شارل بودلير سبعة مشاهد من مسرحية الانتحار الأدبي على إيقاعات سيمفونية الحداثة

المشهد الأول

أحيانا، تحني لنا الحياة جناحيها بسخاء فتهبنا مجانين ليمنحوا بدورهم للإنسانية بوصلة الوجود في عز ليل البيداء. نيتشه، هولدرلين، فان كوخ، غويا… جميعا قفزوا نهر العقل من تحت أقدامهم وارتموا في أحضان البياض فأنتجوا روائعهم المليئة بالشعر الجميل والفكر العميق. روائع انحنى لها العقل الإنساني بذهول وجلاء.
شارل بودلير فاكهة من شجرة الجنون الدائمة الخضرة. من داخل دائرة الجنون حرَر الفن من مكامن الأسر الأخلاقي وفتح لنا نوافذ مدهشة على خيالات الكون وأثث العالم بأطياف كائناته الخالدة .. ورحل.

المشهد الثاني

هل تمر فوق شفتيك رياح قلقة حين تجتاحك رغبة الكتابة؟ هل تحلم بمرايا شاسعة، بستائر من الكريستال؟ وبأبراج ترتفع إلى السماء؟ أنت إذن تنتمي بلا شك إلى برج بودلير.
بودلير لم يودع العالم قط. إنه يسبح مثل نيزك موحش ومشتعل في الآفاق المرصعة بالنجوم، غير بعيد من رامبو وشاتوبريون وبيرون ومالارمي… بودلير Baudelaire اسم لجريمة كاملة بعد سبق الإصرار والترصد، اسم يليق بالهوس الملتهب في مقلتيه. حين نصغي قليلا لهذه المتتالية الصوتية الرائعة، يرتفع صوت الجمال le beau وصوت القبح. le laid الكل مرتب سلفا كمسرحية من مسرحيات سوفوكلس المذهلة. بودلير اختاره اسمه كي يلعب دور نحات الفراغ على جدران الجحيم. فهو شاعر التناقض واللاممكن بامتياز. شاعر المستحيل حتى النهاية . شاعر هبط إلى الدهاليز المظلمة، استنشق الموت، ارتعشت روحه من داخل صقيع المتاهة، مزق الحجب، اخترق مسافات اللامسمى ولمس الفراغ والسواد والعري فاحترقت أصابعه…

المشهد الثالث

بودلير استخلص الضوء من القيامة والخير من الشر والشر من الجمال. استخلص الأبدي من العابر، وأصيب باللعنة لكن الشعر أنصفه. ذلك الشعر الذي استنبته من « الجيفة» la charogne « كزهرة نادرة تعلو في اتجاه إله..» نحن ممتنون لأمير الغيوم. لقد وضعنا بقسوة أمام سؤال جارح ومفزع هكذا « هل الفن حيوان لاحم؟» .
قد نتفهم إذن صراع الشعر البودليري وحركاته الهيستيرية، حيث اللذة تمتزج بالروح والصعود والتسامي بالسقوط…

المشهد الرابع

قصيدة بودلير لم تكتب بلغة موليير. لقد كتبت بلغة ما .. بطينة من الدم والبهاء اختلط فيها المقدس بالمدنس والمرئي باللامرئي والممكن بالمستحيل…

المشهد الخامس

عين بودلير مرآة من كريستال مسحور مثل عين رسام حكم عليه بأن يرسم على جدران الجحيم .
عين من نار ، من طين، من ماء وهواء . وكيف لا وهي محكوم عليها بأن تؤوي ذلك المجال اللامتناهي وتلك المشاهد القيامية ؟. إنها عين لها لكنة فريدة b›gaiement بمفهوم دولوز. لهذا فبودلير لا يشبه إلا بودلير.
أحيانا نوره مصدر معرفة وأحيانا أخرى قد يصيبك بالعمى..

المشهد السادس

لم يكن مسموحا لبودلير أن يخوض هذه التجربة في هذا الهامش، وأن يمارس هكذا جنون..
ريشته عظيمة و» أزهار الشر» ديوان قادم « من المريخ»، برج بابل من الشعر منحوت من الطين والدم والذهب. لنستمع إليه:
«أيتها الملائكة كونوا شهداء عيان لقد قمت بواجبي كفيزيائي متمرس أو كروح مقدسة لأني أخرجت من كل شيء زبده .لقد منحتموني الطين وجعلت منه ذهبا.»

المشهد السابع

أكيد أن صاحب قصيدة النورس خيميائي غير عادي. لقد أمطرنا ذهبا بعد أن صاغه في الجحيم في صور بضوء أبدي، وفي أبيات تمنحنا باستمرار إكسير البهاء…لقد ترك لنا عالما من نسيج خياله الخاص على حدود الواقع والخيال، الوعي واللاوعي. عالم يرقص بمشاهد غريبة وكائنات فريدة بألوان وأضواء وروائح بودليرية صرفة…
شموس مبللة، مرايا مقعرة، ملائكة بأحمر الأفق، بحيرات من الدم وعيون تؤوي الفجر…
فوق أعماله يحوم الجمال «كحلم من الحجر» والليل يتقدم بخطى الذئب مثل شريك في الجريمة والموت ساطع «كشمس جديدة»…نبرة خيالية مثيرة ، كائنات غريبة بألوان الروح ، بأشكال الغموض وبمقاسات الشعر…
كائنات بقمصان تغير من ألوانها كلغز. تظهر وتختفي مثل حلم ولى، آت أو سيأتي . لست أدري.


الكاتب : رشيد منسوم

  

بتاريخ : 07/09/2022