على سبيل البدء
مما لا مشاحة فيه أن الرواية العربية مازالت تبحث لنفسها عن صيغ وقوالب تسعفها في إبلاغ رسائلها، وعن أشكال كفيلة بتجسيد مراميها، وإذا كان الشعر العربي الحديث قد استطاع أن يبني خطابا ثوريا جديدا في نظمه وهياكله بعد حدوث متغيرات إبيستيمية وأدبية وسياسية على إثر هزيمة 1948، فإن الرواية العربية قد تمكنت من أن تنقلب على النمط المسيطر في شخص أنواعها الكلاسيكية وتنتج أنماطا مختلفة من المنجز السردي المتحرر المتوتب، ما دامت قد مرت بمراحل كبرى، يسميها الناقد محمد برادة لحظات ويقسمها إلى: التجنيس والإنتساب – الرومانيسك في مرآة الرواية، ثم الكينونة المتكلمة والبحث عن أشكال جديدة (1).
تبدأ الأولى من (1870) وتنتهي كرديف للتسلية مع بداية الأربعينيات من القرن الماضي، وتنطلق الثانية خلال هذا العقد إبان تبلور التصنيفات الإجتماعية وتطور منطق التأثر بالغرب إلى نهاية الستينيات، وأما الأخيرة فتعلن عن ميلادها بقوة منذ النكسة (1967)، وبعد”تراجع قوى التقدم، واستفحال القمع والحكم الفردي، وانتشار الطائفية والتعصب الظلامي، وتحجيم الأنظمة للثورة الفلسطينية..” (2).
هكذا حدثت الرجة القوية والمدوية، بل والمزلزلة والتي هزت الكيان العربي وأصابت ركائزه بالهدم، وقواعده بالتقويض والاضمحلال ، وأسقطت عديد المسلمات التي عمرت طويلا وجعلت الإنسان العربي يتطلع إلى الغد المأمول، ويستشرف المستقبل المطلوب، فشيدت نصا مستعصيا عن التجنيس والخندقة، محطِّما الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية، ومشيدا التداخل الواعي والمؤسَّس بين أشكالها وفنونها وأنواعها.
وضع جديد مقلق مربك دفع بالنقد المواكب ليتابع ويواكب الإنتاج الجديد، ويجهد في أن يبلور الآليات الكفيلة بتحليله، وكذا العدة المفاهيمية المناسبة لدراسته ونقله إلى القارئ، ليمكنه من امتلاك أدوات فهم مضامينه وإدراك أهدافه ورسائله الظاهرة والخفية، وتفكيك مستوياته الدلالية والأسلوبية والتركيبية.
فكما تخلى الأول عن خصائصه وثوابته التقليدية بين الرواية: التاريخية، والرومانسية، والواقعية والتعليمية وغيرها، فإن الثاني بدوره نفض عنه غبار مخلفات صرامة وتطرف تحديداته الأكاديمية، وتخلص من إسار وشرنقة ضوابطه المنهجية، التي ظلت تمتح من حقول معرفية فلسفية بالأساس الأول، بما وفرته من دعامات لا تستسيغ الخروج عن محددات علم النفس، وعلم الإجتماع، والأنتروبولوجيا والتاريخ، واللسانيات، ووو، ما حدا بعلم الأدب لأن يواصل رحلته متنقلا بمناهجه بين محطات كالتأثرية، أو الإنطباعية، وسوسيولوجيا الأدب، والتاريخية، والنفسية، والشكلانية، والبنيوية، والبنيوية التكوينية، والسيميولوجية وو، ليرتاد بمقولاته ومفاهيمه مجالا أرحب وأوسع.
من هنا امتلك المؤِلف حسا خاصا مكنه من أن يتجاوب مع الأشكال الجديدة ويتفاعل مع متطلبات المرحلة: الفنية والإبداعية والجمالية والذوقية، وهو أمر أدرك كنهه وتمثل مراميه حسن إغلان باعتباره أحد كتاب السرد النوعي، تأتى له ما تأتى من سبل الإطلاع والنهل مما توفر هذا الجنس الأدبي من حساسيات وأنماط تعبيرية، فأخذ منذ زمن بعيد ينهل من معين حكمتها الذي لا ينضب، وهو إلى ذلك متشبع بما أنجزته الرواية وأفضت إليه من تيارات وتوجهات عربية وغربية على السواء، بعد أن انفتح على إيديولوجيات، وفلسفات، وحضارات، ووو، تتصل جميعها بالأديان والأساطير والثقافات، وتستند إلى المجتمع والفكر والعلوم ، تعلن عن نفسها الفرادة والتميز.
العنوان
إن عتبة العنوان تقف علامة تدفع بدوالها ومدلولاتها لأن تحيل على تحديد نوعية النص ومضامينه، حتى يتسنى للقارئ ربط حوار خفي مع ما سيلاقيه ويعثر عليه بالثنايا والدواخل، ويبعث مبدأ الاحتمال من مخبئه، في ما يتصل بأفق انتظاره، يعد العدة اللازمة من أجل كشف التشكلات الدلالية الكامنة فهي من المِشيرات الرئيسة إلى جانب المِؤلف والهيكل العام لتمظهر النص وتحققه، العتمات جمع العتمة، وهي أسم معرف لنكرة: عتمة، وتعني الثلث الأول من الليل، كما تفيد الإبطاء والتأخر، حسب ما ورد في معجم الرائد.
فمن هي هذه سيدة العتمات؟ وما هي مواصفاتها؟ وأين تتموضع حيال هذه العتمات؟ وما طبيعة العلاقات التي تنسجها في تفاعلها مع منطق الحكاية؟ وووو.
“العنوان عبارة اختزالية تنطوي على قيمة دلالية تعكس بصورة غير مباشرة الغرض الدلالي للسارد من سرده مجموعة من الأخبار” (3).
تظل علاقة العنوان التداولية بالنص ملتبسة، على أنه يشد المحكيات غير المعنونة، والمكتفية بأرقام فقط، والبالغ عددها ستة فصول، ويحيل على تشكيل أفضيتها بما يطبعها من إختلاف وتنوع وتعدد، وهي على عكس مجموعته القصصية : ” كتاب الألسنة” التي اتخدت من العلامة اللسانية: “لسان” بؤرتها المؤسسة والبانية، إذ انبنت على أساس عناوين فرعية : ” لسان مبتور”، “لسان جدي”، لسان السي رير”، ” لسان بوش” ، ” لسان الفارس” لسان السي أحمد” ” لسان كيليطو” لسان القديس فيليو”. بينما يتناسل حضور السيدة في ثنايا الكتاب بما قد يشي بكونها عصب القصة ومحورها الأساس، وهي تبوح، تتساءل، تحكي تثور، تفضح، تعلق، ترشد، توجه..
“سيدة العتمات” عنوان الرواية الأخيرة لحسن إغلان صدرت طبعتها الأولى عن دار (سليكي إخوان) سنة: 2017، تقع في مئة وسبع صفحات من الحجم المتوسط، تقدم موضوعا إجتماعيا فحواه الركض وراء القبض على لحظة من اللحظات الإنسانية، حيث يتسنى إدراك المبتغى والطموح وكشف لعبة الوهم والحقيقة، أثناء تجاور الممكن والمستحيل من مرايا الذات الإنسانية، عبر قصة/ حكاية بطل إشكالي على حد تعبير (لوكاتش)، يلهت وهو يطاوع الحكاية وتطاوعه لكي يتمكن من كتابة تقرير صحفي.
الأدب والفلسفة
إن المتتبع لمسار الأدب العربي ومنه المغربي على الخصوص ليلحظ ذالك التعالق المنتج والهادف بين حقلين مختلفين مؤتلفين : الفلسفة، والرواية، ذلك ما يفضي إلى إبداع سرد مفعم بروح القلق الوجودي والتأمل العميق في القيم والموجودات على حد سواء، الأمر الذي ساعد المبدع على أن ينضد الأفكار والآراء، ويصبها في قوالب فنية ما فتئت تسعفه في نشر مقاصده وخطاباته، بدرجة تشرَّب معها الفيلسوف هذا الشكل أو الجنس باعتباره ” بنية فنية، ومركبة، وبعيدة الإمتداد والتشعب إلى حقول مرجعية اجتماعية وتاريخية، وثقافية أخرى، تغذيها وتسهم في تشكيلها” (4).
توسل حسن إغلان هذا الحقل المعرفي أسوة ببعض المؤلفين على امتداد ذاك التاريخ الطويل من التجاذب والتلازم، وهو يجهد على الدوام في القبض على الحقيقة، وضبط إيقاع الحياة الإنسانية، لاستنباط أسرار الكينونة، والوجود الإنساني، بما يختزنه من متطلبات السمو والسعادة.
في التراث ثمة أدباء ونقاد ولغويون، اهتموا بالفلسفة وجذبتهم إمكانياتها الهائلة، واستعانوا بأطاريحها ومناهجها: بشار بن برد، المتنبي، أبو تمام، المعري، الجاحظ، ابن المقفع، ابن طفيل، الباقلاني، عبد القاهر الجرجاني، سيبويه، أبو الأسود الدؤلي،،،،في حين تاثر فلاسفة كثر بالأدب باعتباره صياغة فنية لكل تجربة إنسانية، فتمثلوا قوالبه وصيغه في تأسيس لما نسميه : الأدب الفلسفي، مع محمد بن زكريا الرازي، الحسين بن عبد الله بن سينا، محمد بن عمر الفخر الرازي، يعقوب بن إسحاق الكندي،،،،، يستمر هذا الإختيارويتم توطيد دعائمه، وإرساء ركائزه في العصر الحديث، لتصادفنا أسماء كثيرة: نجيب محفوظ، محمد زفزاف، ميلودي شغموم، عبد الكبير الخطيبي، مبارك ربيع محمد برادة، عبد الإله حبيبي..
تتناسل المقولات الفلسفية وتؤثث صرح عديد المتواليات السردية وتشكلها بمزيد من الخلخلة اللازمة على مستوى تجاور الوحدات السردية وترابطها وتماسك معطياتها ب “سيدة العتمات”، فيصير النسيج الحكائي فسيفساء من المفاهيم والمصطلحات تكاد تخرج بنا أحيانا عن أجواء السرد وتبعدنا عن دائرته لولا فطنة القاص وقدرته الفائقة على تطويع متن القصة بما يستدعيه ظرف البوح، وما يستلطفه مقام الإحتجاج، ليفصح عن قريحة فذة، وموهبة خارقة في النسج والتوليف، مقدرة زودتها قراءاته الواسعة في الموروث العربي ( الفكر الإسلامي، القرآن الكريم، الشعر العربي، النثر الفني،،،) والغربي ( فلسفة إغريقية، ومنطق، وفلسفة، وعلم الإجتماع، علم النفس، الأنتربولوجيا،،،،،) فكرا وإبداعا ونقدا، ما أهله لأن يربط فعل الكتابة بالكينونة كما ترد عند هايدغر، وينحو بها نحو تجاوز فعل التشخيص المبتذل للزمن والتاريخ والمكان، لتتمكن من تناول الذات في ارتباطاتها الظاهرة والخفية وفي ما يلحقها ويصيبها من تأثير وتأثر، بالمسائل والظواهر والقضايا كذلك. في أفق تشكيل لغزية الإبداع الأدبي.
إلى ذلك تظهر شخصية القاص الفيلسوف بفضل حضور مناهج الاستدلال والبرهنة والتفسير والشرح والتوضيح وغيرها، مما يتطلبه الدرس الفلسفي من استحضار العلل وشروط التعليل (التحليل، التأويل، التفسير ص 73 ) ( أوضح، 55 لأوضح المسألة ص 12 ) ( أعني ص 54) ( السؤال، نتائج، الفرق، فسرت 41 الممكن، الأسئلة ، يوضح، البحث ص 49-50- 51 )
إن المضمون الفكري المفعم بحساسية الدرس الفلسفي، قد دفع بالكاتب من زاوية وقوفه منشغلا بهذا الحقل المعرفي لأن يبني التصورات ويستدل على صحتها ويتبنى الصيغ والأساليب الاستدلالية، معللا الأحكام والاستنتاجات في نسق من الحجاج المحكم الذي يربط الأسباب بالنتائج.
لذا ألفينا الأحداث والوقائع وقد أتت منسجمة مترابطة يفضي بعضها إلى بعض بطريقة لا تحسس بأدنى تفكك أو ترهل يذكر، بغاية تحليل وقراءة المفاهيم والإشكالات، وهو أمريدفع بالقارئ لأن ينخرط في مشروع يثير إشكالية المعرفة، والتي وعلى امتداد النص تتداخل ومبحثي الوجود وكذا القيم، وبذلك يكون المبدع مقدما لهذه المباحث الفلسفية الكبرى وقد استقى هذا النهج من مبدإ تلازمها جميعها لتشكيل الوعي المطلوب باللاوعي المتخيل ص:42،43، 61، ، 73، 74،75 لعله يقدم فهما جديدا من شأنه أن يعيد الإعتبار للهامش والمهمش، والمنسي والمقموع، والذاكرة والخرافة، ووو …
التيمات السردية
يتصل بما ذكرنا سالفا اهتمام الكاتب وعنايته ببسط ما يختلج في دواخله ويمور بذهنه من تيمات مفعمة بوازع قوي من نوازع النفس البشرية اتجاه الحياة والكون والطبيعة، فتبوح هذه النفس بأسرارها الكاشفة لفهم، لا زال يتكون ويتشكل في ثنايا المغارات والكهوف والهامش، “إذن، هنا يصبح الحوار، في الكتابة، هو أن كل كلمة وكل صورة تحيلانك على شيء من الحقيقة. ولذلك…يلجأ الكتَّاب إلى نوع من المجاز ونوع من الاستعارة ..حتى لا يبدو كلامهم سخيفا ودون الحقيقة.” (5).
تمر بنا الحقيقة كمطلب مشروع من المطالب الحياتية، وتحضر في أشكال مختلفة، منها ما يرتبط بالذوات السردية (الراوي، عقا، سيدة الأحباب،،،) أو بما تستدعيه التيمات من عوالم (العتمة، الحكاية، الحقيقة ذاتها،،،،) وتِؤثت فضاءاتها ، لتتأسس مستدعية معطى المعرفة( ص: 36 ،37 ،38 ، 39، 40، 56 ، 59،،،،) من خلال امتلاك مستلزمات الإدراك، والوصول إلى مخبَّآت الوعي في إتجاه الأنا، كما في إتجاه الآخر على اختلافه وتعدده،: (أنا السيدة المقدسة…أنا بألاف التوقيعات، والذي يعرفني يعرف الجنة…) (الرواية، ص: 37) ( سميت نفسي عقا..لا أعرف نفسي إلا من خلال كهفها المليء بأعواد القصب وماء الناس الأصفر، وتعاويد الشيطان.) (الرواية، ص: 8).
يتجسد التناول كمعطى ضروري لإدراك كنه الوجود الإنساني برمته، ومنه ينطلق الفرد بما يحمله من تصورات لبلورة قناعاته الخاصة كخلفية مركزية تؤهله لأن يتعاطى التعاطي الإيجابي مع الإكراه اليومي، ويتفاعل التفاعل المنشود مع القلق الوجودي، بغية إيجاد حلول مناسبة لما يعترض من أسئلة وإشكالات. يقول محمد برادة : ” النص الأدبي ينتج معرفة….وهي معرفة نسبية ولكنها معرفة تستكمل وجودها أو تأثيرها من خلال معرفة القارئ” (6).
تطمح الرواية إذن إلى أن تخلخل المفاهيم، وتدفع باللايقين ليعوض اليقينيات المتوارثة بفعل التواضع أو الإتفاق اللغوي، مما ورَّثَتْه العادة ورَسَّخَتْه الألفة، لتبعث على خلق جو من الإرتباك والقلق بفضل الجرأة التي توسلها الكاتب حين يعرض مواقف وتصورات كثمرة لتأملات طويلة وعميقة في الماهيات والحدود، ما أفضى إلى إلغاء الحواجز ونفي كل بواعث الضبط والوثوقية.
لمنطق الحكاية وقع خاص في وجدان القاص ومَخيلَتِه، ما أهله لأن يُهَيْكِلَ المتن الحكائي ويُقيمَهُ على أساس وشائج وصلات بات يربطها بما لا يدع مجالا للشك بين هياكل القصة ولبناتها الرئيسة، فتناسلت الحكاية، وانفتحت على عوالمها، وتداخلت في ما بينها، فالحبكة القصصية لا تستقر على حال ولا تثبت على هيئة، فهي متبدلة متحركة تلهت وراء خيط ناظم لتشَاكًل أركانها وتثبيت عناصرها، فلقد أسعف هذا المعطى الرواية في بعث صورة سردية هلامية، تتجاذبها ثنائية الارتباط بالواقع، والانفصال عنه، في الوقت الذي تقلصت فيه المسافات بين الفضاءات الروائية، وتعددت الأصوات، وانفلتت الحبكة القصصية، وخرجت عن خطيتها المعهودة بين البداية والوسط والنهاية. وتداخلت الأزمنة، وتفاعلت القوى الفاعلة تفاعلا يجمع بين الصوفي والعجائبي.وووو.
حكاية تستدعي أخرى وتنفتح عليها، حكاية الراوي الذي يجهد في أن يتحكم في النسيح والنظام الحكائي، وهو يحكي حكايته مع سيدة الأحباب، مع سيدة الجبل ، مع المريدين ، مع عقا ،،، مذكرا بين الحين والآخر بالمهمة التي تكلف بها، وهي إعداد تقرير صحفي حول الإبن الذي مسه عقا ففقد عقله وأصيب بالمس- (ص: 89)، يستهويه هذا العالم المفعم بالاثارة والتشويق ويرغب في أن يستزيد من معينه، حتى تأتيه حكايات تحاصره وتوجهه باتجاه استكمال تحقيقه حول الشيخ عقا ، وهي ليست بالجانبية أو الثانوية، بل إنها تساعد في تتبع مصائر الشخصيات أو تفسير الحالات وتقديم الوضعيات.
وهي عضوية مشتتة ملتبسة شاردة، تتفاعل مع غيرها ومثيلاتها في كحكاية كتو الفتاة القروية التي تقع فريسة لنزوات أبي الضيوف، وحكاية الخليجي الآتي من بلاد الإيمان والتقوى، وحكاية الكوميسير، وحكاية الفقيه الذي يتظاهر بالتقوى ويلهو بفتاة صغيرة يمارس عليها الرذيلة، وحكاية ابن طامو المناضل، والتي يقول عنها الراوي:” جميلة حكاية ابن طامو، ولكن كيف تقنعنا الحكاية هل في الرغبة في الحكي؟ أم هي تراتيل الأحلام …” الرواية ص (64-65)، وأيضا حكاية أم عدي وهي تحمل ابنها وترحل به لدى الفقهاء للعلاج من الجنون، وحكاية ابن الفلاح الذي حبسه الشيخ عقا لما رفض الامتثال لفروض الطاعة والتبعية التي يفرضها الشيخ على الأتباع. وكذا حكاية الشيخ عقا الكوامانجي، الذي حيكت حوله العديد من الخرافات، كل ذلك في صورة: “الحكاية التي بدأت من الشهوة لتنتهي إليها” (الرواية، ص: 98)
يكون التجريب الذي أعلن نفسه ميزة لأغلب النصوص السردية المغربية إبان السبعينيات كما ورد عند أحمد المديني في: “زمن بين الولادة والحلم “بما ينشده من سبل التلاقح مع الرواية الجديدة بفرنسا وما وفرته من تقنيات وخصائص، مع روادها أمثال: ألان روب غريي، ناتالي ساروت، جون بويون و..قد أثمر في ما بعد أنماطا من الرواية على قلتها تستدعي المكون الحكائي وتجعله لبنة من لبنات تأسيس رهاناتها وخطاباتها السردية.يقول الأستاذ الناقد: الحبيب الدايم ربي :” لكن الجديد في حكاية الرواية المغربية هو أنها وجدت باستمرار عينة من الكتاب الذين يشغلهم الإنكباب أكثر من الكتابة، ومحاكاة الحكاية للواقع لا محاكاتها للمسبقات النظرية” (7).
لم يكتف المتكلم بإيراد هذا المكون السردي بل بحث في جدوى تبنيه وكذا طريقة تنظيم متوالياته ومقاطعه حتى يحقق ما أريد له من أهداف وغايات، فيتحول بنا إلى النقد أو نظرية الأدب حيث ينطلق من تصور خاص يتبرم من المسلمات النقدية الثابتة كآليات منهاجية جامدة، تروم تقييم العمل الأدبي والحكم عليه بما قد لا يتناسب ومرجعيات المبدع وقناعاته الفنية عموما. ولعله هاهنا يدفع نحو تبني قراءة عاشقة كما “هي نابعة من إلمام عميق بهذه المناهج، وبوعي عميق بالفلسفة التي تحكم منطلقاتها، وتتحكم في مفاصلها ” (8).
الرحلة ها هنا جعلت إغلان يندفع بمسروده نحو اتجاهات متداخلة من التيه والعتمة والخواء والهذيان والحركة الدائرية الداخلية وغيرها ما يحيل على فوضى منظمة مثيرة وخلاقة، حولت لحظات الحاضر والماضي والمستقبل بؤرة تشد إليها ذاكرة السارد وتهيؤاته وتحركها أنى شاءت.
وذلك فعل متخيل ما فتئ يؤسس لتيمات أو موضوعات كالجسد في ارتباطه بالجنس باعتباره تفاعلا مع أوضاع اجتماعية خاصة وتحصيلا لمكبوتات أو نزوات تمليها الشروط الذاتية والموضوعية لمجتمع تستبد به وتفتك عديد مخلفات التفكير التقليداني المتوارث والمتحكم في إنتاج الكثير من التمثلات المتجاوزة، وهو يرزح تحت وطأة التخلف والجهل والأمية، وهو سلوك يتماهى مع المتعة والرغبة والتسلية، لينزل بالنفس لتتمرغ في مهاوي العفن والرذيلة طوعا مع سيدة الأحباب، ابن طامو، أبو الضيوف، أو كرها مع الراوي الفتاة كتو، ليظل الفن المرغوب الذي يتغيا تهذيب المشاعر وتقريب الأمل ودفع الاغتراب وتحقيق المنفعة، ليرتفع بالنفس نحو السمو والارتقاء.
تندفع الرواية مستحضرة هذه الخاصية أوالتيمة منذ الأسطر الأولى لإعلان نظامها الحكائي والتبشير بتجلياته عبر مغامرة يقدم عليها ويخوض غمارها راو يشتغل بالصحافة، وينشغل بإعداد تقرير صحفي غريب يخص حقائق متصلة بطبيعة بعض الشخصيات، فيحاول الكاتب ترتيب وقائعه وتنظيمها بفضل حكايات متداخلة متناسلة منفتحة، عساه يبلغ بعضا أو جزء من رهانه العام، ويستحضر صوره على نحو ما.
الجسد يعد من دون شك ولا مواربة، ” جسرا لكل شيء للرغبات أو الغرائز والنزوات والأحلام..” (9).
يكون الجسد طقسا أيروسيا، وتعبديا وماديا نفعيا، يتماهى بين الذكوري والأنتوي ويتشظى بين المحفلين من خلال التقابل بين صورته المادية المحصورة عند العَرَض الدنيوي بما يلحقه من تدنيس لدى سيدة الأحباب وكتو، وبين صورته الهلامية الممتدة عند الجوهر الروحي الميتافيزيقي وما يثيره من تقديس لدى عقا.
إن الذات التي تمارس غوايتها، في تحرر وانفلات نسبي من سلطة بلغت مبلغ الانقلاب والرفض والتمرد، وتوسلت ما يفيدها ويسندها لاستكمال بواعث الرغبة في الثورة على المتوارث والمتعارف عليه من التعبد والتشريع.
الجنس ملاذ الجسد ومثواه الأول والأخير،بهذا يذكرنا الأستاذ إغلان بنظرة الأسلاف لهذا الفعل، إذ كان عندهم ” طريقة تواصل إنسانية تسمو إلى القداسة بل وبها نلتمس الوجود الإلهي في عالمنا ولذة الخلق في الحياة.” (10).
بفضل تلك النظرة الفاحصة لِكًنْهِ الأشياء وطبيعة التبدلات في ثنايا الزمن المغربي ونظيره العربي، ما ينبئ بتواتر مزيد من خيبات الأمل، وتسارع زخم من الانكسارات المتتالية، فشخصية سيدة الأحباب بما تحمله من هواجس ورغبات، تجهد في أن تنقل ما يعيشه المجتمع من مفارقات، بين الماضي والحاضر، بين الواقع والخيال، الإنتهازية والمبدئية وووالطبائع والغرائز، وغيرها.( أنا السيدة المقدسة…أنا بآلاف التوقيعات، والذي يعرفني يعرف الجنة، …الآن أنا عاهرة..ص: 37)، امرأة ماجنة مهووسة بالجنس تنشغل بشهوات الجسد تحرره وتنطلق به بعيدا، فهي المومس المصرة على الإغراق في اللذة حتى الذوبان، نموذج للشخصية النسائية المتهتكة الحاضرة بقوة في الرواية العربية وغير العربية ” فهي بنية مهمة من بنيات الحكي الروائي وهي التي تدفع الراوي إلى مزيد من التخيل والأحداث..”(11).
تنصهر الجسدانية بكل ما تحيل عليه في الحقل الأيروسي من عوالم وفضاءات وما تفرزه من معايير، تنبني ها هنا على منطق العري وما يستدعيه من قيم ومواضعات ما فتئت تربط الذات بالمكبوت والمتوارث في إطار من الفضح، والتستر، والسخرية والطهرانية والرجس ( Libertinage ) عند مارك دو ساد (marquise du sade) ، دون جوان (dom juan) وآخرين، وعند هاني الراهب غالب هلسا وصنع الله إبراهيم ووو،
إنها صور تتبدى مستعصية عن التحديد، وذاك إنجاز وإبداع لا يتأتى لكثيرين، بلازمة من لوازم الإنفلات وخاصية من خصائص الإنزياح السردي، والذي يتجسد في صور شتى تداعت تتوسل هذه التيمة، تيمة العري: ( أزلت ملابسي، ص: 102)، ( العراء الرباني ص: 73)، (العري ص: 70)، ( وأنا عار أراها رؤية شيطانية…رأيتها طفلة تلهو بعضوها ، وتضحك…ص: 9)، ( تعريت وسط هذا الفضاء الوسخ ورأسي يغلي بسخونة . ص: 05).
على أن ما يميز هذا التعاطي يكمن في إدراج المكون الجسدي بحس إبداعي متميز استدعى عوالم الجنس والعري والفضح والحلول والقداسة والتصوف والخمر والعجائبي وو، فخلق من روايته فضاء توليديا تحويليا للجسد، يتحرر من قيوده لعله يحرر المجتمع.
يستفاد مما سبق أن تحولات الشخصية الرئيسة: عقا في هذه الرواية قد أحالت على ميسم يخص التحول عند كافكا، كما لامست واقتربت من التيه البورخيصي، إلى ذلك كله فإنها قد أفضت بنا إلى تصور المسار الذي تتبناه الدول وتتبعه في نشأتها وتطورها حسب النظرة الخلدونية، وبهذا يكون الكاتب قد جعل من مسار عقا مدعاة للتأمل : من الشيخ المتدين المتصوف المتعبد الغيور على تطبيق التعاليم الدينية، إلى شيخ القبيلة السياسي الحاكم الساهر على تطبيق القوانين، وصولا إلى المستهتر والمتمرد العربيد الحريص على اللذة والالتذاذ، وهو منحنى من نشأة الدولة العربية على أساس ديني، ثم مرورها بمرحلة من التطور وتثبيت الهياكل، وانتهاء بمرحلة التدهور والانحطاط.
* هوامش:
(1) محمد برادة: أسئلة الرواية – أسئلة النقد – مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة : الأولى ، ص: 19.
(2) محمد برادة (م س)، ص: 22.
(3) د علاء عبد المنعم إبراهيم- جماليات العنوان في الحكاية العربية القديمة.- مجلة الرافد- ع: 232 ديسمبر- ص: (63). 2016
(4) عثماني الميلودي، وبوشعيب شداق: نقط على الحروف- محمد برادة في رحاب الكلمات- حوار – شركة الرابطة – الطبعة الأولى: 1971 – ص (17).
(5) عثماني الميلودي وبوشعيب شداق- نقط على الحروف – محمد برادة في رحاب الكلمات – حوار – (م س) – ص:(30)
(6) : نقط على الحروف – محمد برادة في رحاب الكلمات – حوار – (م س) – ص: (32)
(7) سؤال الحكاية في الرواية المغربية – أعمال ندوة: رهانات الكتابة الروائية بالمغرب – سلسلة الندوات: (19) سنة 2008 – جامعة مولاي إسماعيل – كلية الآداب – مكناس – ص: (125).
(8) عبد العالي دمياني – دواء مستساغ – جريدة الأحداث المغربية- ع 6508- 02 ماي/ 2018 – ص: (8).
(9) حسن إغلان – مرايا المؤقت المغربي في رواية بعيدا من الضوضاء قريبا من السكات- لبرادة- مجلة كتابات معاصرة ع- 98- المجلد 25- آذار نيسان – 2016. ص: (94).
(10) نضال شوشان- معادلة سلب الحياة- مجلة الموجة الثقافية عدد: 2- غشت 2015- ص: (32).
(11) محمد عبد الرحمان يونس- الجنس – الإيديولوجيا – الفضاء الروائي- في الرواية اليمنية- مجلة : مقاربات – عدد: 17- المجلد: 09 – سنة: 2014 – ص: (20).