«سيرك ماكسيموس»: الكتابة.. وخوارقها

 

ما يفعله الساحر بين جموع الحيوانات والدمى والعربات المتنقلة التي تحمل الحشود والجثث والكائنات المفترسة، والمروضة والخيالية في تلك الساحة الكبيرة عمل يفوق إدراك الحضور، يمكنه أن يقنع الجمهور بأن ما يحدث واقع فعلياً وإن حاول أحدهم أن يغمض عينيه، فما يحدث في المخيلة الناشئة عن القراءة يظهر بشكل أوضح، الغموض لعبة، سحر الكلمات فتاك والأصوات التي تتصاعد تصف بدقة ارتعاش الكائنات، ورقصها وانكبابها على الحدث والإفلات منه بينما يحاول القارئ الإنصات إلى موسيقاه الخاصة التي اكتشفها بإيقاع النصوص نفسه. فهو بعكس ما يحدث عادة بـ»موت المؤلف» موارى خلف شخصياته ودسائسها الحكائية، ما زال مرئياً وعصاه تبعث الكائنات متواليات لا تنتهي، وأعني بالساحر هنا القاص المغربي أنيس الرافعي، «سيد التجريب» منذ قراءتي الأولى لإحدى مجموعاته القصصية ولم أتملص يوماً من سحر آثاره التي أولمها عبر إصداراته حتى اليوم.
«سيرك الحيوانات المتوهمة» امتداد يتوسط إصداراته لمواجهة ذواتنا في كل حيوان متشكل فيه، رغم ادعائه بأن التذاكر مجانية وأننا حضور للفرجة. تقاطعت قراءتي للكتاب بدخولي المستشفى، أترنح بين منسوب الدم المنخفض ومجابهة الأنيميا، وبلقاءات عدة بين الحيوانات التي عاشت في دمي فأفهم ما قاله الرافعي بإصرار «أنا هو جميع حيواناتي»، التقيت بالحيوانات البرية تحديداً لا المروضة – وكلها برية بالأصل- وعبر المونولوجات التي كتبها والرسومات التي أفزعتني غالباً وأدهشتني للفنان محمد العامري، أظنني تمرنت جيدا على جلب المنسي وما حسبته مجهولاً، أو هو الأثر الساحر لتشريح هواجسنا الشخصية في القراءة.
ما فعله أنيس الرافعي هو ما جعل جيل دولوز يجيب أحد الأسئلة قائلا: «ربما يبدأ الفن مع الحيوان».  وإن بدأ الكتاب مفتتحاً بالشذرات والتأملات والخواطر، فقد أعاد للمخيلة حقوقها حين ترك للأحلام والهوامش والقصيصات والخطابات الموازية الكواليس مشاعاً للجائلين فيها.
هي الحرية الداخلية للمبدع والرؤية الجديدة للعالم بالنسبة للمتلقي، حين يتخلص من الاعتبارات المقننة سلفاً للأدب، ويتفهم تيار وعي الحيوان الذي ابتكره الرافعي لمأسسة خلاقة لا تكتفي بالتشخيص والتعالي على الكائنات، ولا تتعمد تقمصها بل تنزع كلفة التأنق البشري لتنشئ تعددية حيوية متناغمة. مدخل أشبه بدهليز فكري طويل، ومجموعة مونولوجات بين جمالية الارتواء السردي وغنى مفرداتها، وإيجازها الحاد في نحت حيواناتها ومواقفها الوجودية في النصوص محاكمة الخرافات والأساطير وساخرة من تدجينها الموضوعي، وأسئلة كثيرة تنفتح على الممكنات بارتباط وشيج وتفاعل إنساني، ما اعتنى به دولوز مؤكدا أن الحيوان «طور من أطوار صيرورة دائمة» الصيرورة الكونية التي تشمل الصيرورات الأخرى وترتبط بها.
الكتابة عن «حقيبة رسومات ومونولوجات» لا يمكن تحديدها في مسار، وهذه بحد ذاتها ما سيقحم علماء النفس والاجتماع والنقاد الفنيين والقراء ليخوضوا بدورهم تجربة القراءة بمجسات نفسية وفكرية، «لا يمكن الشفاء من خيال السيرك العضال» كما دوّن فيها، كما لا يمكن «إغلاق باب السيرك» بالصرير التقليدي الذي نتذكره عادة؛ فاستعادة الوعي تستوجب التدرج.. بتعددية الإنصات بدءا من الداخل لتحمل الضوضاء خارجاً.


الكاتب : أفراح فهد الهندال

  

بتاريخ : 25/10/2021