سوسيولوجيا المعرفة: أسئلة التجدد وإعادة التركيب

نظرية سوسيولوجيا المعرفة وفق ما نجدها في متون الفكر الغربي هي نِتاج عملية التكثيف المنهجي بين المعطيات الاجتماعية وطبيعة العلوم الاجتماعية . وفق هذه الرؤية، صار ينظر اليوم إلى العلوم الاجتماعيةن باعتبارها نظريات تأويلية. يتعلق الأمر من الناحية الإبستمولوجية، بزمن التعدد التأويلي، زمن الدراسات الثقافية، زمن تعدد المقاربات والنظريات…لكن، بقدر ما ساهمت عملية «مهننة المعارف» على امتداد القرن التاسع عشر في رسم تقدم ملحوظ على مستوى المنهج، بقدر ما كان ذلك على حساب الشكل والإحساس واللذة.
يطرح علينا في هذا الصدد المؤرخ إيفان جابلونكا I. Jablonka سؤالا لا يخلو من فائدة. كيف يتأتى الجمع بين الخيال والجرأة والصرامة ؟ كيف يمكن الجمع بين صرامة البحث وعمق المقاربة؟ . علينا أن نُقر بأن الأدب بالنهاية عمل كثيف حول اللغة، حول السرد، حول العاطفة، ومن خلال ذلك يتم العبور من الخطاب إلى النص، وعبر هذا العبور يمكن أن تُحقق الكتابة بعض المكاسب الإبستمولوجية. في شأن ذلك يقترح علينا رايمون آرون أن نعيد كتابة الواقع الاجتماعي حسب درجة تطور المجتمع باستمرار، والقصد من ذلك يقول آرون إقامة جسر تواصل دائم بين الماضي والحاضر. ليس الماضي على شيء واحد. الماضي هنا مثل الأرض كما يقول فرناند بروديل، محكوم عليه أن يحمل ندوب الجراح القديمة.
طبيعي أن يقرأ البعض في ذلك تلميحا لا يخلو من نزعة وطنية من خلال بناء رد فعل دفاعي تجاه مسلسل الغزو الفكري. طبيعي أيضا، أن يُشكل هاجس البحث عن «الأصالة المفقودة» قد ولَّد عند البعض ميلاد إيديولوجية جديدة. والحال، أننا لا يمكن أن نركب غمار التجديد أو التركيب من دون حد أدنى من التراكم؛ كما لا يمكن أن نشتبك مع التركيب دون أن تكون لدينا جرأة في طرح أسئلة جديدة، وفتح نوافذ بحث جديدة .
معلوم أن عملية تجديد الخطاب من نطاق ثقافي لآخر تخضع على الدوام لرهانات مجتمع البحث أولا، ولنضج عملية التفكير في نظريات المعرفة ثانيا، ولاختمار الأسئلة الإبستمولوجية ثالثا. حينما نستدمج هذه الشرطيات الثلاث نصل إلى صياغة ما يسميه الابستمولوجي بول فاين ب «الحِبكة المفهومة» . بهذا الاقتضاء، كُلُّ انشغال بالخطاب في أساسه هو لحظة من لحظات مساءلة الإنتاج الإستوغرافي من ثلاثة مداخل: الكم، الكيف والحصيلة. وأيضا، لحظة ولادة حوار متجدد يُحقق القدرة على المواكبة والاقتباس، المحاورة والتجاوز…لا يمكن بناء هذا التصور إذا لم يهيأ له بسؤال أساس: ماذا يقرأ المختص كقارئ؟ وجوب السؤال الإقرار التالي: لا يستقيم الخوض في نقاشات نظريات المعرفة من دون «الاحتكاك بالمعارف المتسعة الفضاء، والنظر بعين الانتقاد لا بعين الارتضاء» وفق ما يدافع عن ذلك صاحب علم العمران البشري ابن خلدون.
ضمن مدارات هذا النقاش، في كل محطة من محطات تشييد الخطاب، تستحث الدعوة دوما إلى مساءلة أدوات العمل، المقولات والمفاهيم، شبكة الموضوعات وحصيلة البحث…الفكرة في مضمونها ألمانية خالصة انتقل مفعولها بعد رجَّة عنيفة حرَّكت قلاع الفكر الفرنسي. على هذا النحو، هل يتأتى في الدراسات التاريخية مثلا أن نفهم كتابي «المجتمع الفيودالي» و»العالم المتوسطي» خارج دائرة الفكر الألماني؟ هل يمكن فهم فرضية «الزمن الطويل» دون استحضار رؤية المدرسة الماركسية للتاريخ الاجتماعي والاقتصادي ؟ قطعا، الأمر غير ممكن.
عودة إلى قضية الخطاب، ما الذي يجعلنا دوما نتهيب من الخوض في قضايا نظريات المعرفة وانشغالاتها الجديدة؟ ما الذي يدفعنا إلى الاحتفاظ ببراديغمات قد تبدو لنا متجاوزة ومع ذلك نُصر على إقحامها في مواضيع غير متناسبة لا في زمانها ولا في مكانها؟ ما الذي يجعل النقاش الأكاديمي حول خطابات المعرفة غير ناجز علميا؟ لماذا نُصر دوما على إظهار التعارض بين الانشغالات النظرية والنتائج التطبيقية علنا أو سرا؟ أوَ لم نصل بعد إلى مرحلة التراكم التي تنقلنا نحو بناء جسر عبور آمن من الخطاب إلى الممارسة دون تفكير في الحدود والتخوم؟
في واقع الأمر، لا يعدو الأمر أن يكون هذا التهيب نفسيا في المقام الأول، أو لندقق، لا يعدو أن يكون استمرار ا لترسبات متجاوزة في البحث الجامعي…ثمة حاجة اليوم إلى إقامة ثورة كوبرنيكية في خارطة البحث العلمي تنقلنا من البحث في المتن إلى البحث في الخطاب، بما هو خطاب يتضمن مفاهيم، نظريات، مناهج، افتراضات، خلاصات…باختصار، من البحث في المتن إلى البحث في ماهية البحث، من المنهج إلى التناهج، من السرد إلى التركيب. كل انشغال بنظريات المعرفة هو في عمقه قضية استجابة لأسئلة الحاضر ورهاناته. ومسألة الاستجابة تقتضي تجدد أجيال البحث. من خلال هذا التجدد يعاد النقاش حول ظرفيات وسياقات الإنتاج، وحول مسارات الاستمرارية والانقطاع…لقد كان السوسيولوجي ماكس فيبر Max Weber نبيها حينما صاغ العبارة الآتية: «هناك علوم كُتب لها أن تظل فتية على الدوام «.
مغربيا، وقبل عقدين من اليوم، انخرط بعض المؤرخين في تجربة البحث التاريخي في المغرب في تجربة جديدة من خلال مختبر العالم المتوسطي في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط. كان الرهان وقتها على الانتقال بالبحث التاريخي من بحث يهم الأحداث والوقائع إلى بحث يهم الشخوص والفاعلين، فأنجزت دراسات مهمة عن المؤرخ الفرنسي جول ميشليه وعن بوركهارت وارنست لافيس وارنست رينان…للأسف، لم يكتب لهذه التجربة أن تكتمل لأسباب يطول شرحها. قبل ذلك، هناك انشغالات أسئلة الكتابة: من أي زاوية نكتب؟ فيم نفكر ونحن نكتب؟ من هم خصومنا الحقيقيون أو الافتراضيون الذين نفكر فيهم لحظة الكتابة؟ هل الكتابة تصفية حسابات بمعنى من المعاني؟ كيف السبيل إلى جعل الكتابة محاورة عوض أن تكون مجادلة؟ ليست الكتابة على شيء، فإما كتابة موجهة للخلود أو كتابة منذورة للمحو أو النسيان…
كتاب «نظرية المعرفة السوسيومجالية، السرد والتركيب الثلاثي» للباحثين في الجغرافيا نزيه حاجبي والمصطفى عيشان في أصله محاولة إبستمولوجية في العلوم الاجتماعية والإنسانية عامة، والجغرافيا على وجه التخصيص . تنتصر هذه المحاولة إلى القول الذي يُزكي الفرضية الآتية: البحث الذي لا يُشيَّد على موقف نظري هو بحث غير أصيل، والنظرية التي لا تستحضر تحولات المجتمع السائل غير جديرة بالمطارحة. يقف الكتاب عند تحليل تشكلات الممارسة الجغرافية التي رسمت فصلا منهجيا بين الشق النظري الذي لا يرقى من حيث الأهمية عند البعض والشق التطبيقي الذي يستخدم لأغراض غير بريئة. وفي جانب منه، يدعو الكتاب إلى ضرورة التحرر من البراديغمات/ السياجات النظرية التي تهيمن على الحقول الاجتماعية باستحضار شرطية الظروف والسياق والإنتاج.
حول هذه النقطة يعيد الكتاب تدوير السؤال الآتي: ماذا تحقق في نزعة التحرر العلمي من الاستقلال إلى اليوم؟ هل استطاعت الدراسات الجغرافية المغربية حتى لا نقول «المدرسة الجغرافية « أن تدفع في اتجاه تأسيس أو توافق مع نظرية معرفية على غرار ما نجده في مجتمعات شبيهة بنا مثل المدرسة الجغرافية مع نظرية الهامش والمهمش «السوبالترين ستاديز». هنا في المغرب، ظلت ولا تزال المعرفة الأكاديمية موجهة لتحقيق طلب، طلب سياسي بالتدقيق، وليست معرفة علمية قادرة على أن تحقق تموقعها ضمن مجتمع المعرفة.
من حيث المضمون، ينسج الكتاب رؤيته المنهجية عبر مدخل نظري تأطيري يتتبع النقاشات الابستمولوجية التي صاحبت تشكل نظريات المعرفة السوسيومجالية عبر استحضار شروطها وسياق إنتاجها، وينقل القارئ بعد ذلك إلى محاورة منتجي والذوات الحاملة لنظريات المعرفة. لا شك أن قارئ الكتاب قد يجد فيه جسر العبور والتواصل بين إنتاجات العلوم الاجتماعية والإنتاج الجغرافي. القصد هنا، كتاب مرجعي للجغرافي محمد بلفقيه «الجغرافيا: القول عنها والقول فيها»، ونموذج لنظرية كريستالر « الموقع، التجاور، الحجم».
يتم هذا البناء في مدار عام يربط المعرفة الجغرافية بالعطاء المنهجي لمختلف مباحث العلوم الإنسانية والاجتماعية…كما يقترح المحور الرابع من الكتاب عرض تجربة نظرية في الجغرافيا: نظرية ثالوث إطار العيش في علم الهيدروجغرافيا، ونظرية التركيب الثلاثي في علم جغرافية الإعاقة. عموما، تنتظم هذه المباحث المشيدة للإجابة عن أسئلة القلق الإبستمولوجي التي تعتمل داخل الأنساق النظرية من أجل تأويل القضايا الجغرافيا.
القضية في النهاية قضية تجديد وجرأة، قضية ابتكار أنساق وتجاوز أخرى، قضية تركيب وسرد وبناء حِبكة مقبولة كما يقول بول فاين، مقنعة في آن، ومتجاوزة في الغد.


الكاتب : عبد الحكيم الزاوي

  

بتاريخ : 24/11/2023