«سيكا» سفر في التاريخ وجرأة في الإنتاج

شهدت الدورة 12 لمهرجان “الأيام السينمائية لدكالة بالجديدة” المنظَّمة تحت شعار “السينما والمقاومة” عرض أفلام روائية ووثائقية مغربية تتعلق بمقاومة المغاربة للاستعمار الفرنسي ضمنها فيلم (بامو) لادريس المريني الذي خصصناه بقراءة سابقة، ثم أفلام تهم مقاومة المغاربة للاستعمار الإسباني في أقاليمنا الصحراوية على رأسها (سيكا) من إخراج ربيع الجوهري وإنتاج مصطفى بوحلبة سنة 2022.

 

1 – الصحراء قضية وجود

تتلخص أحداث الفيلم في أنه “خلال عام 1980 حيث يثابر عبد الغفور، الصحفي المغربي المتمرس على كتابة مقالات تشرح الروابط التاريخية بين سكان الصحراء، جنوب المغرب ومختلف القبائل المتواجدة أقصى شمال المملكة، لكن المدعو ب”البطل” رئيس أحد وحدات الميليشيا المسلحة، يأبى إلا أن يتتبع أنشطته المهنية عبر مخابرات مأجورة. وفي الليلة التي يحدد عبد الغفور موعد زفافه من فاطمتّو، تهجم عليه كتيبة من البوليساريو تحت قيادة “البطل” لتخطفه قاتلة أباها وعددا من أفراد عائلتها.
يؤخذ عبد الغفور إلى سجون تندوف الأرضية حيث سيعاني لمدة 20 عاما أصنافا من التعذيب من طرف قائد البوليساريو المذكور والذي سيحاول أن يشتري سكوته مقابل إطلاق سراحه مع إغرائه ماديا. لكن عبد الغفور يرفض ليزداد عذابه ومحنته هو وباقي المغاربة المحتجزين في سجون الانفصاليين”.
في حوار أجرته جريدة “الكوليماتور” مع المخرج ربيع الجوهري صرح أن فيلم (سيگا): (تأويل شخصي لمقولة صاحب الجلالة الملك محمد السادس، حينما قال بإحدى خطبه: “إن قضية الصحراء هي قضية وجود وليست حدود”. فلقد أثارتني هذه المقولة بحكمتها وعمقها وتلخيصها لهذا الصراع الاستعماري المفتعل. فجاء الفيلم محاولة مني لترجمة هذه المقولة الحكيمة على شكل صور إبداعية، كما أعطتني إلهاما قويا أخذني في رحلة البحث عن قضية الوجود المرتبطة بالصحراء المغربية).

2 – أفلام في فيلم

من ملخص الأحداث وتصريح المخرج يتبين التوجه العام للفيلم: “قضية الصحراء المغربية”. لكني عبر معاينتي الشخصية له مرتين وهما غير كافيتين للإلمام الدقيق بمجمل رسائله، شعرت أنني شاهدت عدة أفلام في فيلم واحد، فهو في مجمله سفر متشعب في حِقب زمنية مختلفة وقضايا تبدو منفصلة، لكنها مرتبطة ببعضها البعض تاريخيا ومتداخلة عضويا تبدأ من القرن 20 حيث يتم خطف الصحفي المغربي للزج به في سجون البوليساريو وما يتفاعل معه وحوله من أحداث معاصرة تصل لغاية ذهاب الانفصالي “البطل” حين استيقظ ضميره ووعيه بمغربية الصحراء إلى جنيف مع خطيبته، صحبة عبد الغفور وزوجته من أجل الترافع بشأن قضية الصحراء المغربية ودحض أكاذيب البوليساريو.
ثم يعود الفيلم ليرجع بنا إلى القرن 13 وما بينهما مسلطا الضوء على العطاء الثقافي والعلمي والروحي للمغرب من خلال شخصيات عالمة ومشهورة مثل الإمام الشاذلي والعالم المتصوف عبد السلام بن مشيش الذي سيُقتل غدرا من طرف “أبي الطواجين” الذي كان ينشر الجهل والخرافات بين الناس إلى درجة ادعائه للنبوءة، كما انه وُجد في مختلف العصور والحقب التي سافر إليها الفيلم، فهو الذي كان يتجسس على عبد الغفور، وهو الذي كان وراء إحراق الكتب وتصفيات المقاومين والمناصرين لمغربية الصحراء بمن فيهم “البطل” نفسه الذي اغتيل في جنيف. وهنا لا بد من الإشادة بالممثل المرحوم حسن الخيام الذي أدى بإتقان بالغ دور أبي الطواجين في جميع المراحل، رغم علته التي أودت بحياته مباشرة بعد تصوير الفيلم سنة 2021 رحمة الله عليه.

3 – نوابغ بالجملة

استدعى الفيلم عبر ترحاله شخصيات تاريخية وازنة ومؤثرة في عصرها لا زالت كما ستظل نوابغ شامخة في سجل العرب في مجالات العلم والطب والجهاد والتصوف على رأسها:
– الفقيه العالم والمتصوف المغربي عبد السلام بن مشيش العلمي (أدى دوره التهامي الهاني)، عاش في عهد الدولة الموحدية ما بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر (1163/1228). ولد بمنطقة بني عروس شمال المغرب قرب مدينة طنجة ثم انتقل إلى جبل العلم غير بعيد عن العرائش حيث توفي ويوجد ضريحه هناك وبه مكتبة تضم ذخيرة من نفائس الكتب والمخطوطات النادرة. تتلمذ على يده نفر من العلماء منهم أبو الحسن الشاذلي.
– أبو الحسن الشاذلي الصوفي المغربي الشهير وأحد تلامذة عبد السلام بن مشيش (لعب دوره محمد النميلة). عاش بدوره ما بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر(1197/1258م). هاجر إلى تونس ومنها إلى الإسكندرية حيث أقام لمدة طويلة جامعا حوله عددا من الأتباع والمريدين فأنشأ “الطريقة الشاذلية” التي ما زالت معروفة حتى الآن بمصر.
– ابن منعم العبذري الأندلسي الولادة (أدى دوره المخرج ربيع الجوهري)، الذي يُعتبر واحدا من جهابذة علم الرياضيات المغاربة، عاش بمدينة مراكش في القرن 13 وتوفي بها سنة 1223. من أشهر كتبه «فقه الحساب» الذي وصف فيه ما يُسمى اليوم ب “مثلث باسكال”. وقد صوره الفيلم وهو يقدمه هدية للخليفة الموحدي الناصر لدين الله – ابن يعقوب المنصور الموحدي باني مسجد وصومعة الكتبية بمراكش وحسّان بالرباط – عاش الناصر لدين الله ما بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر (1181/1213م) وأدى دوره (د. محمد الديماغ).
– الشيخ ماء العينين، عالم ومجاهد مغربي موريتاني الأصل ولد سنة 1831 وتوفي ودفن بمدينة تزينت سنة 1910، ارتبط اسمه بتنظيم مقاومة مسلحة لمواجهة الاستعمار الفرنسي في موريتانيا. أسس مدينة السمارة سنة 1898 لتكون مركزا لزاويته العلمية ومحط أنظار طلاب العلم، حيث اقتنى مكتبة من أكبر مكتبات شمال إفريقيا وأكثرها مراجع وأقام فيها مبايعا ملوك المغرب. ومن أبز طلبته واشدهم نبوغا ابنه احمد الهيبة الذي سيرث عنه حب العلم والجهاد والتصوف.
– أحمد الهيبة هو الابن 11 من أبناء الشيخ ماء العينين (1876/1919) فقيه وشاعر ومجاهد في بلاد المغرب الأقصى وشنقيط. عقدت معه قبائل سوس والصحراء البيعة كأمير للجهاد ضد الاستعمار الإسباني والفرنسي، حيث ورث عن أبيه تنظيم الحركات الجهادية في بداية القرن 20، كما ورث عنه مشيخته الصوفية. وكان والده يلقبه ب”دليل الخيرات” ويقول: “إنه ما دخل عليه يوما إلا جاء خير بأثره”. من أشهر المعارك التي خاضها أحمد الهيبة ضد الاستعمار الفرنسي معركة “سيدي بوعثمان” في ضواحي مراكش وذلك فقط بعد 5 أشهر من توقيع معاهدة الحماية سنة 1912 وقد صورها الفيلم بحرفية متقنة بما ضمت من خيول وبنادق ومتفجرات ومخاطرين مثلما يحدث في أفلام الحروب الغربية رغم الفارق الشاسع على مستوى الإمكانيات المادية. توفي أحمد الهيبة بقرية أكردوس، إقليم سوس يوم الثلاثاء 18 رمضان 1337هـ 18 يونيه 1919م مسموما على يد أحد عملاء الفرنسيين دس له السم في جورب أهداه له وقد صور الفيلم ذلك.
كما ورد ذكر العالم والطبيب الدمشقي الشهير ابن النفيس مكتشف الدورة الدموية الصغرى، الذي عاش في القرن الثالث عشر (1213/1288م). ثم ابن زمرك الغرناطي وهو من كبار الشعراء والكتّاب في الأندلس، عاش في القرن الرابع عشر(1333/1393م) وتتلمذ على يد لسان الدين بن الخطيب. كان وزيرا لبني الأحمر وله قصيدة شهيرة “أبلغ غرناطة سلامي” والتي منها سيفك عبد الصمد شقيق عبد الغفور لغز بِركة السباع 12 التي تقذف الماء من أفواهها على رأس كل ساعة، عملا بقاعدة الفيزيائي الشهير أرخمديس: “لا وجود لقوة دافعة من غير الماء” كما ورد بالفيلم.
فهذا الزخم “النابغ” إن شئنا التعبير المؤلَّف ممن ذكر من شخصيات وثقها الفيلم، أراد به الجوهري أن يثبت أن للصحراويين المغاربة جذور وعلاقات مع أسلافهم من علماء وفقهاء وأطباء وصوفية وملوك حتى بعد وفاة هؤلاء، دليله زيارة الشيخ ماء العينين وابنه احمد الهيبة لضريح المولى عبد السلام بن مشيش. كما أن لهم علاقات نسب تنتهي إلى المولى إدريس الثاني باني فاس خصوصا قبيلة “الرگيبات”. كتب الدكتور خالد بن أحمد الصقلي، أستاذ مادة التاريخ بكلية الآداب ظهر المهراز بفاس:
((يميز النسابون الصحراويون بين الرگيبات بجهة الشرق والرگيبات القاطنين بالسواحل الغربية. وتمتد منطقة ترحال االرگيبات وإقامتهم ما بين منطقة أركشاش إلى المحيط الأطلسي، ومن الساقية الحمراء إلى أوكر تاغانت، وهم ينتسبون إلى الشيخ المجاهد أحمد الرگيبي الذي استقر في الصحراء المغربية في النصف الثاني من القرن 9هـ (القرن 15م). وحاول نشر طريقة جده القطب المولى عبد السلام بن مشيش دفين جبل العلم.
وفي هذا المضمار أسس زاوية بالساقية الحمراء سنة 908هـ/1503م. ومن خلال القراءة الأولية لعمود نسب هذا الشيخ نجد أنه يتلقى مع عدة أسر من آل البيت المستقرين في شمال المغرب. فهو ابن أحمد بن يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد الكريم بن أحمد بن موسى بن غانم بن كامل بن تكميل بن زين العابدين بن حيدرة بن يعقوب بن علي بن مزوار بن خطاري بن عيسى بن بكر بن محمد بن حرمة بن عيسى ابن سالم بن حيدرة بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن المولى إدريس الثاني مؤسس فاس)).

4 – كتب، مخطوطات وقراطيس

وطبعا كان على الفيلم أن يثبت أواصر هذه العلاقة بين المغاربة سواء المنحدرين منهم من الأقاليم الصحراوية أو الشمالية، ليس فقط بواسطة صور متحركة وحوارات ولكن أيضا بواسطة مراجع أهمها المكتوبة بما فيها الكتب التي كان لها حضور بارز بالفيلم، حيث كانت أول شيء يتم خزنه وتهريبه في حال حدوث أي هجوم، وأول شيء يتم إحراقه من طرف الأعداء.
تضاف إليها القراطيس والمخطوطات ومنها ذلك الذي يقدمه والد محمد “البطل” لهذا الأخير قبل وفاته والذي ورثه بدوره عن أبيه، حاثّا إياه على الاعتناء به لأهميته العائلية والتاريخية نظرا لإثباته لمغربية الصحراء. نفس الشيء سنراه في السمارة مع الشيخ ماء العينين حين يعطي لابنه مخطوطا ثمينا سقط منه كإرث الأجداد محذرا إياه من الضياع.
ومن أهم المراجع والمستندات التي تؤكد علاقة الملوك العلويين بالمغاربة الصحراويين، ظهير للسلطان الحسن الأول المؤرخ في 12 ربيع الثاني 1296ه/1879م، عين بموجه الشيخ ماء العينين نائبا له على الجنوب المغربي، حيث ورد بنصه حرفيا أنه يولي ماء العينين: “تولية تامة شاملة على بلاد بني عمران بسوس الأقصى ومن وراءهم بني جرار وفوقهم من الجزوليين قبيلة بعد قبيلة من الأعرابيين بالصحراء، كلهم من بني عمران، إلى وادي نون إلى الساقية الحمراء للطرفاية إلى منتهى العمارة من إيالتنا لتلكم البلاد نائبها”.
إلا أن هذا الزخم الكبير من الشخصيات التي وردت بالفيلم سواء تم تشخيصها أو مجرد ذكرها، وأيضا التداخل بين الأزمنة والأحداث، أطال أولا مدته إلى ما يناهز الساعتين ونصف، وهو قدر زمني جد كبير بالنظر إلى تطور وسائط تبليغ المعلومة التي غدت تتقلص مددها إلى ثوان وليس فقط دقائق. وثانيا جعل عملية استيعاب خطاباته غير ميسرة، تتطلب من المتلقي أن يكون ملما بالتاريخ خلال المرحلة أو المراحل التي طرحها الفيلم، والذي يندرج فيما يسمى ب”سينما المؤلف” الهادف إلى إيصال أفكار، مشاعر ومعلومات دقيقة، وليس مجرد عمل يتغيأ الفرجة والترفيه.
ذلك أن المخرج وهو عينه كاتب السيناريو، أرهق كاهل فيلمه بكم هائل من الشخصيات الوازنة والمعلومات والوقائع المكثفة وكأنه أراد أن يقول كل ما لديه – مثلما كان يفعل عدد من المخرجين في بدايات السينما المغربية فتضيع منهم وحدة الموضوع – فكل شخصية من الشخصيات التاريخية التي صورت بالفيلم تستحق بمفردها فيلما مستقلا كاملا: (ماء العنين – الهيبة – ابن مشيش – الشاذلي – العبذري – الناصر لدين الله…) وربيع الجوهري مخرج وثائقي مقتدر، انساب مع هذا الطابع داخل نظيره الروائي بقصد او بغيره. وهذا كما أسلفت يشتت عملية التلقي السلسة، فالمتفرج وهو يشاهد مثلا أية شخصية ممن ذكر، فإن ذهنه يتخلى مرغما – ولو لثوان معدودة – عن الفرجة ليزج بنفسه في دهاليز التاريخ والبحث عن علاقات هؤلاء ببعضهم البعض، ثم بأطروحة الفيلم الرئيسية والتي هي قضية الصحراء المغربية.
دون أن يعني هذا أن فيلم (سيگا) خلا من المتعة والفرجة، بل بالعكس هو فيلم جميل ممتع، صوِّر بفنية مدروسة، حرفية مُتقَنة وتقنيات عالية قوامها الصورة المعبرة، عبر ديكورات متنوعة داخلية كانت أم خارجية لا سيما هذه الأخيرة بما تزخر به فضاءات الصحراء من جماليات وفسيفساء طبيعية قوامها وهاد الرمال والواحات والخيام والجمال وجلسات الشاي.. هذا وناهيك عن مشاهد الشمس في مختلف تجلياتها فجرا، نهارا في عز القيض بسجون مخمات تندوف مثلا، وغروبا “عندما يأتي المساء وتبدو النجوم فى السما، مثلَ اللآلئ” على رأي محمد عبد الوهاب. كما اكتسب الفيلم مصداقيته الجمالية بفضل حوار مركز ودال بجميع لغاته على ألسنة ممثلين أكفاء. كتب الزميل الناقد السينمائي مصطفى الطالب:
“يتمثل الوجه الجميل في فيلم (سيگا) في شاعرية فضاء الصحراء المتجلية في العناصر المكونة لهذا الفضاء: الرمال والجمال والخيام والكتب والشاي واللباس والإنسان الصحراوي المعروف بحفاوته وكرمه وبساطته. وما يزيد من جمال وشاعرية هذا الفضاء الشاسع هو مشاهد الغروب والشروق التي تخللت الفيلم، إضافة إلى توظيف التراث الفني والموسيقي المتنوع الذي جاء كلوحات فنية عبرت الزمان والمكان لتضفي على الديكور شاعريته ورمزيته مع دلالته الثقافية والتاريخية”.(جريدة بيان اليوم – فاتح سبتمبر 2022).

5 – تنوع جغرافي لغوي وموسيقي

وكان طبيعيا أن يعرج هذا الترحال المتشعب على فضاءات جغرافية متعددة انطلاقا من الصحراء المغربية التي احتل فضاؤها الحيز الأكبر كديكور خارجي حيث يتفاعل أهم الأحداث، مرورا بمخيمات تندوف ومعتقلاتها، ثم العراق وغرناطة الأندلس، ناهيك عن سجلماسة ومراكش التي عاش بها العبذري، والقرويين بفاس قِبلة طلبة العلم والعلماء، والسمارة، وفُم لحسن وتزنيت معقل الشيخ ماء العينين وابنه أحمد الهيبة، وتطوان وجبل العلم بشمال المغرب الذي استوطن فيه العالم الصالح عبد السلام بن مشيش.
هذا التشعب أسفر طبعا عن تنوع في اللغات الموظفة في الفيلم، فزيادة على اللهجة الدارجة المغربية، فرض جريان الأحداث وتنوع الشخصيات اللغة العربية الفصحى بما فيها الشِّعر، والأمازيغية كما الفرنسية والإنجليزية والحسّانية، إضافة إلى الألبسة والحلي والأكسسوارات والآليات. نفس التنوع يسري على الأنماط الموسيقية المرافقة والتي توزعت بين الحساني (الگدرة) والگناوي (الحضرة) والغرناطي والأندلسي زائد أغاني المجموعات (العيون عينيا) لجيلي جيلالة. هذا التنويع الموسيقي والمتماشي والطرح الفكري للفيلم كان من توقيع الفنان محمد السايسي.

6 – البطل لا بطل.. والتناقض مكمِّل

اعتمد الفيلم على كاستينغ ليس مشهورا ولا مغمورا وإنما موفقا، إذ أن جميع الممثلين ليسوا من النجوم أو الوجوه البارزة في الدراما المغربية بقدر ما هم مقنعون، شارك كثير منهم في أفلام سينمائية، تلفزيونية وفي مسلسلات مغربية وعربية كما في مسرحيات، استطاع الجوهري إدارتهم أمام الكاميرا، دون أن أميز واحدا منهم أو أوثره عن بقية زملائه، انطلاقا من البطل عبد الغفور الذي أدى دوره الفنان الحسين بوحسين والذي صرح أنه اضطر إلى تخسيس وزنه ب20 كلغ إبان التصوير في عز كورونا ليبدو بذلك الشكل الرهيب لحد إثارته للشفقة.
حصل بوحسين بدوره هذا على جائزة أفضل ممثل في مهرجان “إتوال دو كريستال” بمدينة لييج في بلجيكا عام 2023. هو خريج المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي، شعبة التشخيص 2003. ومن الأعمال التي مثل فيها: سيتكوم (لالة فاطمة) إنتاج القناة الثانية، المسلسل السوري (ملوك الطوائف) لحاتم علي– (تندوف قصة مكلومين) وثائقي طويل عن معتقلات تندوف لربيع الجوهري، واحتمال كبير أن دوره في هذا الفيلم هو ما حذا بربيع إلى إسناد دورة البطولة إليه في فيلم (سيگا) نظرا لتشابه مضمونَيْ الفيلمين.
وبعكس الصحفي النحيف عبد الغفور، بدا نقيضه الانفصالي المدعو ب”البطل” السمين الذي أدى دوره بنفس الكفاءة، توفيق شرف الدين والذي هو أصلا مخرج ذو أصول ونشأة صحراويين، حيث لعب الجوهري على تركيبة “التناقض المكمل” بين الشخصيتين على المستوى الفيزيولوجي كما الفكري بطبيعة الحال. ففي ثلاثة أرباع الفيلم الأولى كان “محمد البطل” حرا طليقا يضحك ويأكل متناولا اللحم والماء بشراهة، بينما الصحفي المغربي نحيف، مسغب، عطشان وباك مغلوب على أمره.
ولعل أشد المشاهد تعبيرا عن هذه الازدواجية المتناقضة، ذلك الذي يجمع بين “البطل” وعبد الغفور في سجن أرضي، حيث بدا الأول ثخينا متدليا على رأسه عكس عبد الغفور النحيف الذي كان يقف سويا. وهذه إحالة ذكية على قضية الصحراء المغربية التي يحكمها طرحان فكريان متناقضان: طرح سوي يجسده الصحفي المعتقل من أجل قضية عادلة، وطرح مغلوط غير سوي يتبناه سجّانه “محمد البطل” الذي كان دائما في حالة مضطربة وهستيرية الشيء الذي ينزع عنه صفة “البطولة” ليغدو “لا بطل” بل مجرد مرتزق مسخَّر من طرف أعداء الوحدة الترابية للمغرب، قبل أن يعي الحقيقة فيصبح متوازنا سويا إلى درجة أنه – تكفيرا عن ذنوبه وما أذاقه من تعذيب للمعتقلين المغاربة بتندوف – يقرر السفر إلى مؤتمر جنيف للدفاع عن قضية الصحراء المغربة لتتم تصفيته كما أسلفنا.
في نفس السياق التشخيصي ومن بين الوجوه المبلِّغة لرسائل الفيلم، الممثل التهامي الهاني إذ بهيئته، هندامه ولحيته كما صوته الخشن أدى دور عبد السلام بنمشيش بحرفية ملحوظة. فهو الآخر لعب في عدد من الأعمال الدرامية منها سينمائيا بطولة فيلم (هي) لحسن دحاني، وتلفزيونيا مسلسل (عمر الفاروق) للمخرج السوري المذكور حاتم علي. زد عليه زميله محمد النميلة الذي أدى دور تلميذه أبي الحسن الشاذلي. ثم ماء العينين (محمد المبيريك) – ابنه أحمد الهيبة (حمادة أملوكو) وفاطمتّو (فضيلة الهامل) خطيبة عبد الغفور.
وبنفس الكفاءة التي أدار بها ربيع الجوهري ممثليه المغاربة في تحريك الأفراد كما المجاميع في المعارك والمواجهات والحرائق والمعتقلات، أدار زملاءهم الممثلين الأجانب الذين لعبوا أدوار شخصيات عسكرية فرنسية وإسبانية، كما أدار نفسه كمؤدّ لدو أبي منعم العبذري.

7 – إنتاج جرّيء

في متم هذه الورقة تجدر الإشارة إلى عنصر فعال كان وراء هذا العمل ألا وهو: “الإنتاج” واصفا إياه ب “الجِريّء” إذ هو إنتاج ذاتي، تحمله السيد مصطفى بوحلبة دون دعم مسبق ولا مؤجل من المركز السينمائي المغربي وقد كلفه 3 ملايين و400 ألف درهما (340 مليون سنتيما). وصراحة أن ينتج شخص من ماله الخاص فيلما استثنائيا، والمنتمي كما أسلفت ل “سينما المؤلف” التي لا تضمن الإقبال الجماهيري الواسع بل النخبوي، المثقف و”السينفيلي” الباحث عن المعرفة والصبور لطرحه السينمائي مهما طالت أو قصرت مدته، فهذه شجاعة إن لم أقل مغامرة أحيي عليها المنتج متمنيا أن يقتدي به من يدخلون معترك الإنتاج الدرامي المغربي أيا كان فوق الخشبة أم في كلا الشاشتين، دون انتظار دعم الدولة والذي هو أصلا “دعم” وليس إنتاجا كاملا. وأحرى بالمركز السينمائي المغربي أن يضيف إلى جوائز المهرجان الوطني للفيلم الذي ينظم بطنجة، جائزة “أحسن إنتاج” من أجل تشجيع المنتجين الخواص على خوض غمار الإنتاج السينمائي المغربي.

حصل فيلم (سيكا) على:

– الجائزة الأولى في مهرجان فاس السينمائي الدولي
– الجائزة الكبرى زائد جائزة أفضل ممثل لفائدة الحسين بوحسين في مهرجان “إتوال دو كريستال” بمدينة لييج في بلجيكا.
– تنويه خاص من لجنة تحكيم الدورة 16 للمهرجان الدولي لفيلم المرأة بسلا.
* فيلم (سيگا) فيلم رائع، لكن لو تم حذف على الأقل 20 حتى 30 دقيقة منه، سيغدو أروع.


الكاتب : نورس البريجة: خالد الخضري

  

بتاريخ : 27/01/2024