شحنة للتصدير

كتمتُ انفعالي.. كل شيء قابل للتصدير سوى ما يفيض من الانفعالات. احتفظ بانفعالاتك لنفسك أيها الفتى الغرّ.. بذلك خاطبني مذيع الأخبار وهو يتوعدني من وراء الشاشة.. واسترسل يحصي صادرات البلد.. شرع أولا بأعداد السيارات، وهي تتجرجر فوق سكة على عربات متسلسلة، تزحف نحو الميناء كثعبان لا ذيل له..
لكن الصباغات المختلفة، من الأسود والأبيض والأحمر والأرجواني والأصفر والرمادي.. لم تخف أثار العرق البادي للعيان، وكنت من الشهود الذين لا يُعتدُّ بهم في قضية تصدير العرق هذه.. واستمر المذيع متحذلقا في كلامه عن التصدير وفائدته، وماذا يعنيه ذلك، واعتبره مقياسا للنمو والحضارة!
من كل هذا، ما أثارني، ولفت انتباهي هي هذه القدرة الخارقة لسلع، مجرد سلع، تعبر الحدود، وتجوب الآفاق في عالم واسع.. لكنه، ضيق وشديد الانحباس بالنسبة لي أنا الكائن المجرد مِن أجنحة التحليق.. بدوري أريد استنشاق نسائم مختلفة، أن أجوب رحابة العالم، أن أعانق أحلامي في السفر، وأجعلها حقيقة تدب على الأرض..
ماذا عساني أفعل؟ وأنا لست مُعَدّا للتصدير كما قيل لي في رحبة المساومة، حيث وقفت بالسوق إلى جانب أكياس القمح والشعير والذرة.. ورغم انتقالي إلى البورصة وإشهار اسمي وصفتي ومواهبي وتخصصاتي على لوح اِلكتروني كبير، تعبره الكلمات بلون أحمر إلى جانب صورتي المعدلة بالفوطوشوب.. لم يقبل بي تاجر، ولم يسع مُصدِّرٌ لوضعي في علبة كارتونية مزينة بالرسوم.. كي أغري مستهلكا ينتظر في ربع عامر من العالم، وليس الربع الخالي مِن المشاعر، فاغرا فاه، أنيابه ظاهرة، مُستعدٌّ للالتهام كما يفعل مع حبات الفريز الأحمر أو البرتقال النيّئ.. سوى أن أحدهم اقترب مني، وحدّق في ما بين حاجبيّ، ربّت أولا على كتفي، حتى خلت نفسي أخيرا سلعة مقبولة للتصدير، ثم نزل بكل ثقله على رقبتي كأنه يجرب بغلا في سوق الأربعاء الأسبوعي. ولما رآني كدتُ أتهاوى، ضحك وانصرف..
تأكدت حينذاك أنني غير صالح للتصدير..
لكن تذكرت جارَتنا عائشة، الأرملة وأم أربعة أولاد.. فهي قابلة للتصدير، لكنه تصدير مؤقت.. ما أن ينتهي موسم الجني، حتى تعود أدراجَها مع أوبة اللقالق.. خلال الأعوام الأخيرة تقوس ظهرها قليلا.. لهذا تحرص على حصة تدليك أسبوعية بأقرب حمّام لمسكنها، لعلها تعود لسابق لياقتها قبل زمن التصدير.. إنهم يرغبون هناك في النساء، يَقَـدِّرون أنهن أكثر صبرا وتحملا، وكل واحدة تفكر في أبنائها الذين تركتهم خلفها ولم يحن بعدُ أوان تصديرهم..
إذا لم يقع تصديري، سأقوم بمبادرة لا سابق لها.. ولا قبِل لأحد بها.. فكرت في أكثر المواد تصديرا، والتي يمكنني رؤيتها ولمسها والتشبث بها، وحتى مرافقتها، دون إثارة حُراس أو كاميرات.. قلت مع نفسي، الخضر مثلا.. أو الفواكه، عليها طلب كبير، وهي دائمة الانتقال إلى الضفاف الأخرى، بعيدا، إلى هناك حيث يلتقي في ألفة نادرة الجليد مع الدفء البشري كما يتخيل لي دائما.. لكن، وجدت الضيعات محروسة ومسيّجة كأنها قلاع عسكرية.. ارتأيت أن أعترض هذه المنتوجات قبل فرزها وتصفيفها في علب أنيقة.. يصعب ذلك، الحراسة مشددة..
عرضت قوتي العضلية على مسيّر ضيعة كبيرة، كي يُشغلني.. على الأقل بذلك قد أداريهم جميعا، وأحشو جسمي بين الصناديق داخل حاوية مكيفة الهواء، وبعدها، تنتظرنا سفن ضخمة تمخر عباب البحر كما يقال في الروايات الرومانسية..
عليّ بالصبر وبعض الحيّل، قد أتوصل إلى منفذ .. لكن أول مُشرف تحدثت إليه، وجدته أشقر بعضلات مفتولة، خاطبني بلغة أجنبية فهمت منها القليل، امتنع عن تشغيلي، بحجة أنني ذكر، ولا يمكن إشراكي في أي اختلاء بالنساء تحت خيام البلاستيك.. تركني وولج مسرعا ذلك الغطاء الكبير الذي يمتد إلى ما لا نهاية، كأنه سماء أخرى بدون نجوم، لكنه واطئ يكاد يلامس الرؤوس.. جحيم مصغر بحرارته المرتفعة، هناك تقضي النسوة معظم النهار..
ألقيت نظرة على وَحْدَةِ الفرز والشحن، رأيت ركاما على جانب البناية مِن نفس الفواكه! اقتربت، فنادى عليّ حارس، وأشار إلى باب جانبي.. توجهت إليه، وجدت شخصا وراء مكتب وأمامه حاسوب وشاشة كبيرة تظهر عليها أرقام الأوزان.. انتبهت إلى مصدر حشرجة، فرأيت حزاما معلقا يدور في الهواء، يحمل فواكه من عمق البناية، ويلقي بها جانبا.. قال لي العامل، هل جئت للشراء؟ ولم يتركني أجيب، أضاف متسائلا، كم تريد من طن؟ سألته، أليست هذه للتصدير؟ ظهرت على محياه ابتسامة ماكرة، وأضاف، لا، هذه لا تصلح، الجيد منها ما يُصدر..
أعلنتُ عن تضامني مع هذا الصنف من الفواكه الذي يشبهني، ليس لها أي حظ في التصدير.. سألني العامل عما قلته، يبدو أن الضجيج جعله غير قادر على سماع كلامي.. ودعته بإشارة بيدي تشبه التحية العسكرية، وغادرت المكان..
في نفس اللحظة خطرت في بالي فكرة عبقرية.. سأزور إحدى مناطق استخراج الفوسفاط، بأي مكان بربوع البلد بعيدا عن الحراس، وما لم تصله بعد الجرافات، هناك بالهواء الطلق، سأتبول بكل حرية، وبذلك على الأقل سيتصدّر بولي إلى الخارج ضمن شحنة فوسفاطية..


الكاتب : مصطفى لمودن

  

بتاريخ : 07/07/2023