ربت على كتف والده وخرج مهرولا بجسمه النحيف. سار يتمشى على الرصيف إلى أن بلغ باب الغابة التي يعتبرها حديقته الخاصة أو بالأحرى ملجأه الذي يسكن روحه حيث الطمأنينة وكل ما يضفي على محياه السرور.
اعتاد كريم الهروب إلى هاته الغابة ليؤنس وحدته ويداوي جروحه، الوحدة التي تستوطن ذوات أقرانه، في دواخله تتصادى أحسيس خاصة تسمو بروحه عاليا.
هو في الثامنة عشرة من عمره، ذو بشرة سمراء، بلحية خفيفة، طويل القامة، محب للقراءة. في طريقه ظل يلامس وريقات الريحان التي حملت معها ندى خل شب في وجدانه برائحته العطرة المثيرة، حفيف أغصان الغابة يدغدغ مشاعره التواقة .إلى شيء مبهم لا يعرف على وجه التحديد ماهو. ظل يرقب تفاصيلها الصغيرة وما تحمله من بهجة تصب روحا على روحه، استمر في المشي نحو ركن مهجور، وما إن خطى خطواته نحوه حتى هوى في حفرة عميقة بعدما داس، في غفلة منه، فوق بابها الخفي، كان المساء وكان الغروب وتصادي لحظات الصفاء مع الزمن الشاعري.
لما أحس بورطته، هدأ من روعه لعله يسكت غليل خوفه أو يقنع قلبه بألا يخاف. صُدم وهو يحلق في جدار تلك الهوة وما تحمله من جداريات قديمة منحوتة برسوم وكتابات غريبة توقظ السؤال في أقاصي الروح الباحثة عن جواب ومعنى لسر منفلت منه، حاول التملص خوفا لكن لا ملجأ له غير الاكتفاء بالمشاهدة. وبعد برهة من الزمن بدأ يخطو أولى خطواته ليلامس تلك النقوش، وما إن وصل إلى أحد الأركان حتى ألفى ممرا يتفرع إلى فروع عدة، جعل من أول فروعه محط كتاب كبير، يبدو أنه نقش على ذلك المكان خصيصا. فجأة سقط الكتاب أمامه كأنه يوحي له بأن يحمله ، شرع كريم في أخذه من مسقطه وبدأ يقلب صفحاته وانصدم من هول ما رآه في الصفحة الأولى . كانت مقدمته على شكل مخطوط دموي مجهول الفهم، وتذكر ما أبصرته عيناه أول سقوطه، ربط مغزى تلك الجداريات بهذا النوع من المقدمات لكنه لم يفهم بعد المعنى الحقيقي، واستمر يقلب في الصفحات صفحة تلو الأخرى، حتى وضع مقلتاه على جدول استقر في أعلى الصفحة، تحفه إشارات ورموز نظمت لتشكل مسار قارئ هذا الكتاب، الغريب في الأمر أن ذلك الجدول كتبت أسفله بضع أسطر متقطعة باللغة العربية، ربما لتكشف عن جنسية الكاتب أو لتقرب كريم (قارئ الكتاب) من فهم السر . أخذ في تهجي تلك السطور التي جعلت من مطلعها:
ريحان وعود فيحان..
حفيف أغصان..
نخل وصنوبر عال..
فردوس أحلام..
طير وخيل…
أكاليل أزهار..
خرير مياه..
جنة أحلام تخفي شمس أشواق
روح جو تزهو في الآفاق
خلخال طير أسدى نسيجه لبساتين الروح..
نور..عالم…حياة …جنة ..ه!
وما إن انتهى كريم من قراءة هاته الكلمات المتقطعة حتى بزغ النور من كل جوانب الحفرة وبدأ يحوم حوله واتسعت لتظهر له عالما لم يكن في حسبانه، عالم حمل جل معاني الروح، عبير بنفسج ، ندى متساو كاللؤلؤ يغوص في محيا خرير نهر أسدى بمائه ودا لبساتين من الريحان، حلي أشجار التفاح كساها البياض كأنها عرائس تنتظر موكب الريم لعل عيونها تعكس هذا العالم.