محرومة من موقعها المستحق في خرائط التنمية والسياسات العمومية
في الضفة اليمنى لنهر أبي رقراق، تقف مدينة سلا شامخة بتاريخها، منسية في حاضرها، ومُغيبة في مستقبلها. على مرمى حجر من العاصمة السياسية، الرباط، تتعرض سلا، منذ سنوات طويلة، إلى تهميش مركب الأبعاد، حيث تحرم من موقعها المستحق في خرائط التنمية والسياسات العمومية. المفارقة أن هذه المدينة المليونية، والتي تحتل المرتبة الثانية وطنيا من حيث عدد السكان، تبدو وكأنها لا تزال تنتظر اعترافا كاملا بكيانها الحضري، وهويتها المجالية.
بين المجد التاريخي والتهميش المعاصر
من يقرأ تاريخ سلا يدرك أنها ليست مجرد مدينة تابعة للرباط أو ضاحية نائمة. لقد كانت في لحظات من التاريخ مركزا مستقلا للقرار، وقبلة للعلماء، ورمزا للسيادة البحرية حين أنشأ أبناؤها «جمهورية القراصنة» مطلع القرن السابع عشر، وشكلت عبر القرون أحد أبرز مراكز إشعاع الفكر الديني والسياسي في الغرب الإسلامي. زواياها، ومساجدها، وأبوابها العتيقة، وميناؤها التاريخي، كلها شواهد على عمقها الحضاري.
لكن، في مغرب اليوم، يواجه هذا الإرث خطر الذوبان. فالمشاريع التنموية المهيكلة غالبا ما تُصمم وتنزل في الرباط، بينما يُكتفى بإلحاق سلا ببعض الفتات الرمزي، أو بربطها تقنيا بمشاريع العاصمة، كما هو الشأن في تهيئة ضفتي أبي رقراق، حيث تم تسويق المشروع وكأنه يخص الرباط وحدها، رغم أن أجزاء كبيرة منه توجد في قلب تراب عمالة سلا.
تهميش حضري… وعدالة مجالية غائبة
حين نتحدث عن التهميش، فإننا لا نقصد فقط غياب المشاريع الكبرى، بل غياب الرؤية الحضرية المتكاملة، فسلا تفتقر لمساحات خضراء محترمة، ولا تتوفر على منتزهات حضرية تليق بعدد سكانها الذي يفوق المليون. البنية التحتية، خاصة في الأحياء الشعبية والهامشية، تشكو من الترقيع والضعف، من شوارع غير معبدة، إلى شبكات صرف صحي متهالكة، إلى مرافق عمومية مهجورة أو مغلقة.
أما على مستوى التنقل، فساكنة سلا تعاني من معضلة يومية مع النقل الحضري، حيث تغيب التغطية الكافية، وتبقى عربات الطرامواي غير قادرة على تلبية الحاجيات المتزايدة، في ظل غياب استراتيجية جريئة لتنويع وسائل النقل وتوسيعها.
أمن مفقود… وشعور باللاانتماء
لا يمكن الحديث عن التنمية في غياب الأمن، فساكنة سلا تعبر منذ سنوات، عن قلق متزايد إزاء تفشي مظاهر الانفلات الأمني في عدد من الأحياء، خاصة في الأحياء الشعبية. الجريمة، بكل أنواعها، صارت حاضرة في تفاصيل الحياة اليومية، في ظل نقص في التغطية الأمنية، وتراجع في الوجود الميداني للمصالح المختصة، مما زاد من الإحساس بالهشاشة الاجتماعية وانعدام الطمأنينة.
يُضاف إلى ذلك شعور بالغبن واللاانتماء لدى فئات واسعة من الشباب، الذين لا يرون في مدينتهم أفقًا مستقبليا، ولا يجدون فضاءات ثقافية أو رياضية تحتضن مواهبهم وتؤطر طاقاتهم. وهذا الفراغ يُعد من الأسباب العميقة للانحراف والانطواء على الذات.
الوجه الخفي للتهميش: التذويب الرمزي
أخطر ما تواجهه سلا اليوم ليس فقط التهميش المادي، بل التذويب الرمزي، فمعالم المدينة ومآثرها، وحتى المشاريع المنجزة فوق ترابها، تُنسب في الخطاب الرسمي والإعلامي إلى الرباط.
مارينا سلا؟ تُعرف إعلاميا بأنها «مارينا الرباط». برج محمد السادس، الأعلى في إفريقيا؟ يقع فوق تراب سلا، لكن اسمه ومرجعيته تنسبان إلى العاصمة. المشاريع الكبرى لتهيئة ضفتي أبي رقراق، من سلا العتيقة إلى حي بطانة، تُروّج وكأنها امتداد للعاصمة.
إن هذا التذويب الرمزي يساهم في طمس هوية المدينة، ويُغذي شعورا جماعيا بأن سلا ليست سوى «ظلًّا» للعاصمة، وليس كيانا حضريا قائما بذاته. وهذه المقاربة، وإن كانت تبدو تقنية، فإن لها تبعات نفسية وتنموية خطيرة.
من أجل إنصاف سلا: دعوة لإعادة الاعتبار
إن ما تحتاجه مدينة سلا اليوم ليس فقط ضخ استثمارات مالية، بل تغيير جذري في النظرة المؤسساتية إليها. سلا ليست «مكملة» للرباط، ولا «ملحقًا» حضريا لها، بل مدينة ذات تاريخ عريق، وكتلة بشرية ضخمة، وموارد بشرية هائلة. إنصافها يبدأ بإدراجها ضمن أولويات السياسة العمومية، واعتبارها مدينة مستقلة في التخطيط، والتدبير، والتنمية، والهوية.
نحتاج إلى جهوية فعلية تُراعي الخصوصيات، وعدالة مجالية تُوازن بين الجهات والمدن المتجاورة، واستراتيجية حضرية تُعيد لسلا مكانتها في الحاضر والمستقبل، لأن الظلم المجالي لا يقل خطرا عن الظلم الاجتماعي. ولأن مدينة بلا أفق، هي مدينة مرشحة للانفجار الاجتماعي.
خاتمة
سلا لا تطلب امتيازا، بل عدلا، وهي لا تطلب منافسة العاصمة، بل أن يُعترف بها كما هي: مدينة بتاريخ عظيم، وحاضر يئن، ومستقبل يستحق الأفضل. سلا تستحق أن يُنظر إليها بعين الإنصاف، لا بعين التجاوز. سلا تستحق أن تُحب كما أحبها أبناؤها، وكما خدمها روادها، وكما أنجبت من المقاومين والمفكرين والأدباء والرياضيين. فهل آن الأوان لتخرج سلا من ظل الرباط؟ وهل سيُرفع هذا الظلم التنموي الرمزي عن المدينة التي لطالما انتظرت أن يُنصفها الوطن؟