شعرية الحب في مجموعة « دعوا الحُب يمر» لنور الدين الوادي

«وقوفكم عند عتبة الصمت
لا يفيدكم في شيء
هكذا قال الحب «.
ضمن حدود هذه الشعرية المنذورة لخارطة الرومانسية المطرّزة بلغة كريستالية، سلسة وأليق بهشاشة الذات المنشغلة بهواجس إشاعة ثقافة الحب، نقف على جملة من أسرار الحب ، هذه الأسرار المختزلة والمضغوطة والتي لا تتأتى بغير محاولات تأويل واستكناه ما بعد عتبات البياض.
[ هو الحب..
أصابهم قبل أن يصيبنا
هم موتى
ونحن ننتظر ](1).
إننا بمعية الشاعر المغربي الجميل نور الدين الوادي ، في استسلام تام لنوبات وجدانية تضمّد الإفلاس الروحي، عموما، في زمن مصطبغ بالكراهية.
نعيش طقوس كتابة جاذبة، وهي أقرب ما تكون إلى الإدراك المتشبّع بخطاب اليوميات المرهقة والرازحة من خلالها وعبرها الذات تحت نير الجسْدنة الملطّخة بمفاهيم النزوة العابرة ، ومن تمّ كامل ذلك الجور على قيمة إنسانية ورمزية اسمها « الحب».
شعرية تضطرنا إلى الغياب في عوالم تفيض بمعاني الحب وألوانه ، حد الهلوسة ، بحيث إمكانية البحث عن الرسالة والأغراض المعرفية من هذا المنجز ، ليس تتاح بسوى الانصراف إلى ما ورائيات خطاب الانكتاب الواشي بحيثياته أفق تواريه عتبات البياض المتكتك على غائية هذه التيمة المناورة بزئبقية دوالها ، الموقّعة سحرها ، على ذات متراخية منهكة تتجدد ولاداتها تبعا لمنسوب إيقاظ الشعور بالحب، في كل نواة منها.
كم هي جميلة ومستفزّة وعامرة بالدلالة، الكتب التي لا تتجاوز مطالعتها ، الحيز الزمني الذي يعادل استهلاك سيجارتين ، بيد أن لذة ذلك لا تزول إلاّ بفعل قراءة ثانية ، ومن زاوية مغايرة.
إن هذه المجموعة الباذخة ، الصادرة عن دار الدراويش البلغارية ، في طبعتها الثانية ، 2018، والمتضمنة لعشرات القصائد القصيرة جدا ، تتوسل صور الحب ، وتستنطق مستويات ألغازه ، كي تحقق، أخيرا ، إشاعة ثقافة الحب، في عالم يهيمن عليه الظمأ العاطفي، حدّ الاختناق.
يقول شاعرنا :
[ دعي القبلة
تأخذ مجراها إلى القلب .
أحلى القبل..
تلك التي تأتي كالموت
دون موعد.
وأكثر الحروب دمارا..
تلك التي تعلنها النظرات
وتنهيها الشفاه ](2).
هي متوالية رسائل إلى العالم، يبصمها القلب المتقلّب في نوبات عشقه حدّ الجنون.
كما أنها تلك الخلطة السحرية التي تقترح على الكائن والأرض ،وصفة الخلاص، مزيج من جنون القصيدة وإدمان العشق.
كتابة تترع ثغرات المعطل في ذات ماطلها التغريب وممارسات التجسيد الجاني على المكسب الوجداني القادر على منح الذات والعالم توازنهما.
وإذا ما افترضنا أن الحب ينبثق من نوبة مباغتة، أو طقس غائر في جيوب غيبوبة وجودية ما ، نفاذ إلى قبل غافل، نائم على أبجديات الملائكية والطفولة والبراءة الزائدة ، نلفي بقية المراحل الأخرى، ثورات على الفلسفية الجسدية والشبقية المستعبدة للكائن والعالم.
يقول أيضا :
[ واعدتني عند الغروب
لكنها تعالت وأمطرتني
وقالت
ويحك أخلفت موعدي.
مررت بأرضها العطشى
مثل بدوي أتعبه الانتظار
خدها شاحب..
رموشها مستعارة
لا شيء فيها
يبشّر بنزول قصيدة ] (3).
إن عدو الحب الأول هو ذلكم الجبن المركب والذي تغذيه تشاكلات الإيديولوجي وغطرسة الفسيولوجي أو الشهواني المدمّر.
من هنا نجد المجموعة وقد التزمت بنغمة رومانسية تتبوأ منزلة المابين ، فلا هي أوغلت في أسلوبية الهبوط العاطفي الذي يشوه مشهدية ظاهرة الشوقيات هذه ، ويشوش على لغة رسم ملامحها ببرودة تقصي الحضور الروحي ، ولا هي أثقلت بمفردات المعجم الإيروتيكي الذي يسوّق لسلطة الجسد ويكرّس منظومة مفاهيمها المتسببة في نهاية المطاف بالإفلاس السيكولوجي والتغريب الروحي.
وهو ما أعطى لمثل هذه التجربة طابع المغايرة والفرادة والاستثناء.
مثلما يقول :
[ على عرش
القصيدة تربّعتْ
« وكشفت عن ساقيها «
شيدت لها قصرا في قلبي
لكنها سرقت بيتا من قصيدة
ولاذت بالفرار
وضعت سقاية القلب
في رحلها
وناديت مرارا
لكني ما منعتها من الرحيل
أخطأت حين تقمصت دور الماء
وأنا … نار](4).
هي ممارسة تعطي الحب معنى الصلاة ، أو الطقس التعبدي الذي لا تعادله غير لحظات ميلاد القصائد.
سيرة قلب تنفرد قواميسها ، بنظير هذا الهديل الإبداعي النابضة به متون البياض .
إذ نلمح كيف أن حتى مقامرات الانزلاق إلى مراتب نفسية تفيد نصانية المائيات ، أو تحمل على تياراتها ، إنما تتم عبر هذه المجموعة ، على نحو ينمّ عن حذر وخجل، وتبعا لتفاصيل برزخية وجّهت ودبّرت كتابة تفجير أسئلة الحب ، وعرّت مناحي إستطيقية تداول مفاهيمه.
يقول كذلك :
[ تركض
حافية
شفافة
فوق بساط الخد
من فرط الإحساس بالحب
عيني تدمع..
إذا قلبي مازال بخير] (5).
بذلك ، استطاع الشاعر نور الدين الوادي إتقان لعبة تقديس الحب بمفهومه الجامع ، مناورا بتقنية السهل الممتنع المشفرة بدوال التناص مع المقدّس ، والمغرقة في فصول استحضار الرموز والنهل من الموروث.وهذا مكمن الشعرية ، في بعض مفاتيحها التي عنتها الضمنية الانفعالية ، ذودا عن ثقافة إشاعة الحب وتلوين العالم بمعانيه العديدة والشاملة.
لقد تفنن في رسم ممرات نفسية خفيضة ترعى هذا العبور المخملي لأجمل إحساس قد ينقذ الكائن من عوالم سفلية يتقيّد في أدغالها ، ببهيميته ، ويقترح على العالم المنكوب بدائل التوازن والخلاص.
هي قيمة الحب تتناسل كي تصنع هذه الشعرية في ضوء دوائر المائيات الخجولة و المرمّزة ، وقد خصّبت نظير هذا التناغم ، ما بين حضور الأنثى والقصيدة.

هامش :

(1)مقتطف من نص « نوبة حب»، صفحة 8.
(2) مقتطف من نص « أحلى القبل»، صفحة 20/21.
(3)مقتطف من نص « خلف الباب « صفحة 65.
(4)مقتطف من نص « متمردة « صفحة71 /72.
(5)مقتطف من نص « قلبي بخير « صفحة85.

*شاعر وناقد مغربي


الكاتب : أحمد الشيخاوي

  

بتاريخ : 08/02/2020