سيميائية الحكائي والشعري في القصيدة الزجلية ديوان «سكية من لحلام» لأحمد السالمي

القصيدة الشعرية الزجلية هي قصيدة حياة مبنية من خلال معين تخييلي عذب؛ يقوم بتشريح علامات الكون، والذات بجرأة الإغواء، والدخول إلى معنى مطبخ الثقافة الشعبية في سطوتها البلاغية وانشطار دوائرها الشعرية والحكائية، مما يولّد عالمًا أدبيّاً مملوءًابالوشاية والتلصص والحركة، وجريان الأشياء وتداخل الأضداد، غناءً ورثاءً وتموُّجَ فكرةٍ.
تستدعي القصيدة الشعرية الزجلية مجموعة من العناصر اللغوية والإيحائية لتحقيق وظائف متعددة، على مستوى الإقناع والإدراك؛ ممّا يحوِّلُ كل شيء إلى استيعاب مرآوي قائم على معادلة الأنا/الأنت.ولكي تكون للقصيدة الشعرية الزجلية دائرة مهمة في التلقي؛ لابُدَّ للشاعر الحاذق من آلياتٍ على مستوى:
أولا: طبيعة المعجم المستعمل في بناء الكلمة.
ثانيا: الدلالات التي تبني علامات متعددة من حيث القيم والوظائف، ومن حيث الرموز المستعملة.
ثالثا: على المستوى التداولي؛فكل قصيدة هي بناء قصدي بين باثٍّ محتمل، ومتلقٍّ مفترض.
سنحاول في هذه المقاربة النقدية البحثَ عن الانسجام الموجود في ديوان «سكية من لَحْلامْ» للزجال «أحمد السالمي»،كاشفين عن الشعري، والحكائي في هذه التجربة.

 

مفهوم الانتباه والموت في ديوان «سڭية من لحلام» لأحمد السالمي:
يحاول الزجال «أحمد السالمي» بلورة دفقاته الشعرية اعتمادًا على حِيَلٍ تخييلية؛ تصنَّفُ ترتيبيّاً كما يلي:
ــ سيميائية الانتباه؛ لبناء معنىً تصوريٍّ ومدلولٍ سيميائيٍّ من خلال شعرية المِصَفّاة الانتباهية، ذلك أن حِسَّنا يستقبل المعلوماتِ الشعريةَ من خلال مفهوم الذاكرة:
كانت طلتها من الفوق
تحيي الروح
ب نغامها تبوح..
ملي نكول: أنا مي…
كَانَتْ الحَلَّه رُشُوقْ
تُكَمَّد كَلبي المجروح..
تكمد صوتي المبحوح..
ملي تكول: جيتي يا مي…!
ذابَتْ الطله شوق؟
غابَتْ الحَلّه خُلوق؟
وبابها ولى قبر..
عاد خاطري المكسور؟
عاد خاطرو يَجْبَرْ؟
ویگول: هانا مي.. ….
ــ المعنى في القصيدة: معاناة تختزل النص الواسع للثقافة الشعبية المغربية، وقيمة لفظة:»مَلّي نْڭولْ أنا مّي»
ــ إسقاطات خرائطية بين فضائين؛ فضاء الديوان، وفضاء القصيدة/ الموت.
ــ علامات رثائية؛ تكشف عن حكاية هووية تولد من خلال دينامية تجميع متواليات كبرى وصغرى على مستوى الحدث العام للديوان،التي تتجسد كطاقات بِلَّوْرية تنسج خيوط الوجود/ العدم.وفي كل هذا يتناظر العنوان مع القصائد لخلق فجوة شعرية تفسر، وتوحي، وتلملم كل ماسيكون ذهنيا وتراثيا لإنتاج المعنى وكلَّ الأشكال المرافقة له:
سَاكَتْنِي حَمْلَه …؟
وقيل حَلمَه …
دات من خيالي نادر….
دات من تصاورو
غَوْتْ لَ بنادَرْ …
وخَلات فيه مطارق…
خَلات لَعَقَلْ فيها غارق..
خَلاتُوف ظلمة…
خَلاتُو بلا نجوم..
خَلَّاتُو فَ حَلْمَه…
خَلَّات كَلْبُو عَرْكَانُ
خَلَّات لو حطبها..
ــ على مستوى التشاكل؛ نجد النص مملوءًا بهذه القضايا/ الحلم/ الحملة؛ مما يبني عالمًا شعريّاً على مستوى التدلال، وصياغة سمات دلالية عبر عملية الانتباه المندمج.
تبدو روعة الإيحاءات في ديوان «أحمد السالمي» من خلال تعارضات بين أشياء ومخلوقات، وبين أسماء ونباتات؛ مما يخلق جسرًا انتباهيّاًآخر؛ سنسميه «سيميائية الوسم»؛ وسم الأنا والأنت. وهذا الوسم يسهم في بلورة سيرورات معرفية من خلال ثقافة شعبية واسعة، وثقافة شعرية تبني الإيحاء من خلال طبيعة التعالقات التي تحدثها اللغة اليومية في أرقى مدارجها الانتباهية والإدراكية؛ إن على مستوى التفكير في اليومي والمعيشي، أو على مستوى التخييل والاستدلال، والمشاعر الجوانية أو البرانية:
عاديتيني..
على عتلة..
على عَرف..
فَ الراس مطارق..
على صوره..
لوانها محفورة..
ماس ف الكلب…؟؟؟
لقد حاول الشاعر الزجال أحمد السالمي دمج الاستعارة التصورية لخلق مدى شعريٍّ على مستوى الفضاء الذهني المتمثل في: «لْعْمُر، العَيْن،الشفار، الكتب، السيف… مما يخلق نسقًا تصورياوبؤرة انتباهية على مستوى الضمائر؛ لأنها تجذب انتباه القارئ والمستمع، وتسهم في انسجام النص:
لا ذاكْ من هذا
ولا هذا من ذاكْ
ولا هوما.. من رْوايَ ورْواكْ
منْ الرّوحْ ..؟
الغارسة جذورها زْرارَعْ
«إن الانتباه يشتغل في هذه الضمائر من خلال عملية التبئير الآني؛ لأنها تضم حضورًا أقل للمعلومة المتعلقة بمراجعها. وهذا التبئير يقود إلى الانتباه إلى تنشيط مدى واحدٍ،أو أكثر من مدى»وهذه التراتبية على مستوى الضمائر هي التي تقود إلى خلق شعرية شعر القصيدة الزجلية،إن على مستوى بناء الصور وترابطاتها الجشطالتية،أو على مستوى إيحاءاتها الاستعارية المتعددة؛ لأن تناوب الحوار بين الأنا والآخر،أو الآخرين حضوريا أو غيابيا؛ يخلق معنى تجذير الحكي زمانيا ومكانيا، ويعطي القصيدة بُعدًا حواريّاً على مستوى طبيعة الحكاية نفسها، التي تجعلنا القصيدة داخلها بالقوة وبالفعل. ولأن أيَّ قصيدة زجلية هي كياناتٌ مبنية، وفيها ترابطاتٌ يعمد شاعرنا إلى القبض على الأساس المنطقي لشعرية قصيدته،من خلال العنصر (أ):»عاديتيني على عتلة»، مرتبط بالعنصر الإدراكي (ب)»على عُرْفْ ف الرّاسْ مْطارقْ»،وهكذا دواليك.
تمسي العلاقات داخل القصيدة الواحدة علاقاتٍ تناظريةًثقافيّاً واجتماعيّاًإما ربطًا أو قطعًا، وهذا الربط والقطع داخل الديوان له دينامية الاتصال والانفصال سيميائيا على المستوى المادي من جهة، وعلى مستوى تعالق الأرواح والأجساد والمخلوقات، والذات الإلهية من جهة ثانية.
وللديوان أهمية خاصة على مستوى فيض الذاكرة الشعبية، التي سنحاول بناء نمذجات خاصة لها من خلال ما يلي: الدَّخل، الحِسيّ، الذاكرة البعيدة المدى، الخرْجُ.وهو نموذج من وضع «انتكسون» يحدد فيه كل العلامات الكتابية والإبداعية التي تؤطر عمل نماذج الذاكرة. ولأن ذاكرة الشعر الزجلي تهمنا؛ فقد حاولنا بناء معلومات مُرَمَّزةٍ داخل هندسة معرفية كانت قادرة على خلق مشهدية شعرية في غاية الأهمية داخل الديوان:
الصبر تقادى صبرو
رافْ منّا الصبر
عدفنا
حدفنا
من حياتو
وكأن الصبر هو الذي هرب منا؛ لأنه ملَّ هزائمنا، بل وتمرد على خنوعنا. ولعل الكلمة المفتاح والدالة:
محانا حروف من كتابو
فنى عمرو
فنى فينا شبابو
عْصَرْ منّو الزمانْ
مشروبْ لَ مْحايْنو وعْذابو..
يتم استرجاع كل السمات الشعرية من خلال مفهوم إجرائي «عُقدة العُقدة»، وهذه العُقَدُ تخلق عِقْدًا مقاليّاً على مستوى تلقي القصيدة. ولكن على مستوى الكتابة يتمظهر جسر دلالي لمفهوم التصور للحياة وللصبر؛ مما يجعلنا نؤكد أنه بالإمكان الحديث عن مفهوم شائع في اللسانيات المعرفية؛ألا وهو «التنشيط المنتشر» لكل البقايا والصور، من أجل خلق ذاكرة إبداعية للقصيدة الزجلية كما تكتب اليوم.
والقصيدة الزجلية في كل هذا؛ تبني حكاية الإنسان مع هزائمه، وانتصاراته،وانتظاراته، ومع كل تجليات الآخر فيه. ولذلك فإن القصيدة الزجلية فخ الدلالات، والثقافات الشعبية التي تتفجر داخل ينبوع هذا الفخ.
إن انشطار المحكيات داخل القصيدة الشعرية الزجلية يُحوّلُ انشطار اليومي والمعيشي إلى بؤر متداخلة، تتزاحم فيها اللغة الشعبية في سماتها العجائبية والغرائبية؛ مما يحوّل الانتباه إلى مرتكَز للاستماع وللقراءة .
هناك نوع من «الجذبة» الداخلية، نحسها ونحن نقرأ هذا الديوان في غواياته، وفي هواجسه، وفي الإحساس بالفقد والوحدة…
ما أجمل الأنّاتِ التي تكون نتيجة وفاة الأم شعريّاً، ولكن ما أقساها وجدانيّاً، ولا شعوريّاً على مستوى الإحساس. وفي التفريق بين مفهوم الإبداع ومعاناة اللحظة، نجح شاعرنا في القذف بنا سريعًا إلى عوالم حكايته الشعرية، وألمه، ووجدانه؛ألم يقل جبران خليل جبران يومًا:»الإبداع يكون من فم باسم أو من جرح غائر». ولذلك فالحدث سيميائيا يتبلور على الشكل التالي:
فضاء الحدث
الأداة
الحدث
نتيجة الحدث
الأم (الطلة من أعلى)
الشاعر(خطاب من أسفل)
قلبي مجروح (إحساس هووي)
الطلة (شوق، فوق)
بابها ولّى قبر (تحت)
بين الفوق /التحت مسار حياة أمٍّ وابنها الشاعر.
يُسقط الشاعر هنا مفهومًا خرائطيّاً مرتبطًا بتأويل القصيدة اعتمادًا على مفهوم «المحل»(topo)والمحل هنا فوق …طلة من لفوق؛ لتبئير العالم السفلي والنظر إليه من خلال الحب:أمّ …ابن …مّي
العتامة تبدأ حين يتحول الفوق إلى قبر، الذي كان في الأصل نواة مورفولوجية أساسية لموضوع القصيدة …. الموت.
بين الفوق والتحت هناك التحام الشاعر بالفضاءين معًا؛ ففيهما هناك مّي، وهناك أيضًا في الديوان استعارة تصورية جاءت في سياق التعارض بين رؤية بصرية من الفوق،ورؤية تجريبية للقبر؛ لأننا عادة مانشاهد جسد الآخر مسجّىً في كفن أبيض.
بين الأعلى والأسفل هناك علاقات بين جزء وكل، وبين محتوى وقيَم متراكمة ومتجاورة:
وقتاش حلمنا
ووقتاش عيونو ف عقلنا
خيط من السما
عليها غفلنا
فيها حصلنا
نتسناوها ڭطرا….!
وقتاش حلمنا
ووقتاش الحلم
رهنا برهينتو
وقتاش غبرت
سْفينتنا فَ سْفينتو
وخيرو مَلّي دَّفَّڭْ
لْبَسْنا كَسوْتو عْرا….!
إن هذا الديوان قرأته بعشق؛ إيمانًا بأن للقصيدة سرديتها، وحوارها. هي قصائده حققت فعلا مفهوم سردية الشعر بنائيّاً وتصوريّاً، أو من حيث العناصر التخييلية والمرآوية التي تتلاقح داخلها.

ناقد وباحث في السيميائيات..


الكاتب : د. الشرقي نصراوي

  

بتاريخ : 07/03/2024