يرهص ديوان «بغير جناح» للشاعر المغربي ياسين الحراق بتجربة شعرية تنحو نحو خوض غمار أفق إبداعي مغاير، يروم تجريبا صادرا عن رؤية تتغيا خلق أشكال تعبيرية مختلفة عن الأنماط الشعرية المألوفة بشتى ألوانها وحساسياتها . فالديوان يتوزع على ثلاثة أقسام (سدرة الفناء، جذبة الظل ونافذة أخرى) وكل قسم يتضمن نصوصا تتفاوت على مستوى التركيب الإيقاعي والبعد الدلالي باستعمالات لغوية متعددة الامتداد المجازي، والتنوع المعجمي بما ترسمه من صور موسومة بطابع الاختلاف والتجريب من خلال تشبيهات تشذ عن الشائ ، وصيغ تنشد خلق طرائق تنعتق عن ربقة المألوف بانخراطها في رسم ملامح مسار ينزع نحو التجديد والتجريب باختراقه لسديم عتبات حصين ، واجتراحه لضفاف يجللها النأي والوحشة في استخدام أساليب شعرية نوعية من قبيل : « ذق هذه الحيرة « 11، من خلال ربطه بالحيرة كإفراز نفسي محفوف بالريبة والارتباك بحاسة الذوق في حدودها المادية المعروفة، استعمال تتعدد آفاقه، وتتنوع تجلياته في نصوص المجموعة كقوله : «لا تطوي ظلك»21 ، أو : « مثل مياه في جبة الوجد « 24، أو : « يتورق فينا بعض الحجر»84، وكلها صور تشذ عن الأنماط الشائعة لما تزخر به من معالم زخم غني بتشبيهاته الرامية إلى التئام التنافر الدلالي عبر تقريب الهوة بين مكوناته المعجمية، ومد الجسور بين ألفاظها ومعانيها للانتظام في جوقة تنأى عن النشاز بخلق التناغم المقصود والتجانس المطلوب .
ولنصوص الديوان أبعاد متعددة ومتنوعة في استخدامها لما هو ديني: « هذا القلب قد من دبر» 28 في استيحاء من النص القرآني ( سورة يوسف)، ومن نفس السورة أيضا : « النسوة قطعن أيديهن « 53، أو قصة قابيل وهابيل : «كيف حثا غراب صريع على هابيل التراب!؟.» 52، وإن كان بتحوير لا يخلو من مسحة تروم تعميق المعنى بتشريعه على أبعاد وجودية في امتدادات تجترح ما هو غيبي ميتافيزيقي.
ويحضر الكون بمكوناته المتعددة، في ثنايا نصوص المجموعة، من سماء ونجوم : « ليس نجما ذاك الهائم في السماء» 10 ، شمس وقمر : « الشمس تقتل / القمر يهب الحياة» 21، لينتقل إلى البحر : « من ذا الذي يقودنا إلى البحر؟» 22، والنهر: «لا تعد إلى النهر وحدك» 25، والغيم والنجوم: «ما زلت تمسح الغيم في عينيك / حواليك آلاف النجوم» 29، كما يستحضر عناصر كونية أخرى، إغناء لنسيج المتن الشعري وتنويعا وتعميقا لأبعاده، مثل الماء والنار والطين : « قدامك الماء والنار والطين « 56، وإن كان للماء حضور أسمى وأرفع بتكراره في البحر والنهر والغيم . عناصر ومكونات تلتئم داخل نسق شعري يتجاذبه السؤال «ماذا يفعل هنا القمر؟» 81 ، والتشبيه : « أخرج من جسدي شمسا طليقة» 48، وقد تأخذ منحى تعبيريا مغايرا بابتكاره لصورة تمعن في انزياحية نوعية: «وجهي الذي أضعته فقأته الريح « 77، تحدد معها معالم كتابة تنحت شكلها بأسلوب شعري تتغير أبعاده، وتتبدل أنماطه داخل حيز يؤثث، بكثافة واختزال، فضاء البياض ويحوله إلى شكل هندسي يرشح غواية وجمالية: «ربما يتورق فينا بعض الحجر « 84 ، احتمال ينفتح على ضفاف تتوارى في انسيابية وسلاسة باصمة على صور/ لوحات يطوقها هوس الاختلاف، وهاجس التغيير: «يجس القيظ في يديه «88 ، مع انفتاح نوعي على نزعة رومانسية تنبض فتنة وبهاء: « كل الواحات الخضر التي تنبت في قلبي أشرقت» 74،كامتداد لمكونات طبيعية من قبيل الشجر: «قالت شجرة دردار عاشقة» 12، تتم أنسنتها وشحنها بروح من عشق عارم ، وتوق لامتناهي لتتوالى مظاهر الاختلاف ، وتتنامى إرهاصاتها بأشكال تنزع نحو امتداد لا محدود، واستشراف خلاق ينشد عتبات بداية تنبذ الشبه، وتشذ عن الاقتفاء والاتباع: «مثل مياه في جبة الوجد» 24 ، بتشكيل صورة من تشبيه يربك مواضعات الذوق، ويخلخل ثوابت توقه النمطية: « أو ليس النهر إلاك»25 ، ليغدو المخاطب المجلل بمسوح فضفاضة متوحدا بالنهر، وما يعج به من دلالات رمزية ووجودية غنية بإرثها الإنساني والتاريخي والعقدي العريق.
تتوحد عناصر الكون ومظاهره مع الإنسان في توليفة تنضح جمالية وعمقا لتفرز تجليات بنزعة روحية ذات ملامح صوفية يمكن رصدها في أولى عتبات الديوان الموسومة بـ «سدرة الفناء» وما تحيل إليه من رموز ودلالات بحس صوفي تجسده السدرة كأبعد وأنأى نقطة تفضي إليها مراتب المجاهدة، ومراحل المكابدة لإطالة أرقى درجات الحلول والاتحاد وهي الفناء في ثقافة المتصوفة وفلسفتهم. وعناوين مثل: «جذبة « بطقوسها الروحية، وشعائرها الراسخة لدى العديد من الطوائف والفرق المحلية المعروفة الملتئمة في مواعيد معينة إحياء لمواسم غنية بأعرافها وتقاليدها . و»صوفي « بحمولاته التاريخية، وما تعج به من طرائق روحية وعقدية راسخة وعريقة ، و»فناء» بتجسيده لأسمى وأرفع مراتب الحلول والاتحاد لدى أعلام المتصوفة ورجالاتها كجلال الدين ابن الرومي ص: 44، وشهاب الدين السهروردي ص: 47، وأبوزيد البسطامي ص: 78، الذين تم تدوين مقولاتهم كمرجعيات تمتح منها نصوص الديوان في رسم ملامح خارطة تمظهراتها الإبداعية ، فضلا عن الإشارة للدراويش كفئة حظيت بحضور لافت في تاريخ الثقافة الصوفية.
وتشكل الصفحات فضاء يتجاذبه البياض ورسم الكلمات في نحت لوحات تغطيها سطور تتراوح بين (ثلاثة في النص رقم 6 صفحة 23 واثني عشر في نص «حكاية» صفحة 34) بهندسة تتوالى سطورها باستثناء النص الأول ( «عد النجوم» حيث تنزاح كلمات نجمة تلو نجمة، ونص « قلب» الذي تنزاح فيه كلمة هاربتين في إيقاع موسوم بالتنوع والتبدل). وما يميز نصوص الديوان من غنى دلالي وجمالي وإيقاعي مرهون بألوان إبداعية تتوسل باستعمالات تمنحها أشكالا تعبيرية مغايرة تستلزم مقاربتها، والكشف عن أدوات نحت صورها، ورسم معالمها، والغوص في خبايا تشكيلها، وخفايا بنائها التوسل بعدة تحليلية تنهل من منابع أدبية ومعرفية متنوعة تسعف على الإحاطة بغنى وعمق موضوعاتها المصاغة في قالب شعري موسوم بالتبدل والتجديد لما يبتكر من أساليب شعرية تؤسس لتجربة إبداعية مختلفة ومغايرة.
سمــــات الاختلاف وتجلياته في ديوان «بغير جناح» لياسين الحراق
الكاتب : عبد النبي بزاز
بتاريخ : 14/04/2021