في ليلة حالمة حيث تتعانق الكلمات مع الألحان، وحيث تتراقص المعاني على وقع النغم الأصيل، نظمت جمعية الشعلة للتربية والثقافة -فرع الرباط التقدم، أمسية شعرية موسيقية، احتفاء باليوم العالمي للشعر، هذا العرس الإبداعي الذي تفتحت فيه أزاهير الكلمة، وعانق فيه الشعر نبض القلوب، وارتدى فيه الحرف معطف الموسيقى ليحلق عاليا في سماء الجمال.
كانت القاعة الكبرى في دار الشباب التقدم مسرحا لهذه التظاهرة الفنية الراقية، حيث اجتمع عشاق الشعر والزجل والموسيقى، قادمين من مختلف الأحياء والفضاءات، محملين بشوق للكلمة، وعشق النغم، ولهفة لرؤية الحروف وهي تتراقص فوق شفاه الشعراء، كما تتراقص السنابل تحت أنامل الريح.
افتتحت الأمسية بكلمة عثمان العزوزي، مندوب فرع الرباط التقدم لجمعية الشعلة، الذي وقف أمام الحضور، وبين يديه باقة من العبارات المنسوجة بخيوط الحب والوفاء للكلمة. قال بصوت يملأه الشغف:
«الشعر هو ذاكرة الشعوب، هو الضوء الذي لا ينطفئ، هو الموسيقى التي تسري في عروق الكلمات. اليوم نجتمع في حضرة الحرف لنحتفي بالقصيدة في يومها العالمي، ونمنحها حقها في أن تكون نجمة تضيء سماء الروح ، مرحبا بالحضور في فضاء الشعر، حيث تنصهر الكلمات في بوتقة الجمال، وحيث تغدو اللغة نغمة، والقصيدة غيمة تروي عطش الأرواح».
انطلقت القراءات الشعرية وسط أنفاس مشدوهة، وعيون معلقة بشفاه الشعراء، وآذان تترقب الولادة الجديدة للحروف. كان الحاضرون على موعد مع الشاعرة المتألقة مليكة المعطاوي، التي سافرت بهم عبر كلماتها إلى عوالم من الشجن والحنين، حيث الحروف قناديل تضيء العتمات، وحيث القصيدة ترسم للمستمعين خارطة من الأحاسيس المتدفقة كجدول رقراق.
أما الزجال المبدع مصطفى العبريدي، فقد اعتلى المنصة بروح شعبية، ألقى قصائده كما يلقي الفلاح بذوره في الأرض، ليثمر شعره معاني تلامس القلوب، وتحمل في طياتها وجع البسطاء، وابتسامة المتعبين الذين يجدون في الزجل نافذة تطل على بساتين الفرح.
وجاءت الشاعرة البهية ريحانة بشير كنسمة ربيعية، بوجه يشع نورا، وبصوت ينساب كوتر مشدود إلى ناي قديم. ألقت قصائدها التي لامست قضايا الوجود، تغنت بنسائم الحب الذي ينمو في القلب كزهرة الياسمين، عن الوطن الذي يسكن في الروح كنشيد أبدي، وعن الأمل الذي يشبه طائرا يحلق رغم كل العواصف.
ثم جاء الشاعر الزجال الجميل التيجاني الدبدوبي، فأطلق كلماته كنسائم الصباح، وألهب القاعة بقصائده التي مزجت بين البوح العفوي والحكمة، بين الطرافة والتأمل، بين الغضب والرجاء، وصفق له الحضور بحرارة لروحه العفوية التي حولت الزجل إلى مرآة للحياة، وصرخة في وجه العتمة.
أما الزجالة فاطمة كيناني، فقد حملت بين كفيها باقة ورد مرصعة بعذب الكلمات، ووزعتها على مسامع الحاضرين كأنها تهمس لهم بأسرار الحب والحياة، كتبت بكلماتها حكايات النساء في شهر الصفاء، أحلام الأمهات، وصمود النساء اللواتي يخططن بأقدامهن دروبا من النور في عتمة الأيام.
في تلك الليلة، لم يكن الشعر وحيدا، فقد كانت للموسيقى بصمتها كنسيم المساء، تمسح بنغمها الشجي على الأرواح المتعطشة للطرب الأصيل، حيث عزفت مجموعة نادي الإبداع الموسيقي بقيادة الفنان حميد العنتير مقطوعات من الطرب المغربي الأصيل، تلك الألحان التي تأخذك إلى أزمنة مضت، حيث كانت القلوب أكثر صفاء، والموسيقى أكثر صدقا.
وجاء دور الفنان الشاب حميد أشنيط، الذي اعتلى المنصة برقة ، وأدى مقاطع غنائية بصوت يشبه العطر في مساءات الربيع، يمتد في الفضاء ليحمل معه ذكرى الأيام الجميلة فغنى للراحل فويتح وعبد الهادي بالخياط والمرحومة نعيمة سميح والمعطي بنقاسم أغاني من الزمن الجميل للأغنية المغربية تفاعل مها الحضور بالغناء النابع من الروح .
وأطلت الفنانة زهيرة مومني كقمر في ليلة حالكة، وأدت كشكولا غيوانيا متميزا، أشعل القاعة وألهب القلوب، وجعل الحاضرين يتمايلون طربا، وكأن النغم قد صار جناحين يحملانهم نحو عالم آخر، عالم لا يعرف إلا الجمال والإحساس المفعم بأحلام البسطاء.
ولم يكن يمكن لهذه الليلة أن تنتهي دون أن يكون للحب والاعتراف بالمبدعين نصيب. حيث قدم رئيس جمعية الشعلة سعيد العزوزي شهادات تقدير وتكريم للشعراء والفنانين، في لحظة سادها الفرح والامتنان، لحظة عانقت فيها الأيادي، وعانقت فيها العيون بعضها البعض في صمت أبلغ من الكلام، صمت يحكي عن أهمية الإبداع في حياة الإنسان وعن دور الكلمة في إشعال شموع الأمل، وعن قوة الموسيقى في غسل الروح من غبار الأيام.
وهكذا ودعت الرباط واحدة من أجمل لياليها، ليلة حملت الشعر في راحتيها كطفل صغير، وغنت للأحلام كما تغني الأمهات لأطفالهن قبل النوم، ليلة أضاءت فيها جمعية الشعلة قنديلا جديدا في مسيرتها الطويلة، وأعلنت للعالم أن الشعر لن يموت، ما دامت هناك قلوب تنبض، وما دامت هناك أرواح تؤمن بالكلمة، وما دام هناك من يحب، ويكتب، ويغني. هناك حيث ينبت الشعر كما ينبت الورد، وحيث تضيء الموسيقى عتمة الليل، وحيث يظل الحلم ممكنا، ما دمنا نؤمن بالكلمة.. و نعشقها….
شعلة الرباط تحتفي باليوم العالمي للشعر

بتاريخ : 26/03/2025