ســـنـــوات عــبد الــمــومــن الــمــشــتــعــلــة (2-3)

 

إلى عبد الله بوشتاوي، ومحمد عبيد: صديقين دائمين

ركبت الإدارة رأسها، وركبنا نحن أجنحتنا، ورَوَّضْنا سيقاننا استعدادا لكل محتمل، وصار « عبد المومن « لأيام متواليات، قفراً وقاعا صَفْصَفاً. فما أن يدق جرس الثامنة صباحا، وينفتح الباب العريض الخلفي حيث يتدافع الخارجيون، ويتدفقون كما لو تحرر ماءُ سدٍّ محتجز خلف سور، حتى تلتقي نظراتنا، وغمزاتنا، وإشارتنا المشفرة، وإذا بالجمْعَيْن: ـ خارجيين وداخليين ـ يعلنون عن تمردهم وتراصهم، فيشكلون حاجزا منيعا أمام التلاميذ الذين يرغبون في الالتحاق بالأقسام. كان التلاسن جسراً متحركا، وخبزا يوميا بين الإدارة وبيننا. يمطرنا المدير والناظر والحارس العام بألوان من الشتائم والسِّباب، مهددين متوعدين بالتوقيف والطرد، فيما نمطرهم، نحن، بعاصفة من التصفيق والشعارات الثورية، والصفير المتواصل، والزعيق والصراخ: ( هذا تعليم طبقي أولادْ الشعبْ فزّْناقي / ألمديرْ سيرْ فحالكْ التعليم مَشي دْيالكْ.. الخ ).
لعبة القط والفأر استمرت ردحا من الزمن، وامتدت إلى ثلاث سنوات كاملة. كانت صدى واعياً، وانغراسا محسوبا وغير محسوب في تربة رَجْراجَة ساخنة على أرض لا تَني تلتهب في طول الوطن وعرضه، وفي أفضية المؤسسات التعليمية والجامعات تخصيصاً. كان الشعار أكبر من المرحلة، وأعلى من الواقع، والحلم ميتافيزيقي إلى أبعد الحدود، وبغيتنا المستحيلة ترتد نحو نحورنا. كنا طَعْما بقدر ما كنا نارا موقدةً، وعلى بيّنة مما يُدَبَّر ويُسَيَّرُ ويُؤَجْرَاُ من سياسة لا شعبية ولا ديموقراطية. ومن طبقية تزداد وتستفحل عنوانها: بذخ ورَفاه أقلية مهيمنة متحكمة تعتمد على الاقتصاد والمال والجاه والنفوذ، وإبعاد وتهميش القوات الشعبية، بل إقصاؤها من حقها في الثروة الوطنية، وإذايَتُها في خبزها الكفاف، وكرامتها وحقوقها المبدئية كالشغل، والتعليم والصحة، والحرية، والعدالة الاجتماعية.
لم يُثْننا ذلك، لحظةً، عما جئنا من أجله، وعما كدحنا واجتهدنا من أجل الوصول إليه، وهو: التحصيل ثم التحصيل، ثم التحصيل لدرْءْ عقابيل الحاجة، والفقر والأمية، والإذلال. وآية ذلك، أننا نجحنا أو نجحت شريحة معتبرة منا في الجمع الذكي بين الدرس والنضال. فكنا لا نتراخى، بعد إغلاق المؤسسسة غِبَّ إضراب ناجح وكاسح، في التهام المواد المختلفة التهاما، وقراءة كتب الجيب بالفرنسية، والشعر والروايات. وهكذا، كانت نتائجنا مشرفة، أمام ذهول الإدارة، لا تنزل نقط المراقبة المستمرة عن عشرة من عشرين في كل المواد من الرياضيات إلى التربية الإسلامية التي كنا نفر من حصصها لثقلها أو لثقل الأستاذ الذي كان يدرسها.
لم يفهم أستاذي الملقب ب ( هِيهِي ) ـ لقبناه أحمد السالمي وأنا. أحمد الذي أحييه هنا. ـ كيف بإمكان تلميذ في السنة الأولى تأهيلية، أن يكتب موضوعا إنشائيا في اثنتيْ عشْرةَ صفحةً ( دفترا كاملا )، ويدسه بين أوراق زملائه التلاميذ؟، ولكنه ـ مع توالي الأسابيع والفروض ـ تأكد من ان ابنَ عِرْسٍ هو ابنُ عرس حقيقي: يأكل الطعام، ويقضم الفواكه، وما فَضُلَ على المائدة، ويشعل الإضراب، ويكتب جيدا أيضا. وبضدها تتميز الأشياء، وتتقدم المشاريع، وتبرق الأضواء والأجواء؟
لم يتصور أن ابن عِرْسٍ أتى وجدةَ، وفي جِرابِه وكِنانَتِه أَسْهُمٌ ونِبالٌ إنشائية سابقة تدل على تطويع الجمل، وسرد المشاعر، وبسط التحليل والوصف.
ولو لم يكن الأمر كذلك في باقي المواد، وفي مقدمتها اللغة الإنجليزية، لَمَا نوديَ عليه مع زمرة لامعة من تلاميذ عبد المومن، لتطلق الوزارة الوصية بهم وبغيرهم في باقي ثانويات البلاد، ما أسمته بمسلك:
الذي يمكن ترجمته ب:( رَبابِنَة ُالإنجليزية ). وقوام المسلك وطبيعته، وسبب إحداثه والهدف منه، هو: إحلال اللغة الانجليزية المحل الأول، بوساطة النخبة التي اختيرت واصطفيت من قِبَلِ الأساتذة المدرسين، بوصفها طُلَعَةً بين زملائها بناءً على نبوغهم في لغة شكسبيرْ.
لم يزد عددنا، خلال سنتيْ السنة الثانية والسنة النهائية باكالوريا، على اِثْنَيْ عَشَرَ تلميذا وتلميذة سُمّوا ب ( زبدة الثانوية ). أما اختلافنا عن أصدقائنا الآخرين الذين استمروا يدرسون بأقسام الآداب العصرية، فيكمن في زيادة حصص اللغة الإنجليزية، وتقليص ساعة من اللغة الفرنسية، وكذا من اللغة العربية، فضلا عن اختلاف الكتب المبرمجة المقررة، والمنهاج البيداغوجي المعمول به.
وخلال تَيْنَيْكَ السنتين الدراستين الرائعتين المختلفتين، انكببتُ على قراءة الكتب بِنَهَمٍ، و» قرض الشعر « بانتظام بعونٍ ودعمٍ من صديقي الشاعر لحسن كردوسْ الذي أنتهز الفرصة لأحييه، وكان تلميذا ومعلما داخليا يسبقني دراسيا بمستويين. كما لا يفوتني أنْ أشيد بأستاذي البهي، أستاذ الفلسفة المبدع: عبد السلام الجُباري الذي لم يبخل علي بالحدب والصداقة والتوجيه. والأستاذ الصموت والعميق المناضل الفذ ( عضو الديوان السياسي الآن لحزب التقدم والاشتراكية )، سالم لطافي أحمد.
ففي تينيكَ السنتين تحديداً ـ وإِنْ كنتُ في السنة الدراسية السابقة، قد شرعتُ في ذلك ــ صِرْتُ « مغامراً «، طموحا، متوهما أنني شاعر أكاتِفُ وأُسامِتُ شعراءَ مغاربة مرموقين، عندما أسمع شعري يُبَثُّ عبر أثير إذاعة الرباط الوطنية، بصوت الإعلامية الرائعة، الرخيم: فريدة النور. وهذا معناه أن الشاعر المغربي صاحب البرنامج والمشرف عليه إدريس الجائي رحمه الله، يكون زَكَّى شعري ورحب بي وبه. ولم يكن إدريس مهادنا أو مُرائيا إذ أنه كان ينتقد ما يراه موجبا للانتقاد، ويَمْحَضُ بالنصح الشعراء والشاعرات البراعم الذين يلمس في ما كتبوا اضطرابا، وضحالة وعِوَجاً ونقصا فنيا. كما أنه لم يكن يتيح الفرصة لقصيدة النثر التي كان يسميها ب ( الخواطر )، ربما لإيمانه بأن الشعر إيقاعٌ بالمفهوم القديم، مفهوم الفَراهيدي ومن لَفَّ لَفَّهُ.
وَيا كَمْ دعوتُ زملائي الداخليين في مساءات البث لسماع نصوصي. وكان يُسْقِط ُفي يدي، أحيانا، أن لا يذاع نص لي، فأدخل في حالة اكتئابٍ لا ينْجيني منها سوى فيلمٍ سينمائيٍّ.
وكان أساتذتي وزملائي وزميلاتي على علم بذلك مما كان يزيدني شغفا بالقراءة والكتابة، ويملؤني افتخارا و» بالونية «، لكن تواضعا لا اختيالا على رؤوس العبادِ اا.
وهل تعلم ـ أعزك الله ـ أنني كنت أوزع نفسي على طلبات كثيرة تأتيني خصوصا من التلميذات في شأن تحرير مواضيع الإنشاء. أحرر الموضوع الواحد بطرق شتى ومختلفة لقاءَ وَعْدٍ بالحب، أو لقاءَ دريهماتٍ أُنْفِقُها في الذهاب إلى السينما ليلا بعد الهروب من الداخلية، أو في سُوَيْعاتٍ من نهارٍ متى غاب أستاذ، أو عُقِدَ اجتماع إداري مع الأساتذة، أو حَلَّتْ عطلةُ يومٍ أو يومين.
وما نَسِيتُ، وكيف أنسى رباط الفتح، وغابة المعمورة المُزْدانة بشمس وملح وزرقة المحيط، والمُزْدهية بشجر البلوط، وبالطيور من كل جنس. فقد نظمتْ لنا ( تلاميذ المسلك المذكور )، السفارةُ الأمريكية بتنسيق مع وزارة التربية الوطنية صيف شهر غشت العام 1972، إقامةً تثقيفيةً وترفيهية بين أحضان الخضرة والماء والوجه الحسن. تلاميذ وتلميذات قَدِمُوا من كل أنحاء البلاد وقد ناهز عددنا خمسين تلميذا التقوا بالمعمورة في أفق إتقان وإجادة النطق والحوار والمحادثة باللغة الإنجليزية التي حرص أبناء « العم سام « عل تحْبيبها لنا من خلال وضع برنامج ديداكتيكي هادف وتَسْلَوي، برنامج مدقق في الزمان والمكان، تنوعت فيه المساقات والمواد التي كنا نتلقاها ونحتسيها كما نحتسي الشاي بلذاذة في الهواء الطلق، على العشب النَّديِّ تحت ظلال شجر البلوط، وسوالف الكستناءِ البنيِّ. وفي المساء، كل مساء ـ طيلة الخمسةَ عَشَرَ يوما ـ كنا نتخفف من أثقال العمل والدرس، بإطلاق أجسادنا وسيقاننا للرقص، وآذاننا للموسيقا الكلاسيكية، وللغناء العذب حيث أمسينا نعرف ونحفظ أغاني كاطْ سْتيفَنسْ، والبيتلزْ، وباري وايتْ، والرولينغ ستونْ، وديبْ بَرْبَلْ، وناس الغيوان الذين كانوا ـ فترتئذـ نجومَ وسادةَ الساحة الوطنية فنيا. مساءاتٌ تستمر إلى منتصف الليل نقفز فيها، ونضحك حتى النواجذ، ونغني بانتشاء، فتيانا وفتياتٍ، ونطفيء عطش مراهقتنا، وظمأ أجسادنا في «جحيم» من القُبَلِ.
وفي اليوم ما قبل الأخير، نزلنا ضيوفا على مائدة السفير الذي سيسلمنا، في الغد، دبلوماتٍ إشهاداً على إجادتنا، وتحقيق المراد الذي جُمِعْنا من أجله.
كانت ـ إذاً ـ تلك الإقامة الرائعة، هدية لم تتكرر، وفرصة ذهبية لمعرفة كيف تتم الدروس، وكيف تُقَدَّمُ ديدكتيكيا وتكنولوجيا إلى التلاميذ، وماذا ينبغي أن نقوم به حتى تنشب اللغة فينا، وتنسرب كالماء العذب بين اللسان واللهاة، وتستوطن الذاكرة والدماغ والإحساس.
ويبدو أن المسلك إياه الذي جُرِّبَ سنواتٍ قلائلَ لم يُعْطِ أكله، ولم يتحقق المرجو منه، والبغية من إحداثه وإطلاقه، والمراهن عليه من نشر اللغة الإنجليزية في المؤسسات الثانوية بتبويئها المركز الأول بعد اللغة العربية، بدليل حذفه فجأة، وإعدام ذكره وذكراه. فهل تكون فرنسا وراء قبر التجربة وطمسها بعد أن هالها ما هي مُقْدِمَةٌ عليه وزارتنا الوصية على القطاع؟، أم هل يكون وكلاؤها الفرنكفونيون وهم أيقاظٌ لا ينامون أبدا، هم من أجهض الحلم، وسارع إلى دفن التجربة قبل أن يستفحل « خطرها «؟
ومهما يكنْ، فإنني لا زلت أحمل بين جوانحي، حبا حقيقيا للمرحلة، للمسلك، للسنتين اللتين كِدْنا نصير فيها نحن ـ الاثنيْ عشرَ فردا، كدتُ أقول: كوكبا ـ حاملي لواء « الشَّكْسْبَرَة «، ورواد النهضة التعليمية باللغة الإنجليزية في البلاد اا. أليس كذلك يا صديقي عبد الله بوشتاوي، وصديقي وأستاذي عبد السلام الجُباري؟ وأنتَ يا أستاذ الفرنسية المحنك: بوبكر الكوش، ومدامْ ماطي التي اجتهدت أيما اجتهاد لتقنعنا بأن لغة مولييرْ لا بديل عنها، عبرَ كدْحِكِ البيداغوجي والأدبي والفني الذي لا جدال فيه؛ حيث ربطتنا بكتاب « الطاعون « لكامو، وكتاب: ( الأحمر والأسود ) لستندال، فضلا عن عشرات النصوص الشعرية الشاهقة المُسْتلَّة من أعمال فيرلينْ، ورامبو وبودليرْ، وهيغو، ولا َمارتينْ، وإيلوارْ، وأراغونْ، وغيرهم. وعشرات النصوص السردية لموباسان، ومارغريتْ دوراسْ، والآن روبْ غْرييّه. وهوما كان يقوم به، أيضا، وباقتدار الأستاذ بوبكر؟.


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 16/07/2021

أخبار مرتبطة

743 عارضا يقدمون أكثر من 100 ألف كتاب و3 ملايين نسخة 56 في المائة من الإصدارات برسم 2023/2024   أكد

تحت شعار «الكتابة والزمن» افتتحت مساء الأربعاء 17 أبريل 2024، فعاليات الدورة الرابعة للمعرض المغاربي للكتاب «آداب مغاربية» الذي تنظمه

الأستاذ الدكتور يوسف تيبس من مواليد فاس. أستاذ المنطق والفلسفة المعاصرة بشعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز ورئيسا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *