سِفْر التأوين وَالعِرْفان

(لا تَلُومِي ذاكَ الفَتَى، مُسافِرا مُثْقَلاً بِخُطُوطه الأَزَلِيَّة، كَالمَنْحُول الخارِج عَن التَرْجَمات اللاتِينِيَّة َلذاكَ القِدِّيس الذَهَبِيّ. فَقَد أَتَى من مُدُن عَتِيقَة بِها مَآذِن عالِيات عارِيات، كعْبها من قَرْن الغَزال، يَنِزّ من شُقُوق خُدُودها قَطْر اللُغات، وَسَيْل لُعابها حَدّ بَين النَبِيذ وَالصَمْغ وَالصَلاَة !..)

-أوَلاً –

شَيْء من التأوين وَالعِرْفان.
حِينِ تَرْمِي بِنَفْسكَ فِي بَطْن الكَوْن، وَالقَوْل، وَالشهادَة.
لتسنبل «قِراءَة مُخْتَلِفَة «.
كَالمَنْحُول الخارِج عَن التَرْجَمات اللاتِينِيَّة َلذاكَ القِدِّيس الذَهَبِيّ.
حِين تَتَّكِئ البَيْضاء عَلَى بَيْرُوت يَكُون لِي حَظّ من الوَقْت الزُمُرُّدِيّ،
الشهي، البَهِيّ، النِيئ، النَقِيّ، الطَرِيّ.
حِينَها، أَرْمِي بسدائل شِعْرِي عَلَيها وَعَلَيّ،
وَأَقْبِض من رُوح الكَلام ما أراد وَما اشْتَهاه.
وَأَرْمِي فِي وَهَج النُور قُبْلتكِ جُثَّة نابِضَة.
سَيَكُون لِي حَظّ فِي هٰذا الزَمان،
إِن أَنْتِ مَزَّقتِ رُوحكِ فِي دَمِي وَعَجنتِ مَعالِم الرُؤْيا،
وَحَشَوتِها بِبَواطِنِي المرتعشة، المُلْتَهِبَة، الأَمّارَة بالوجد وَالخَيال.

أوّاه سَيِّدتِي، مَدَد.
فاسكري ما شِئتِ يا صاحِبَة الجَلالَة،
يا رائِدَة اللَذّات المُلْتَبِسَة.
اسكري فِي حَضْرتِي وَفِي لعَبي،
فَلي فِيكِ رَغْبَة السَوْسَن الَّذِي قَضى وَٱِنْتَهَى فِي فَناء كِسْرَى،
وَحِيداً مَعَك !

أَنا الفارِس المتنطع، لَمّا أَراكِ
أَرْفَع دِرْعِي، وَخَيالِي وَحُسامَي بين ضُلُوع السحاب فِيكِ،
وَأَتْبَع الضَوْء المائِل عَلَى عِطْر خصريك،
وَأَخِرّ بَينَ بَلُّوطَتَيْنِ مُعَسَّلَتَيْنِ،
بَين زَيْتُونَتَيْنِ فِي غايَة السَواد،
تُشِعّانِ لَهَباً، تَحْتَ سَحاب زيت قَنادِيل بوديَّة،
وَأَخِرّ بين عنبَتَيْكِ، كَرَضِيع صَرِيع !

-ثانِيا –

لا تَلُومِي ذاكَ الفَتَى.
فَقَد أَتَى من مُدُن عَتِيقَة بِها مَآذِن عالِيات عارِيات،
كَعْبها من قَرْن الغَزال،
يَنِزّ من شُقُوق خُدُودها قَطْر اللغات،
وَسَيْل لُعابها حَدّ بَين النَبِيذ وَالصمْغ وَالصلاَة !.
لا تَلُومِي ذاكَ الفَتَى، مُسافِرا مُثْقَلاً بِخُطُوطه الأَزَلِيَّة.
صَفائِحها، شَرائِح من خَلايا نَحْل الأَرز، وَالبَلُّوط وَالرخام.
تَتَدَلَّى من ضَفائِرها بِلَّورات تَسِيل دَلالاً فِي غَبَش السُؤال،
كَقَطْرَة الحَيْرَة الأُولى، عَلَى وَرَق النخِيل :
عَلَى وَقْع «نُور» العِشْق الأَوَّل، وَغَبَش النَبِيّ «إِسْماعِيل» !

أَتَى، من حَيْثُ لا يَأْتِي أَحَد.
من حارة بارِدَة إِلّا من لَهَب أَطْفال لا ينامُونَ إِلّا عَلَى وقع قارِعَة الطرِيق.
يَتَحَسَّسُونَ أَقْدامهُم، فَوْق الجِنّ الأَزْرَق عَلَى أَبْواب رُوما،
وَغَضب المَوْج يَرْمِي ما يَشاء من سَمَك وَمَحار.
أَتَى، من حَيْثُ يَأْتِي الجَمِيع،
بِلهف السؤال يَرْمِي بِنَفْسه غَيْمَة وَلّادَة كَخَمْشة،
بِسقط المواجع بَين الزئْبَق فَسِدْرَة المُنْتَهَى !

وَيَرِن، من صَدَى جُرْحك الغائِر فِيهِ.
وَيَئِن، قَطْرا يَسِيح وَجَعاً بَينَ ضُلُوعه،
ضَوْءاً نازَلا كَمَوْت الصباح عَلَى ضَفائِركِ.
وَيَحِن، لِقبْلَتَيْنِ من شَفَتَيْكِ فِي فَمه،
رَغْوَة الكُؤُوس المُعتقَة،
حَنِين الشادِي لِقَهْوَة أُمّه.
وَيجنّ، لَغِيابك فِيهِ، نَبِيّاً صامِدا، وَطنا عَنِيداً،
كباقات الأَشْواك الحَبَشِيَّة.

هِيَ، من «الروح القُدُس»، أَتُوها من كُلّ «الزوايا».
بِها ضَوْء «يَسْجُدُونَ لَها» وَيَجْثُونَ، متضرعين.
فَمن فَمها تخْرج صَرَخات اليَتامَى.
وَمِن ضُلُوعها يسيل الزلوع والتين الهِنْدِيّ.
عَلَى رُمُوشها تَنْزل الرؤْيا وَتسِيل الحَقِيقَة، رائِعَة الٱكتمال والتوهج !
وَمِنها إِلَي .. مِنها إِلَي، عَذاب الدنْيا وَالآخِرَة.
أَبَت إِلّا أَن تعذبنِي وَحدِي، من دون مَلايِين البَشَر.
أَن تعَرِّي فِي معانِي الوُجُود، وحدي كَي أَمُوت وَحَدِي مَعَها.
كٱنتحار أُمّ العَصافِير عَلَى شَفَى شَفْرَة الضياع،
كَي يُواصِل الصغار الطيْر فِي عُمق اللهب البارِد.
فَخِفتُ المَشْي وَحدِي،
نَحْوَ أُفُق المَدِينَة البَعِيدَة،
أَرْتَعِش مِثْلَ فَراشَة لا تنام من شِدَّة الحُمَّى،
يَهُدّها صَمت المَدَى .. يَحْجُب عَنها وَتَر العُود السخِيّ.
تَعَدَّى المَعْمَدان فِيكَ مَلَكُوت الوَقْت الرهِيب.
وَغَطاك بِوَبِر التوْبَة الأَخِيرَة.
وَسَيَّجَك بِأَهْراء الوجد، نارهُ لا تَنْطَفِئ.

قلت لَها فِي وَقْت ضائِع:
ليس بِكِ وَحْدكِ أَحْيَى.
فَشَمَّرَت فِي عَيْنَيْها، بِهُدُوء الطغاَة،
وَرَشَّتنِي بِلَبَن ثَدْيِيها،
وَضَمَّتنِي لِصَدْرها وَطَوَّحت بي،
فِي مَمالِك الدنْيا وَفِي شَغب أَمْواج البَحْر.
وَضَلَّلَتنِي بِالشمْس العَظِيمَة، حَتَّى لَم يَعُد لِي بُدّ من التعب وَالحَنِين.

أَضَع سِلاحي وَأَغِيب فِي سَحاب قَسوتها،
وَأَتَهَلَّل بِظِلال شَفَتَيْها،
وَأَسْعَى إِلَيها ذَلِيلاً فِي نَشْوَة هَزائِم العُظَماء !

-ثالِثا –

سَأَقُول القول فِيكِ، سأقول الشعْر فِيكِ.
حَتَّى وَلو أَتَت كُلّ نساء العالم.
مُحَجَّبات فِي طلاتها المُؤْنِسَة،
مضمخة بِكُلّ أَنْواع الخُمُور وَالعُطُور وَبايَعَتنِي.
حَتَّى وَلو تَوَجَّعَ الشرْق كُلّهُ،
بِصُدُور فاتِنات يَحْرُسها ثَدْي أُمِّي،
لصَبايا كَالظباء، طَرِيَّة كَحَبّات رُمّانَة سَيَّجَها زَبَد الرَيح،
من بَياض الرخام، وَفَحِيح الحَمام، وَدَقّ الشوْق، وَحَقّ الهيام،
وَكَسْر الأَوانِي، وَهَمّ الغَرام، وَعُرْي البُحُور، وَطَنّ الكَلام،
حِين ٱِسْتَعْمَلَ الربّ الرشِيد .. فِيكِ سَيِّدتِي، قَلَم الرصاص وَصَوَّرَك،
كَسَّرَهُ، وَذَوَّبَهُ، ورماهُ فِي اليم البَعِيد هُناك !
كَي لا تَخْرُج من شِدْقه ٱِمْرَأَة أُخْرى تُشْبِهك  !


الكاتب : امال حجي

  

بتاريخ : 01/12/2023