شعرية القول الزجلي

1 – شعرية القول الزجلي

يعرف عادة الزجل، في المشرق العربي، بالشعر العامي، لكن الخطابات النقدية بالمغرب ترفض هذا التعريف، وقد انتصر له النقاد المهتمون بالشعر الفصيح لأنه جدد عوالمه وفرض نفسه كأشكال تعبيرية في غاية الرقة والجمالية القولية، حيث لا يعبر القول عن شاعريته إلا بلسان قائله. فهو يهب المعنى دلالات، مثبتا أن معانيها تحتاج لصوتية شعرية خاصة، وبذلك بدت لي قوته، تكمن في عدم حاجته لتفسير نفسه بترتيبات نقدية كتلك التي تحاول الاقتراب من الفصيح بنظريات أدبية من اللسانيات والعلوم الإنسانية، إضافة لبعض المقاربات الكاشفة عن التعالقات الحادثة بين الواقع والمتخيل الشعري الفصيح. فالزجل له عوالمه، لا يمكنك مقاربته بدون معايشة عوالمه الغنية بالإيحاءات المعتبرة جدبة الزجال التي يمارسها كطقوس لفن القول، يتفاعل معها قعودا ووقوفا حتى عندما لا يتحرك من مكانه، وهي تشبه تركيز المسرحي ليعيش شخصية معينة يرتدي قناعها ومتقمصا صورها وحياتها الخاصة، ومتعايشا مع عالمها، بذلك يمكنني القول أنه إذا كان الصوفي يلجأ للرقصات بإدراكه لقصور اللغة، فإن الزجال المغربي يعايش بأصواته وحباله ما يوحي بكونه مسكونا بروح غريبة تنبعث مع قوله العميق حول الذات الإنسانية وهي تغادر عالمها لتعيش عالما آخر.

2 – شعرية الإيقاعات

الزجل المغربي له إيقاعات خاصة، تختلف باختلاف المناطق، إذ من المعروف أن هناك تقاليد شعبية في الغناء تمتح حتى من اللغة الفصيحة وتكيفها مع عالمها الشبه الرعوي، وبذلك فالزجال يحدد وقع كلماته وترابطاتها الشاوية أو العبدية أو الدكالية أو الجبلية أو الحسانية، بما يمكن نعته بإيقاعات الجدبة أو الحال، وهي حالات لا تتحقق إلا باستحضار الثرات الشفاهي المغنى وفق إيقاعات محددة، رغم أن التجربة الكناوية هي ما لاقت انتشارا واسعا بحكم ارتباطاتها بالعبودية وتعبيرها عنها رفضا ودفاعا عن الحق المتطاول عليه بناء على تصنيفات اللون والجنس، مما ولد آليات لها تاريخها في الهروب من القهر و الرغبة في التحرر، بل إن هاته الآليات صارت لها رمزياتها في عالم الغناء، والليالي الكناوية التي تبعث الأجداد من رقادهم العميق ليشهدوا على احتفائية الأحفاد بهم، وعدم نسيانهم لتقاليدهم وطقوسهم التي هربت حتى لا تندثر وحافظت على وجودها وازدادت بهاء ضد الميز والتحاملات التي اعتبرتها بقايا الثقافة الوثنية أو الشيطانية، فقط لأنها تستحضر أرواح موحدي الجماعات القدامى وتحتفي بحضورهم الروحي .

3 – شعرية الجسد

للجسد في الزجل المغربي إيحاءاته العميقة، فهو مكمل للمعنى وليس بديلا له، كما أنه ليس مسرحة للقول. فالزجال في حالاته يقترب من المجدوب ويذوب فيه معبرا عن رغبة الجسد في البوح بما يختلج في الروح من معاني، هو وحده وبمعية الروح التي تحل فيه وتتحكم فيه بقدر تحكمه فيها ليذوب الجسد هياميا في عالم الإحتفاء بآثار الحرقة التي ارتسمت على الأجساد، وامتدت حتى للروح التي تستحضرها بتلك التموجات الجسدية المعبرة عن عوالم الزجل العميق في ذات الفعل تاريخا وروحا و حتى ذكرى لا يمكن نسيانها ، بل إن التجاوب معها دليل عمق ثقافي بقي محفوظا في الذاكرة الشعبية التي احتضنت كل الحركات المعبرة عن عمق اليومي و كثافة مدلولاته.الجسد ليس مجرد إيحاءات خالية من المعاني، بل دليل أن القيد الجسدي لا يحرره إلا الجسد، كما القيد الروحي لا تحرره إلا الروح، وبهذه الحرية يتوحد الوجود بكيفية مختلفة عن وحدة الوجود الصوفية التي تتعالى عن الجسد أو يكون مجرد وسيلة لها، بل إن جسدية الزجل الروحي تقدس الجسد كما الروح، فهو مظهرها وجوديا وليس ضلالها وتيهها.


الكاتب : حميد المصباحي

  

بتاريخ : 08/12/2021