يصعب تجنيس هذا النوع من الكتابة لما تحمله من دلالات وإحالات رمزية على واقع استمد وجوده من تراكمات مرئية هلامية، انتقلت من فعل غير ملموس لما احتوى عليه من تشكلات متحت من الخيال، لفعل مرئي كان للأبيض والعتمة حضور جمالي في بعده الأيقوني.
إن الأشكال بمداخلها ومخارجها في التجربة التشكيلية الأخيرة للفنان عبد الله بلعباس لا تهادن، لأن أبوابها مشرعة على تعدد الزوايا والرؤى، مما يفسح المجال لعملية تأويلية معقدة تجنح بالمتلقي لاستهامات لانهائية، مما أكسب عمل الفنان نفحة قدسية بالمفهوم الوجودي.
عندما تجتمع العبارة بالمعنى، تجعل من سياق التعبير بؤرة للتساؤل عن ماهية الصيغة الإجمالية لمضمون الدلالة في مغزاها الشمولي، فيصبح التأويل سيد الموقف. بمعنى أن التأويل هو ما يتفرع عن مشتقات مفاهيمية تحدث الانسياب أو الانسداد، وهنا تكمن أهميته ومدى صلاحية التأويل في بعده الهادف لما فيه خير الدلالة القريبة من المعنى الحقيقي لمغزى التعبير.
غالبا ما تكون القصيدة تابعة لمغزى النص المرئي كما هو عليه الحال في علاقة الكلمة بالصورة، والعكس صحيح، وهي علاقة أزلية، توطدت منذ البدايات الجنينية لزواج هذين العنصرين، لأجل تشكل تجانس وتكامل بين الجنسين، شريطة أن يحتفظ كل منهما بخاصيته وتفرده على مستوى التعبير والدلالة.
حقيقة أن التشكيل عمل مرئي يعتمد أكثر على ما هو ملموس، لكن الشعر هو عمل يعتمد على الحس مع مراعاة شرط التأويل بتعدد مناحيه، وفي بعض الأحيان قد يقع انزياحا معنويا وآخر تعبيريا قد يجعل من الكلمة والصورة معا سندا لتقاطع فرضته طبيعة الموضوع المطروح.
في حالة تجربة الفنان عبد الله بلعباس، فإن الشذرة اتخذت أبعادا مختلفة لما اختزنته القصيدة بمفهومها التقليدي، حيث تحول المعنى لصور بلاغية لا تخلو من بعد ميتافيزيقي يمتح من الأفكار في أقل عدد ممكن من الألفاظ، وكما قيل على أنه كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة، فإن النفري أشار إلى نفس المعنى بقوله “الكلمات تعجز عن الإحاطة بمكنون الروح”، وهذا هو بيت القصيد في تجربة الفنان عبد الله بالعباس، الذي استطاع أن يسمو بالروح في تجربته من المرئي الملموس والمحسوس لما هو لاهوتي يرقى بكل الحواس من درجة الإدراك لمنتهى السريرة، مما أكسب عمله بعدا تشكيليا اختزل فيه الأسود والأبيض بمضمونهما القدسيين، باعتبارهما أصل الكون، وامتدادا لكل الألوان الإضافية بكل تفرعاتها الكروماتيكية.
إن ما ضمن استمرارية التجربة الفنية للتشكيلي عبد الله بلعباس، هو صراعه الأبدي، وعدم مهادنته مع السائد والمبتذل، وبحثه الدائم عن منافذ إبداعية مغايرة، تتجاوز المألوف والمتداول، لأجل الغوص في مكنونات خبايا تلك الشذرات المتبقية مما اختزنته ذاكرته وجمعته كموروث تاريخي كان ينتظر الإفصاح عنه.
وهكذا استطاع هذا الفنان المهووس بقضايا عصره، ثقافيا وسياسا واجتماعيا وروحيا… أن يسجل مكانته منذ زمن بعيد، امتدادا لأزمنة مؤجلة استطاع أن يفرز منها، باقة من الأمثلة التعبيرية والروحية التي ضمَّنها في هذه الشذرات.