سنة ثقافية مدونة في دفاتر الخسران

لم تمر سنة 2021 دون أن تترك ندوبها على كتاب الثقافة المغربية، التي ظلت للسنة الثانية على التوالي مغلقة بسبب الوباء.
وإن كان توقف الأنشطة الثقافية أرخى بظلاله على حيوية المشهد الثقافي ببلادنا، فإن الخسارة الأكبر كانت برحيل عدد من أعمدة وقامات الفكر والأدب المغربيين ممن بصموا على مسار فكري ونقدي متميز، وأثروا الساحة الثقافية المغربية والعربية بسجالاتهم وتحليلاتهم ورؤاهم الحداثية، وتعاطيهم المنتج والخلاق مع قضايا المجتمع الفكرية والسياسية والإبداعية.
خسرت الثقافة المغربية السنة التي نودعها، واحدا من أهم مفكريها ممن اشتغلوا على تفكيك بنيات الفكر المغربي والعربي من زاوية الحداثة، المفكر والفيلسوف المغربي محمد سبيلا الذي اختطفه الوباء بعد أن بصم على مسار طويل، انشغل فيه بالحفر في طبقات «الحداثة» التي اعتبرها، دوما، السبيل الوحيد للإجابة عن أسئلة المجتمع السياسية والاجتماعية والفكرية، وهو المفهوم الذي خصص له مشروعه الفكري، بتشريح هذه الطبقات والبحث في آليات تحديث الفكر الحداثي، مؤسسا بذلك لمدرسة فكرية فلسفية مغربية تروم الخروج بمشروع لا يتنكر للتراث لكن لا يقيم فيه، منفتح على الفكر الإنساني بدون إسقاطات لا تحترم الشروط والسياقات التاريخية للبيئة المغربية والعربية. لهذا انصبت أعماله على تحليل مظاهر التحديث وميكانيزمات الصراع بين الثقافات العربية المسلمة والحداثة، مع البحث من داخلهما على نقط الالتقاء وإمكانية التعايش بينهما، راصدا عوائق هذه الحداثة دون الذهاب في اتجاه خلق قطيعة بين قيم الحداثة ومجتمع التقليد.
هكذا ظل الراحل الى آخر أيامه، مؤمنا بإمكانية تحقق «حداثة عربية» قادمة من قراءة نقدية للتراث العربي وفي نفس الوقت ترفد من الفكر الغربي.
برحيل محمد سبيلا، فقدنا واحدا من أعمدة الفكر المغربي والعربي الذي سلط الضوء على مفاهيم لم تكن مطروقة في الاشتغال الفلسفي مغربيا وعربيا، وأهمها الحداثة.. مفكر كان يشتغل بطريقة ذكية في فحص مفاهيم: التحرر، الإسلام السياسي، الهوية، الثورة التكنولوجية، مفهوم التقدم والتأخر، الحداثة وكل قضايا الفكر المعاصر.
منارة نقدية مشعة أخرى غادرتنا هذه السنة، الكاتب المتعدد، الساحر صاحب القبعة التي يخرج منها كل شيء حي: إنه الكاتب والروائي والناقد بشير قمري الذي غادرنا في 24 من يونيو من صيف هذه السنة.
بين الأدب والنقد والسينما والمسرح، هطل مطر المبدع الأصيل بشير القمري مدرارا على حقول الثقافة المغربية، حاملا معه رياح الحداثة النقدية كما نظر لها روادها الفرنسيون الذين تأثر بهم في مساره الدراسي والنقدي، مواصلا مسيرة الحفر في المنجز الثقافي المغربي بكل تلاوينه.
كتب في السياسة والأدب، رواية وقصة، وغرف من معين الترجمة إيمانا منه بأنها رافد مهم من روافد تطوير المعرفة والثقافات، بما تمنحه من إمكانات لتطوير التجارب الإبداعية المحلية، وإغناء الرؤى والمقترحات الجمالية في الكتابة.
وبهذه الأسلحة ظل يحارب كل الدخلاء على قلعة الإبداع، ويذود عن حياض الكتابة التي تنتصر للقيم، وللإنسان والجمال.
نبرة التمرد العالية في كل كتاباته الإبداعية، نابعة من رفضه الدائم لمهادنة الدرجة تحت الصفر للكتابة، وهي نفس النبرة التي تُلمس في كل مساجلاته، في الادب كما في السياسة وفي الحياة التي عاشها، كدأبه، بكل عنفوان الكاتب وكبريائه الذي لا ينحني للرياح.
ناقد أدبي من عيار ثقيل، وناقد سينمائي من مؤسسي وبُناة النقد السينمائي المغربي، وكاتب قصة قصيرة مجدّد وعلى بيّنة من قواعد الصنعة القصصية، وكاتب رواية حاذق متى استطاع إليها سبيلا ، في زحمة انشغالاته وأنشطته الثقافية المتعددة، هو الذي كان لا يقيم حدودا بين مختلف العلوم الإنسانية.


الكاتب : حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 31/12/2021