سقراط مثقفا: الثقافة والقراءة وأشياء أخرى 

واعلم أيها القارئ أن الهمةَ العالية قد قادتك بتوفيق من الله وبتخطيط منك إلى ما أنت فيه، وهي نعمة النعم، بل أجلّها، نعمة القراءة، ولا أجد همة أجلّ منها – ولله الهمم ما أعجبها- إلا همة المرء إلى مطلوبه، وهي همة خاصة الخاصة، ولما تكون همتك إلى شيء، فإنك ستبلغه، بل وتبرع فيه، ولعلك أيها القارئ تسأل نفسك ما علاقة هذا الكلام بموضوع المثقف والمنهج، فدعني بداية أقص عليك القصة التالية.
أسافر بك إلى زمن سحيق، إلى ربيع عام 399 قبل الميلاد، زمن محاكمة سقراط بتهمة إفساد عقول الشباب، والقصة واردة في كتاب ثيوكاريس كيسيديس المعنون بـ «سقراط: مسألة الجدل» في باب أخير من الكتاب تحت عنوان «المواطن والقانون»، فبعد أن قدم سقراط مرافعة عصماء دافع فيها عن نفسه دفاعا يليق به، تقرر الحكم عليه ظلما بارتكابه الذنب، وتم تخييره بين عقابين، النفي أو الموت، فلو اختار سقراط النفي، فإنه بذلك يختار الفرار من القوانين، وبالتالي سيكون هذا وبصورة غير مباشرة تأكيدا على أن الاتهام كان صحيحا «لأن الذي يخالف القوانين، يمكنه بحق أن يُعرف بمُفسِد الشباب وضعاف العقول»، ومتكلما باسم القوانين، يشدد سقراط على أنه أقل من أي إنسان آخر، ولا يليق به، وهو الذي علّم طوال حياته العدالة والفضيلة، أن ينقض بأفعاله مبادئه الخاصة به، وأن يهرب خوفا من الموت مثله مثل أي أسير بائس. فأين يجد وطنا آخر، إذا كان في وطنه تجاوز القوانين؟ فقوانين الوطن تقول له حينها « إذا ذهبت اليوم، فإنك تذهب محكوما عليك ظلما ليس من قبلنا، نحن القوانين، ولكن من قبل الناس».
إن الغاية من سوْق هذه القصة السقراطية في حديثنا عن المثقف، هي غاية ذات بعدين، في بعدها الأول، أريد أن أحيي ذاكرتك أيها القارئ، لأن إحياءها عَيش جديد، وأمل جديد، ولأن الذكريات استعادة للإنسانية حين تغيب في ممر السنين اللولبي، والبعد الثاني، أن فواجع الماجريات تتغير عبر الأزمان، لكن سلاح مواجهتها لا يتغير، وهو سلاح الثبات على المواقف والهمة العالية، فمثقف اليوم إن أراد لكلمته صدى يؤثر ويغير، لا يُقبل منه الفرار والخوف من الجهر بموقفه، فالهمة العالية تجعل الآذان تصيخ له السمع، وتقتدي بمنارته، وهذا طبعا يحتاج من المثقف النحرير مخالطة هموم الناس وعدم الترفع عليهم، ومجالسة العوام، والصبر عليهم، وبالمقابل فقيها بواقعهم عالما به علما بينا حتى لا يغرق فيه فينسى رسالته، لأن معالجة الواقع لا تكون إلا بفهمه فهما جيدا، ومعرفة بواطن الداء، يقول أهم العلم «الحكم على الشيء فرع عن تصوره»، ويعبر عنها أهل الفتوى بـ « فقه في أحكام الحوادث الكلية، وفقه في نفس الواقع وأحكام الناس»، وتبسيطا لذلك نقول: يحتاج المثقف أن يكون ملما بواقع الناس من جهة، ومتمكنا من الآليات التي سيعالج بها هذا الواقع من جهة ثانية. وقد لخص غرامشي ذلك في تعبيره بالمثقف العضوي، وبعض العلماء حاليا طوروا هذا التعبير إلى المثقف العمومي، والفرق بينهما أن المثقف العضوي قد يناضل من داخل حزب ما، حاملا شعار الحزب الذي ينتمي إليه، وقد جاء ذلك في سياق إعادة الاعتبار للمثقف في الفكر الماركسي، أي المنحاز لتيار سياسي بعينه، وأما المثقف العمومي هو المتجرد من أجندة حزب معين والتيارات السياسية واستقطاباتها، وهو بتعبير آخر المثقف الذي يدافع عن المبادئ العامة للديموقراطية وليس عن مصلحة حزب من الأحزاب حسب تعبير عزمي بشارة.
إن سقراط كما كشف أفلاطون هو الإنسان الذي يحضر على صعيد (الفلسفي والأخلاقي والاجتماعي والسياسي والفني والتاريخي والسيرة والإنسان)، لكنه دائما يحضر كمثال للحكيم، مثال للإنسان وللمواطن، الواقعي وليس الخيالي المجرد، وهذا هو المنهج الذي ارتضاه لنفسه في أنشطته العامة وأدواره السياسية، منهج متكامل، المنهج الذي دفعه إلى اختيار الموت حفاظا على مبادئ الديموقراطية التي ظل يرافع عنها طوال حياته، وعدم المساس بالقوانين التي تضمن تطور الدولة وانتظام مؤسساتها.
«أجل أنا مثقف، ويغيظني أن نجعل من هذه الكلمة شتيمة» ، هي قولة لسيمون دو بوفوار عن حديثها عن المثقفين، ولعل دافعها هو ما رأت عليه واقع حال المثقفين ببلدها، واقع صار فيه المثقف ثانوي التأثير، باهت الحضور، مثقفا بمعناه الروسي «أنتيلجنسيا» نصف/شبه مثقف، وربما تهميش المؤسسات له من خلال تهميش أفكاره، أو انتقائية المؤسسات لنوع من المثقفين الذي يخدمون مصالحها، فبات المثقف انتهازيا ودوغمائيا أو تبريريا في أحسن أحواله. لعل سببا من هذه الأسباب أو جميعا أو أسباب أخرى لم نذكرها دفعت سيمون إلى الاعتراف العلني بانتمائها إلى معشر المثقفين كدفاع عنهم، وأنه لا يزال بينهم من يحمل مشعل الرسالة الحقة. ولقد تناول دوستويفسكي نموذج الأنيليجسيا كنوع من الازدواجية من جهة، وسطحية الثقافة المستعارة، انتقد ذلك في قصته واعتبر المثقف الحق هو ذلك الأستاذ الملهم الذي بقي مرتبطا بالثقافة الشعبية الأصيلة، هو بصيغة أخرى المثقف العضوي عند غرامشي من الناحية الدلالية. وقد استعرض عبد الله العروي نموذجا مشابها للأنتيليجنسيا الروسية في الواقع العربي، فمن خلال «قراءة «قنديل أم هاشم» ليحيى حقي أو ثلاثية نجيب محفوظ مثلا نلاحظ في الحين أن العقدة تدور حول مشكلة المثقف المنعزل الذي يحدوه الحنين إلى وحدة المجتمع الأصيل».


الكاتب : نزيه حاجبي 

  

بتاريخ : 26/12/2022