«شبيهي في التيه» للشاعر عبد العزيز أمزيان «خروج من الطين إلى .. رحم الأبدية»

قبل البدء في قراءة هذا المنجز الشعري، يستوقفنا العنوان “شبيهي في التيه” أي شبيه المتكلم وهو هنا الشاعر عبد العزيز أمزيان، شبيهي أي مماثلي في أي شيء، وكأنه ينظر في مرآة الحياة، ولكن هذا الشبيه، في (التيه): أي المفازة حيث لا علامة فيها يهتدي بها، أي المتاهة.

هناك عناوين لقصائد تحيل على التيه وعددها ثمانية، ويستحسن بنا، أن نبدأ من قصيدة «شبيهي في التيه»، باعتبارها قصيدة داخل الديوان، وعنوانا يغطي المجموعة.
1/ شبيهي في التيه (ص 29)
خطاب الظل بالفعل الماضي، وتوظيف (برك المرايا)، قصد تعميق التيه، وتعدو انعراجاته وتشابكاته، الى الفعل المضارع المرتبط بأنا الشاعر، ما يجعلنا نتساءل عن العلاقة بين الصاحب (صاحبي) والشاعر، ويسود التيه
لا ظل لي
لا وجه أعبره إلى شبيهي
لا سكة ترسم هياكل الرحيل
إلى سمر الولادة
لا أحد يحفر صورته
في المدى ( ص 29)

كل الآفاق مغلقة، ولا علامات تدل على الوصول الى المبتغى الحقيقي والمراد، وهذا التيه الأعمى يجعل الشاعر يصرخ
أراك هناك
مثلي يا صاحبي!
شبحا لرياحك المبعثرة
في الجهات
تمضغ اللذة من كروم الأسى (ص 30)
هكذا فحتى الأشكال الهندسية تزيد من فجاعة التيه، سواء بدءا أو منتهى، بالزمن الدائري، أو (ومربعات مقصوصة الجناح) ص30) أي يصبح مستطيلا، إذن كل الأمور متغيرة.
في «وجوه تائهة» يتم العبور بلا منافذ
وبلا وجه لمرايا النهر ( ص 11)
ويزداد انفعال الشاعر وقلقه
لست ورقة في رمش شجر
لست رقما يرقن في المصانع
أو حرفا يوشم المنار
بأريج المداخن (ص 11)
وهذا الانفعال والقلق الشعري، يصل بالشاعر إلى حد التمرد
متمردا على أقنعة
تتساقط تباعا على أرصفة المدار
بلا أي معنى …
وبلا أي وجه…
وبلا أي طريق…(ص 13)
فحتى الأقنعة التي يتوسلها الشعراء كرمز لحرية البوح، تتحول إلى أقنعة زائفة، وتتساقط بلا أي وجه، وبلا أي طريق، لتسير في مفازة بدون دليل.
وفي غيمة تائهة:
لا أحد يراك في المرايا
ترشفك صواعق آلهة مسننة
على شفير المحو..
لا رأس لمنتهى القافلة
ولا عين تتلمس طريق الأنبياء
لك كل الدروب كي تتيه في غيمك..(ص21)
وحدك ترى نفسك، وتحاسبها في خضم هذا التيه، أنت وحدك منعزلا تتيه، ومن جمع تلال التيهان تتبدى عزلة الشاعر وحده. في عالم الشعر والقصيدة.
هكذا يتأسس التيه وفق درجات من السديم والعمى، ومرور وداع أبدي أو موت، وعناق السديم، والوصول إلى النفي دون الإثبات حين تمد العناكب خيوطها، ويصل الشاعر إلى( نهاية بداية لم تكتمل ( 54) .
وهذا القلق الذي يعمق جراحات الشاعر ينسرب إلى باقي القصائد، حيث المرثيات الموجعة، والمعاملات الشائكة، تنبري من وسط هذا الركام قصيدة( وجوه تتهاوى ) لتشفي غليل الشاعر وترد الاعتبار:
دشن خندقا لمنفاك
جفف دمع احتراقك
واترك جحافل القصاص
تجفل لحصص ليست لتفصيل
قطعا ستسحقها الليالي الظعينة( ص 61 )
ولكن ما يستدعي الانتباه هنا، ( الليالي الظعينة) هذه الصفة الملتصقة بالليالي، والظعينة: الهودج توضع المرأة فوقه قصد الرحيل، فوق جمل أو ناقة، ويمكن أن يقصد به الزمن، فنحن نقول: وضع الزمان ككله: أي ثقله، إذن ستنتقم هذه الليالي الظعينة للشاعر.
لنا أن نتساءل الآن، كما تساءل الشاعر- كيف تشكل (شبيهي في التيه) ؟ ولماذا؟ ولماذا ؟ طبعا تم التشكيل من اللغة
أولا: اللغة وقد تحولت من تقريرية مباشرة إلى إيحائية قابلة للتأويل،حسب مقدرة كل متلق ومرجعياته وذوقه.
ثانيا: اللغة تتشكل من كلمات وجمل، تختلف قصرا وطولا تبعا للسياق، فهي هنا بين القصيرة والطويلة، كما يفرض التوزيع، وهذه الجمل تتعانق في ما بينها، لخلق الصورة سواء من الفعل أم من الاسم، لفسح المجال للتخييل، وهذا التخييل لا يتحول إلى طلاسم وألغاز، بل قريب الإدراك والتأويل، وفق تبئير يركز عليه الشاعر، ليصبح (شبيهي في التيه)، بمثابة حلم، يكون كابوسا أثناء انفعال الشاعر وتوتره، ولذيذا حين تنتقم القصيدة للشاعر، وتخفف أعباءه، والتركيز على المرآة لم يأت اعتباطا، بل تقصده الشاعر، لنرى كلنا وجوهنا في المرآة، لأن المرآة هنا تتحول إلى بلاغة مقتضى الحال صدقا أو كذبا حسب أحوال الطقس وأحوال النفس، لضمان شعرية النص، وتحقق دفئه، أو ارتعاشه، حسب غياب أو حضور أشعة الحقيقة! فالشاعر لا يملك من حطام الدنيا، سوى هذه اللغة، التي يسعى جاهدا لتكون جديدة ومنفردة حسب كل منجز شعري.
وفي مقالة سابقة، أردت فتح نقاش وحوار، حول المعجم اللغوي الشعري لمبدعي الشمال، لأن هذا العمل يحتاج لمجهود وصبر، ومؤازرة، وما زلت أحلم بذلك.
فالعنوان الموضوع لهذه المقاربة، لم يأت اعتباطا، وإنما يلخص عمق التجربة (خروج من الطين)، حيث الشاعر يلولب أشكاله من المادة الطينية أي اللغة، وينقص أو يزيد درجة الحرارة، تبعا للأشكال الدينية، إلى (رحم الأبدية) أي السعي للخلود بعد موت الجسد، والكتابة تحقق ذلك الخلود
لا أحد يمر من هنا
الكلمات تيبس في صحن الطين
أشباح الموتى تعمر المكان ص 5.
هكذا يتأسس أفق الحدس والخيال، ويلعب التضاد دوره في بعث الحركة، وخلق الشبيه، مابين الأنا والآخر(ين)، ما بين الوجود واللاوجود، أو بعبارة أوضح ما بين الشر والأخلاق السبينوزية، عكس نيتشه الذي كسر كل شيء، وأراد خلق الإعادة من جديد، ففقد أعصابه، عكس الشاعر (كيضرب ويقيس) بالمعنى الدارج، حتى في لحظات القلق والعنف، تحافظ اللغة على جماليتها، ولا تكسر الأواني الخزفية
هل حقا تولد الفراشات
من رحم الأبدية؟
تمشط الأرض برحيق أصابعي
ترشف عطر الكلام من رنين الريح
من اهتزاز السنابل
ومن سنا المطر
كي يكون لها عمر
ويكون لها وشم
وصدى نسيم
وذاكرة ص 5و6
هذا هو المنحى المميز لكتابات الشاعر عبد العزيز أمزيان، ففي رفوف التضاد، يحافظ على الأبعاد الجمالية، فهو في لحظات الغضب والقلق، يلجأ إلى الطبيعة، ليصوغ جمل المجاز، ليس بمعنى الهروب إلى الطبيعة، بشكل رومانسي، ولكن ليظفر منها باقات الجمال وشعريته! والخروج من المشابه (شبيه) والعودة إلى المختلف، حد الاختلاف عما سبق!


الكاتب : محمد عرش

  

بتاريخ : 12/12/2025