتقنية «الأكواريل»، لشفافيته وبساطته، ولحاجته الدائمة إلى انكسارات في حدود ما يتيحه اللقاء بين الدقة والارتجاف.
لذلك، حسبي الآن أن أدحرجه، بالهدوء اللازم والواجب له، من الصمت إلى الكلام، وبكل التردد الملتهب بين العظام. فسعيد مفرد ممتلئ، حتى آخره، بـ»الكثرة والاختلاف»، بعيدا عن تلك الشفاه الغليظة التي تلعق وجهه في المناسبات بارتياح، أو على الأقل تريد أن تضرب عليه حاجزا من الأسلاك، احتكارا تارة، وطمسا تارات أخرى. إنه غير قابل للاحتكار، لأنه يخفق في عمق الأشياء زاحفا على جلدها، يأكل منها وتأكل منه دون هزات أو ضجيج. ولذلك أدعي، بيني وبين نفسي، أنه:
أولا: ليس رجلا مسقوفا بالأجراس، مادام «يقضي حوائجه بالكتمان». نادرا ما يعبر عن تبرمه أو انزعاجه من شيء. لا يرد الإساءة بمثلها، ولا يسعى إلى لفت الانتباه إليه، حتى وهو يتميز ويتفرد ويضيء. إنه يكتفي، في كل حين، بدعوتهم إلى اهتبال «الجزء المملوء من الكأس»، بينما يشرب حتى الثمالة، ومن برج لا يعتليه سواه، ذلك «الجزء الفارغ» المثخن بالهوامش والطروس..
ثانيا: لا يهتم، لبناء فكرة ما، برفع المآذن والقلاع قد اهتمامه بحفر الأنفاق التي يباشرها من أسفل مثل حيوان الخلد، ذلك لأنه معني بالمداخل الممكنة والمخارج المحتملة، على حد سواء.
ثالثا، يقول سعيد إنه «غير معني»، والحال أنه يترك لديك، إذا كلمته، الانطباع بأنه كان يقف، قبل قليل، فوق أسوار العالم ليتلصص على نبض الكرة الأرضية، وأحوال المناخ والطقس، ودرجات التوتر، وأسبابها ومسبباتها..
رابعا: «صقر مطارد في غابته»، كم تلقى من مؤامرة، لكنه ردها بجدارة الذين يحلقون عاليا.. أحيانا، بعدم الاكتراث، وأحيانا أخرى بالفزع إلى ذكائه الوقاد وحلمه الذي لا يختلف حوله اثنان. كم حاربوه في ما يثريه، وكم فاض عليهم وأغرقهم في شساعته!
خامسا: لا ينظر إلى الرؤوس المطرقة باستصغار. فهو ذو فراسة تمشي على الحصى فتشعر بالماء. ولذلك يحبه الصابرون والمستضعفون و»معتنقو الأنفة»، ويعتبرونه صوتهم إذا تحدث، لأنه إذا تحدث أصاب، وإذا أصاب قتل..
سادسا: قوته في كثرته. فإذا أشعلنا الأضواء، فهو الشاعر، وهو الإعلامي، وهو المترجم، وهو القارئ، وهو السياسي، وهو الناشط المدني، وهو الديبلوماسي، وهو المتفوق في الرياضيات، وهو الباحث في الأنتروبولوجيا الثقافية والتاريخ، وهو النديم، وهو لاعب الكرة، وهو الجديدي الدكالي المغربي الإفريقي الكوني، وهو هذا الماثل أمامكم الذي ينظر إلينا جميعا من زوايا خفية..
سابعا: إنه طفل ما زالت خطواته تلتهب في كل الممرات عمرا كاملا، طفل في غضبه، وطفل في مرحه، وطفل لا ينظر في المرآة كثيرا حتى لا يُضَيِّع دهشته، أو حتى يظل على علاقة جيدة مع ظله..
لذلك أيها الأصدقاء، دعوني أدعي أمامكم أن هذا الرجل مغرم، في كل كتاباته تقريبا، بظله. إنه معني بالظل، لأنه يعرف أن «الجسد» فانٍ، وأن حقيقة الشيء في ظله، أو في الشبيه.
فهل كان من المخطط له، مثلا، أن يلتقي المدعو سعيد عاهد بظله (أو بظلاله المتعددة) في محكياته الذاتية في «قصة حب دكالية» و»ذاكرة متشظية»، وفي دواوينه الشعرية الثلاثة؟
وهل كان سيختصر أبجدية ظله في الدخائر العجيبة التي تعمَّد ترجمتها؟
هل كان سيهتم بالسحر والمعتقدات، وبتلك الرعشات الغامضة التي ظل يقتفيها لعلها ترشده إلى مدينة يعبدها وتوجعه؟ هل كان سيشطر الخطأ إلى نصفين؟ وهل كان سيهرق العنب الناضج في الجرة؟
أزعم أن سعيدا، من أوله إلى آخره، مدجج بجيش من الأسماء المصفحة التي تحارب تحت إمرته في كتاب الرمل. إنه صفحات تقرأ، لكنها لا تتكرر، ولا يمكن العثور عليها إلا مخفية وراء قناع ما. هل يحب سعيد الأقنعة؟ الحقيقة تحبها أيضا، كما يقول سقراط. هل يطمسها ليصرف الانتباه عن اسمه؟ في الواقع، الماثل أمامنا الآن ما هو إلا اسم واحد لناسخ يعرف كيف يهرب الضوء إلى اسمه. لكن هذا الضوء، كما لو أنه يؤخذ بشهقة واحدة أو كُحول قوية، ينمو في الأسماء المضمرة الأخرى.. كلها هنا في «ذاكرته متشظية» .. أنا، هم، نحن، أنتم.. يخرجها من جوفه، الواحدة تلو الأخرى، في نوع من التعري الواعي، الكاشف عن الأصول والمرجعيات؛
(أنا) تلك الخيوط الكثيرة التي تتحرك في كل ما يكتبه الناسخ ويهتم به؛
(هم): الفنار الشاهق الذي تجتمع حوله الأسماء والنصوص والشرور أيضا..
(نحن): ورشة المتلاشيات التي يفتح أبوابها على مصراعيها، لتخرج «المعادن الرخيصة» مرفوعة الرأس..
(أنتم): خيميائيو «الوجود برهان» على أن المسافة بين التراب والذهب مجرد «مجاز مرسل»..
لماذا يلجأ سعيد إلى الترجمة بـ»القفز والوثب» بتعبير عبد الفتاح كيليطو؟ أليست الترجمة، في العمق، مجرد استعارة ماكرة للآخر؟ أليس هذا الانفصال بين لغتين، بين جسدين، بين ضفتين، ترجمة حرفية لـ»جوار لغوي» مجسر برباط ذاتي متين؟
إن اللجوء إلى الترجمة هنا ليس بغاية الربط بين فضاءين متباعدين كما قد نتوهم، وليس بغرض توليد الاختلافات، كما يقول جيل دولوز. بل على العكس تماما، كما أزعم وأدعي. الترجمة هنا تشتغل كإثبات للتشابه، بل الأحرى للتماثل الذي يرفع أي محاولة للتمييز بين هذا الطرف أو ذاك. أليس هذا ما جعل المدعو سعيد عاهد يتحيز، على نحو لا لبس فيه، لـ»الناسخ». ناسخ لا «ينسخ» أعمال «الأشباه» دون إجراء أي تغييرات أو إضافات، بل على العكس تماما، يعتمد على نوع من المواربة ليختفي في «الآخرين» في نوع من التواطؤ الخدّاع مع الأصل.
يستدعي الناسخ، مثلا، عبد الكبير الخطيبي، والحال أنه يستدعي عبره سعيد عاهد. ففي لقاءاته الثلاثة معه، نلتقي مع الانعكاس. سعيد عاهد ما هو إلا انعكاس للخطيبي، والخطيبي ما هو إلا انعكاس لسعيد عاهد.. ولا نعرف نحن من هو الناسخ ومن هو المنسوخ؟ من هو الأصل ومن هو الفرع؟ من هو العود ومن هو الظل؟ كلاهما ظل الآخر في نوع من تبادل الأدوار والوجوه والهويات. وفي النهاية أليست «الأنا آخر»؟، كما يقول الشاعر آرثر رامبو.
أزعم أيضا أننا حين نقرأ ما كتبه الناسخ عن الآخرين (الخطيبي، ألان روب غريي، أحمد الصفريوي، فديريكو غارسيا لوركا، إمبرتو إيكو، كارلوس فوينتس، موديغالياني.. إلخ) مجرد استعارة للحديث عن نفسه. فكم يشبه الخطيبي سعيد عاهد وهو يفلت، مثلا، الخيط الرابط بين أفكاره ولسانه، وكم تشبه «الذاكرة المتشظية» الذاكرة الموشومة، وكم يشبه الناسخ ظله حين تجمع بينهما علاقة «تحاب» مبنية على حرية التفكير، وعلى فضاء الولادة (الجديدة) ووحدة الاهتمام بالرموز والعلامات والأساطير والتاريخ والتحليل النفسي والأدب، وعلى ما يمكن أن نسميه الأنماط العليا للتفكير؟
الناسخ أيضا منشغل بما تمثله المكتبة، لا بما يمثله الكتاب. وهنا يوهمنا أنه أنشأ صداقته مع الكتب/ النصوص، ربما تحت أحد أقمار بورخيس المتعددة. لا يقول الناسخ ذلك تصريحا، ربما لأنه- في «ذاكرة متشظية» مثلا، يعلن خروجه المجازي عن كتابه المفضلين الذين سردنا أسماء بعضهم. فإذا كان الخطيبي قد تحرر من عرابيه الفكريين، ودخل في حوار مع النصوص عوض المؤلفين، فإن المدعو سعيد عاهد يستعيرهم لرسم ملامحه الشخصية فكريا وأدبيا. هم مجرد أدوات، أشباح اصطادهم الناسخ بحجر قراءاته ورغبته الواعية في التجاوز. وفي المحصلة، كلاهما يقوم بفعل انشقاقي عن فكرة المكتبة.
ولا يكتفي الناسخ بالتفرج على فيلمه الذاتي بعيون الآخرين، بل يحولهم إلى شهود على تجربته. أليس الصفريوي هو «الأب»/ المهادنة/ القاعدة، بينما ألان روب غريي هو الرفيق/ القلق/ الهدم. ألا تتحول الرهبة من ذاك إلى الإعجاب بالآخر الذي يقتله ويمحوه. «ليست هناك نظرية أو قالب مسبق وجاهز تصب فيه كل الروايات. على كل روائي أن يتوفر على شكله الخاص، إذ لا وجود لـ»وصفة» يمكن أن تحل محل هذه الفكرة الدائمة. الكاتب هو الذي يخلق لنفسه قواعده الخاصة». من القائل؟
إنه ألان روب غريي وقد تحول إلى مجرد صوت أو لسان.. إلى لقطة مقربة في احتفالية الكتابة.. ومعه، سنكتشف موقف الناسخ من الرواية، ومن الشعر، ومن السينما، ومن النقد الأدبي، ومن الماركسية، ومن سيلين.. إلخ.
كيف يمكن أن نتجاهل أن تجربة الحجب تستحكم كثيرا في كتابات سعيد عاهد؟ لنستحضر مثلا نصه الرائع: «غير معني».. وأيضا نصوصه الأخرى الممتعة في «قصة حب دكالية».. إنها تجربة حقيقية بالنسبة للناسخ، وتتولد بشكل متأصل وخفي وجميل جداً. «المقبرة هنا جماعية».. وهي فعلا كذلك ما دام كتاب «ذاكرة متشظية» قد تحول إلى مقبرة/ مكتبة/ معزل طبي. هل يمكننا أن نتصور مدفنا أجمل من هذا بالنسبة لشاعر؟.
من الكتاب الذين يستأثرون باهتمام الناسخ اهتماما لافتا وكبيرا، أمبرتو إيكو، صاحب «اسم الوردة» و»مقبرة براغ» و»بندول فوكو» و»جزيرة اليوم السابق» و»باودولينو» و»العلامة» و»الأثر المفتوح» و»السفر مع السلمون».. وهو مثله لا يستسيغ وجود أناس غير مهووسين بلعبة كرة القدم. الناسخ يحب الدفاع الجديدي، وقد يحب بدرجة أقل فريق الرجاء البيضاوي. ومثله- أو هكذا يحب أن يفكر: «من يتفرج على الآخرين وهم يمارسون المنافسة الرياضية يشعر بنوع من الإثارة: إنه يصيح ويهيج، ومن ثمة فهو يمارس تمرينا بدنيا ونفسيا، كما أنه يقلص من عدوانيته ويشذب تنافسيته». ولكم أن تراقبوا الناسخ وهو يتفرج على فريقه المفضل. ساخر بغزارة، وهائج باحتدام.
إنه هو يستعير لسان إيكو ليتكلم، ليصحح عي اللسان وارتباك القلم، محرك دمى ماهر ورشيق. وهذا ما فعله تماما مع كافكا حين «احتسى «البوكادو» (والد القنصو)/ الناسخ كأس المنية. «انزوى كافكا في غرفته كعادته ليلخص لحظات يومه في كلمات منتقاة خطها على إحدى صفحات كراسة مذكراته».
والجميل في الناسخ أن يريد أن يوهمنا بأنه يتحرك في حفلة مغمورة ومهملة. وأن كتبه وأصدقاءه وكل ما حوله أساطير تدور فعلا في رأسه. هل هذا ما يمده بالإيمان؟.
أكيد أنه يرغب في إخفاء ما هو فيه من استثارة، لكنه حجب ينطوي على أسرار صغيرة ماحقة، كلها تتصل بالرغبة الدفينة في إنهاء كل علاقة مع التشويش الذي يلحق الأذى بحساسيته. إنه يغني، ويثرثر.. حين يعرف بينه وبين نفسه أنه يريد أن يصمت..

(ورقة قدمت خلال لقاء «قهوة وكتاب» بمكتبة التاشفيني بالجديدة احتفاء بسعيد عاهد يوم السبت 15 أكتوبر 2022)


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 21/10/2022