كلّ شيء شعر، حـتى براز القطط حين تلامسه الكاميرا يصبح شعرًا. بهذي الثـقة المطلقة دأب سيرغي باراجانوف على تعقّب خفايا الوجود ببصيرة كاميرته، فالحياةُ لديه مختزلة في مطاردة ظلال الحلم واستدراجها إلى مخدع الوجود المرئي من خلال التوهج في خلقه للصورة الناجمة عن إيمان داخلي بطقوسية العين.
هذه الأخيرة إن لم تمتصّ الاشياء بتحديقة مواربة، يكون من اليسير الإفلات من دائرة الدهشة البصرية التي في تحـقّقها يُشعّرن الزمن بالفعل المكاني النابع من اعتماد الحديث من أسفل الأشياء، ذلك لأن الكاميرا آلة بوليسية تضفي على لحظة التصوير زمنًا مواربًا في ملامستها للأعـماق، ولا يستبطن العمق من دون العمل على تعميد الشكل بمياه الحادثة. وكلما لوّحت الكاميرا بالفعل البوليسي، أكّدت العين طقوسيتها. ويأتي الرهان عـــلى ضرورة طقسنة العين في المسح الشعري للفضاء، لإنتاج حساسية بصرية مهمّتها استجواب اللغة وتوضيح عجزها بطاقة الصورة.
من خلال إصراره على استنطاق الكائن البشري يبدو أن باراجانوف أراد أن يقول لنا بأن العين هي حاسة طقوسية أو هي الوحيدة من بين الحواس الأخرى لديها القدرة على طقسنة الجسد والوجود على سواء، إذ في أغلب أفلامه يـسعى إلى خلق سينما فيها من التداخلات النصية ما يضعها في قائمة الابتكار والتفرّد. فعند التنزّه بين أرفف مكتبته الفلمية، نكتشف أن السينما تكمن في قدرة الكاميرا على الدخول في صفقة مع الزمن، الغاية منها إقناعُ الزمن نفسه على الكلام من الأعماق على رأي روب غرييه، وهــذا لا يتم إلّا بوجود مـخيال خبير في فتح مسام الصورة بالطقس، بمعـنى أن يكون الصانع السينمائي على قدر عالٍ من اكتشاف الحواس بالشكل البصري ويمكن عدّ العين هــي الفلتر الحـسي الذي تمـر عبره كل الإرسالات. متى ما امتلكت السينما هـذي الخاصية، صار لزامـًا على الزمن أن يستجيب لغوايتها، لأنها الفارس الوحيد المؤهل لدخول معركة الأشباح، فالسينما بحسب دريدا هي نِزال الشبح، ربما عنى بذلك مناورة الزمن بظلاله المتمثلة في مخاوف الإنسان من أن يُدهس بقطار الزوال. من هذا تتضح فرادة باراجانوف إذ يتـــنقل بين أخيلة متنوّعة في بناء نصه البصري. ويمكن عدّ أفلامه سير طقسية للنشوء السماوي، فما يقدمه من خيالات تتراوح ما بين الحضور التعبيريّ والانعتاق السرياليّ المتأتي من ضـرورة التشكّل الحسي للمشهد. هذا التوهّج الجمالي يـشير إلى ولادة سينما سائلة كما نوّه باومان في تناوله لتجربة باراجانوف فأن تدخل في سجلّ السوائل، يعني أنك في قلب المستقبل، لأن الفكر السائل لازمنيّ بامتياز وَيُعنى بفتح قنوات حوار مع اللانشوء بواسطة محاكاة النشوء المحتمل المتمثل في الوجود المرئي غير الموثوق بجديته بحسب فلـسفة العدم.
ثمة شعرية مبتكرة تمتاز بها سيــنما باراجانوف، ويتسع مدى التـــميّز في توظيفه للمعارف الميثولوجية بوعيٍ حلميّ واضح المعالم لا يخلو مـن رغبة المخرج في قراءة كوالـــيس المأزق التاريخي للروح البشرية، ففي اعتـــماده على الطقس بشقيه التهريجي والعزائي يكون قد أعلن تفرّده واختلافه عن مخرجين جاهروا في تبنيهم لمشـروع الســينما الشـــعرية، في مقدمتهم بازوليني وبونويل وتاركوفسي وثيو انجلوبولوس وجـودوروفسكي وبرجمان وجـــوبلر روشا. فإن فتشنا في الحقائب الاخراجية لهؤلاء المخرجين، فســنطّلع على عوالم طقوسية متعددة، فالمشغل الطقوسي لدى بازوليني هو رابليــهي صرف، والرابليــهية هي تدنيس المقدس من خلال استضـــافته أرضيًا بحسب باختين، فيما ينصهر بونويل في طقوسيات مقاربة لمناخات القسوة لدى آرتو. في المقابل نجد أن انجلـوبولوس وبرجمان ينطلقان من مـخيال طقوسي يعمل على اكتشاف الزمن المراسيمي. أما الطــقس الباراجانوف فهـو تنقيب أسطوري في مخطوطات زمن الأسلاف في تبيئته للصورة، أي جعلها أرمنية الملامح في توظيفه للأزياء والموسيقى، أي أنه فهم خطورة اللعب مع الفلكلور.
يُعد فلم لون الرمان عـلامة فارقة في الأرشيف السينمائي، فقد استطاع المخرج بفيلمه هذا أن يؤسس مــعبدًا بصريًّا يتماهى معه كبار فلاسفة السينما، منهــم غـودار الذي يقول إن الانحناء في حضـرة باراجانوف اعترافٌ بعــبقرية السينما، ما يعضد نتاجه أنه سعى إلى صناعة سينما تُشببه! وليـس ثمة شبيه للشمعة سوى لهبها الذي يتمنى أن يراها مشتعلة دومًا. فأحلامٌ مثيـــرةٌ للجـدل لا شك أنها ستأتي بسينما منبوذة من قبل سلطات القتل، لكنها عندما تـستَوعب مؤكد أنها ستضمن خاصيتها الانبعاثية في ضمير الأمة. إضافة إلى اعتماده الفلكلورَيْن الملبسي والغنائي، عمد الحالم الجورجي إلى طقسنة الصورة بالمكان للفوز بقراءة شعرية للمضمر المعماري، وقد ألغى بذلك حوائط الرؤية، مراهنًا على إيروسية البصيرة، فأفلام «مثل لون الرمان والأسطـــورة وظلال الأجداد المنسيين» كي نمسك بمفاتيحها، توجب على المشاهد أن يجتهد في كسر زجاج البصر بحجارة البصيرة.
إن التوّهج الفلسفي للمكان السينمائي يفـترض أن يتم اختياره على وفــق توافر مخيال طقوسي، فمن دون ذلك تصبح عملية الاحتفاظ بزمن اللازمن معجزة كبرى، وربما لا تتــحقّق أصلًا. وفق هذي الرؤى أستطيع تسمـية المخيال الباراجانوف بصائد ظلال الشـعر سينمائيًا.
سينما باراجانوف: التميّز في توظيف الميثولوجيا
الكاتب : بوعي حلمي
بتاريخ : 19/03/2022