شحنٌ ذهني، وسَيِّدُ الخَدَمِ «أنستغرام» ..«مجتمع اللاَّتلامُسَ: سيلفي لعالم آيل للانهيار» لفرانسوا سالتييل -8-

 

إهداء
إلى مايا، صولال، ونوح :
أَبدًا، لاتَنْسُوا أَنْ تَظَلُّوا
بأعْيُنٍ مُتَطَلِّعةٍ، و أيَادٍ مَمْدُودَةٍ.

مقدمة
لَوْ كانَ بحوزةِ راكِبِي “تَيْتَانِيك” “هواتفُ ذكيةٌ / SMARTPHONES”، كَمْ كانَ سَيَبْلُغ عَدَدُ الَّذين سينْساقُونَ وراءَ إغْرَاءِ الْتِقاطِ سيلفيّ، رُفْقَةَ الأوركستر البُطوليّ، الَّذي ظلَّ يُواصلُ العزفَ حتَّى لحظةِ الغَرَقِ؟
يتعين الاعتراف، أنَّه لَمِنَ السَّهلِ والمُريحِ مؤاخذةُ الآخرين، على تعاطيهم مواقعَ التَّواصل الاجتماعيّ، مِنَ السَّهل والمريح، الاستخفافُ بهذا القطيعِ الرقميِّ المُنْسَاق، الَّذي يُتابِعُ مُنْقَاداً، «الطُّوندوس»، والمقاطعَ الَّتي تَتَصَدَّرُ قائمةَ المشاهَدات، كَمَا يَسْهُلُ أيضاً، إلقاءَ اللَّوم على هذا المصوِّر السُويْدِي، الَّذي تَجَاوَزَهُ التَّألُّقَ الرقميّ لشجرةِ البروكولي الخاصَّةِ به. أنا أيضاً، مَدينٌ لكم ببعضِ الأسرارِ الَّتي ستَعثُر على أصدائها لديكم، إنْ كنتم من مُناصري «الستوريات/Stories “.
اقترحَ موقعُ التَّواصل الإجتماعيّ “أنستغرام”، منذ سنة 2016، وظيفةَ “ستوري” الَّتي استوْحاها مباشرةً مِنْ مُنَافِسِه، تطبيق “ سناب-شات “. يتعلَّق الأمر بنشراتٍ قصيرةٍ مَنْذُورَةٍ لِلَمَحْوِ، خلال 24 ساعة، تَحُثُّ المُسْتَخْدِمَ على حَكْيِّ لحظاتٍ من حياتِه، في حين أن المُتَلقِّي – وقد صَعَّدَت هذه المحتويات المؤقَّتَة حِسَّ التَلَصُّصِ وَسُعَار الاستِخْدَامِ لَدَيْهِ – يَكُونَ مَدْعوّا لأن يتَّصل بالمِنَصَّة، كُلَّمَا كان ذلك مُمْكِناً، إن كان يرغب في ألَّا يُفَوِّتَ عليه أيّ شيءٍ.
لنستحضر مِثَالاً : أثناءَ ذهابي في إجازة، أو خلال عطلة نهاية الأسبوع، أرفعُ الصورة الكلاسيكيَّة لِجَدْوَلِ الرَّحَلَاتِ الجوِّية، الَّتي تَعني أنَّنا ذاهبون إلى “الأخضر/البحر”، کلیشي مُبْتَذَل، يُؤَمِّن تعاقداً لاَوَاعِيًّا مع المجموعةِ الصَّغيرة لِمُتَابِعِي، أَشْرَعُ في مَحْكِيٍّ افتراضيٍّ.
إنَّه عَرْضٌ لعطلة نهاية الأسبوع، ذلك أنَّه ما الفائِدة من نَشْرِ هذه الصورة الأولى للمطار، إنْ لَمْ تَكُنْ ثَمَّةَ أُخرى لِعرض الوصول إلى هذه الوُجْهة المشمسة؟ وإذَا لم تَكُنِ الشَّمْسُ في الموعد، فإنَّني سأنتظرُ انْقِشَاعَةً، لكي أَنْشُرَ فوراً، اللَّقطة الثَّانية. يكاد يُجْبِرُنِي هذا الانتظار المفترض، لأصدقاءَ فضوليِّين يُتَابِعُونَنِي، على الإِدْلاَءِ بشهادةٍ ، ذلك، أنَّه بماذا سَيُفَكِّرُونَ إنْ أَنَا لَمْ أَنْشُرَ شيئاً؟ أَنَّ شُقَّتِي المُسْتَأْجَرَة، لا تستحقُّ أنْ تُنْشَرَ على “أنستغرام”؟ أَنَّ هذه الإقامة تجري على غيرِ ما يرام؟ هكذا، أَجِدُ نفسي في مواجهةِ “شَحْنٍ ذِهْنِيّ” جدیدٌ يُلاَزِمُ رَحَلاَتِي.
يبدو طبعاً، أَنَّنِي أُباَلِغُ هنا، لكنْ، لنتأمَّلِ الوقتَ الَّذي نقضيهِ في تَصَوُّرِ الصورة المثالية، صورةُ غروبٍ يُضيئُ وجهاً، صورةُ كوكتيل تُعْلِنُ بدايةَ العطلة، أو تلك الخاصَّة بفنَّانٍ مُفَضَّلٍ لَدَيْنَا، داخل حفلٍ، نمضي خِلاله مزيداً من الوقت، في الْتِقَاطِ صورٍ لَهُ، أكثرَ مِمَّا نَسْتَمْتِع بأغنيتنا الأثيرة، هذا ناهيكَ عن صورِ هذه الأطباقِ الصَّغيرةِ، الجيِّدةِ، السَّاخنة، والَّتي خِتَاماً بعد عَرْضِهَا، تُصْبِحُ باردةً. يأتي بعدئذٍ، الوقت الَّذي نستهلكُهُ في تَصَفُّحِ “اللَّايكات”، لمعرفةِ في ما إذا كانت هذه البطاقاتُ البريديَّةُ للسَّعادة، قَدْ أَقْنَعَتِ المجموعة. كلُّ هذا الإهتمامِ المُنْصَبِّ على النَّشْرِ، يُمَثِّلُ قدْراً من اللَّحظاتِ الَّتي تُفْتَقَدُ على صعيدِ الرَّاحة الذِّهنية، حضورُ “السمارتفون” داخلَ المجالِ الحَميميّ، يُشَكِّلُ شاشةً، حجاباً يَضَعُ بالضَّرُورَةِ الواقعَ على مسافةٍ مِنَّا، والدَّفْعَ بهذا السُّلُوكِ، في العَرْضِ، إلى أقصى الحُدُودِ، يعطي انطباعاً خادعاً بأنَّ لحظاتِ سعادتِنَا ما كانت لِتُوجَدَ لو لَمْ تَكُنْ منشورةً.
بالنِّسبة إلى “سيرج تيسرون/ Serge Tisseron”، أخصَّائيِ التَّحليلِ النَّفْسِي، تُعَزِّزُ مواقعُ التَّواصلِ الإجتماعيِّ رغبةَ اللاَّحَمِيمِيَةَ لَدَيْنَا /Désir D’extimité، سواءٌ تَعَلَّقَ الأمر، بنشرِ محتوياتٍ كانت، حتَّى الآن، غَيْرَ مَرْئِيَّةً، أو مُنحصرة داخلَ المجالِ الخاصّ. فإذا كان النَّاسُ يرغبونَ في إظهارِ بعضِ الأجزاءِ من حياتهمْ، فَلِكَيْ يَتَمَلَّكُوهَا جَيِّداً، عَبْرَ اسْتِبْطَانِهَا، على نحوٍ آخرَ، بفضل ما يَتْلُوهَا مِنْ تبادلاتٍ مع أقاربِهِم “، لا ينْبغي الخَلْط بين “اللاَّحَمِيمِيَة”، “L’extimité”، كَمَا تَتَوَلَّدُ داخِلَ الرَّقْمِيّ، وبين «الإسْتِعْرَاءْ/ L’exhibitionnisme”، بما هو عَرَضٌ مَرَضِيٌّ وطقسٌ غَيْرَ سَوِيّ. تُسْهِمُ «اللَّاحَمِيمِيَّة» في بناءِ تقديرِ الذَّات بِفَضْلِ الاعترافِ بها، أوتبريزِ الأَقْرَانِ لهَا. بحثٌ عَنِ الذَّات على قَدْرٍ مِنَ الحَسَاسِيَة، خصوصاً، خلالَ مرحلةِ المراهقةِ، حيث تَنْبَنِي الهُوِيَّة.
من الآنِ وصاعداً، كَمَا يُذَكِّرْ بذلك، أَخِصَّائِيُّ التَّحليلِ النَّفْسِيّ، سَأَسْتَفْسِر أكثر؛ إِتِّقَادَ اللاَّحَمِيمِيَة. أَتَحْتَاجُ هذه اللَّحظةُ فعلاً، لِأَنْ تَكونَ موضوع تقاسمٍ؟ سأُبْقِي إِذَنْ، في هذا الجوابِ، على هاتفي “الذَّكيّ” داخلَ جَیْبِي، و أنا في تمامِ الانْدِهَاشِ بعيْنَينِ مِلْؤُهُمَا الجُحُوظ.
لاَحَظَّ، لِكَيْ نتحرَّرَ مِنْ هذا الضَّغْطِ، أصبح اليومُ، مُمْكِناً العودة إلى سيِّدِ الخَدَمِ “أنستغرام”. لا يتعلَّق الأمر هنا، بإفتراءٍ، ولكن، بِعَرْضٍ حقيقيٍّ قَدَّمَتْهُ المجموعة الفُنْدُقِيَّة “ Accor “ بسويسرا، حيث يُمْكِنُ للزُّبَنَاء العودةَ إلى خدماتِ “حاضنةِ الوسائطِ الاجتماعيّة /Social Media Sitter”، بما هي خَيَارٌ مُسَاعدٌ في مواقعِ التَّواصلِ الاجتماعيّ.
إنَّ المبدأَ في هذا التَّطبيقِ بسيطٌ : الَّذين انْتَقـُوا خَيَارَ “اسْتَرْخِ، نَحْنُ نَنْشُرُ/ Relax we post”، يعهَدونَ بكلمةِ المرورِ الخاصَّة بحساباتِهم، إلى شخصٍ آخرَ يتولَّى النشر نيابة عنهم، فيما بإمكانهم أن يقوموا، بأشياءَ أُخرى. هذا “المؤَثِّر / Influenceur”، الَّذي يَعْرِفُ المدينةَ عن ظَهْرِ قَلْبٍ، سيَقوم بجولةٍ داخلَ مطاعمٍ آخِرَ طِرازٍ، وفي المَواقِع المذهلة، وبنزهاتٍ ثقافيَّةٍ – منشوراتٌ، طبعاً، يَتِمُّ التَّوَافُقُ بشأنها سَلفاً، مع الزُّبناء الَّذين يُحَدِّدُونَ أُسْلُوباً لِلنَّشْرِ – تلك هي الذَّريعةُ الحديثةُ، المقترحة من طرفِ هذا الفُنْدُقِ، حتَّى نتمكَّنَ مِنَ الاستمتاعِ بعطلةِ نهايةِ الأسبوع، مع بقائنا مرئيِّين، ورَهنَ إشارةِ المجموعة. أُقِرُّ أنَّ المدمنين وحدهُم، يُمْكِنُهُمُ العودةَ إلى هذه الخِدْمَةِ المختلفةِ جِدًّا، والَّتي تَبْقَى واحدًة من أعراضِ الانحطاطِ الخاصِّ بمجتمعِ اللاَّتَلاَمُسَ. حينما تَدْفَعُ ضرورةُ نَسْجِ اتِّصالٍ مع المجموعة، “ المؤَثِّرين “ إلى جعلِ هذا الاتِّصال أُكْذُوبَةً.


الكاتب : محمد الشنقيطي/ عبد الإله الهادفي

  

بتاريخ : 06/09/2023