شغف جنائزي

كانت له عشيقة لا يذهب لرؤيتها إلا بعد عودته من الجنائز، كانت لهذا السبب تحبه، تقول له بأنه يكون مختلفا بعد حضورها، مختلفا جدا، لأنه يمارس معها بشغف، أما باقي الأوقات فهو لا يثيرها، من أجله كانت تقرأ كل أخبار صفحات الوفيات، وتخبره عبر الهاتف بمستجداتها، كتاريخ الدفن، تخبره حين ترغب في أن يأتي عندها، تتركه أسابيع بلا أخبار عنها وتكلمه فجأة في الهاتف:[هل تعرف من مات؟]،يقول:[من؟]،ترد: [فلان الفلاني، أنت تعرفه ويجب أن تحضر مراسيم دفنه، اذهب لحضورها وسأنتظرك بعدها]،،بمجرد ما تعثر على خبر دفن تستعيد رغبتها في الحياة وحيويتها، وتنهمك في الإستعداد لزيارته بعد الجنازة…الجرائد التي اصفرت أوراقها تملأ غرف بيتها مفتوحة كلها في الصفحة النيكروفيلية، كان يذهب ويحضر الجنازة بالرغم من أنه لا يعرف الميت، مفكرا في متعة اللقاء معها، بعد ذلك، كان يتأثر بطقوس الدفن مع ذلك، يفكر في الميت ويتبادل معه بعض الكلمات، يحس بالإنسحاق، ينحني، يشيخ، لولا أنه يفكر فيها وفي ما سيعيشه معها لاحقا، تظل هي رابضة خلف ستارة النافذة تترصد حضوره، وحين تراه في الشارع قادما نحوها، تفتح بابها على مصراعيه، وتقول:[أهلا وسهلا]،،ترتدي فقط لباس نوم قصير وشفاف يبرز منحنيات جسدها، لباس عادي جدا، لكنه يلاحظه بسرعة ويشكرها في قرارة نفسه لارتدائه قالت: [ادخل، تبدو متعبا، الطقوس الجنائزية أرهقتك مجددا]، كان يحرك رأسه، دخل، وجلس بهدوء على أحسن مكان في الكنبة جلست قربه، محافظة على مسافة معه: [آحك، قالت، هل كانت الطقوس قاسية جدا؟ أم تفضل أن تظل صامتا ربما]،قال:[نعم للحظة معينة]،واعتبر أن الصمت موقف لائق، لم يكن وحشا رغم كل شيء، لكن روحا ذات حساسية، ترغب في التقاط أنفاسها قبل أن تقبل بأن الحياة تستمر، قالت:[لا تتأثر بما حدث كثيرا]،نبرة صوتها مسكونة بالرجاء، عيناها مليئتان بالدمع، كم كانت رأفتها عارمة، كان ممتنا كثيرا لتفهمها وحنوها، سألت:[هل كانت طقوس الدفن طويلة؟]،قال:[لا، لا أحب الطقوس الجنائزية الطويلة، يتعذر علي احتمالها، أحس كما لو أنني سأنهار]، قالت:[كيف كانت عائلة الميت]،قال:[عادية، طقوس حزن مسرحية، كما لو أنها تتسول كلمات العزاء من الحاضرين]،،قالت:[المرة الأخيرة التي حضرت فيها هنا أحضرت معك ورودا، اليوم لا ورود]،قال:[تتذكرين كل التفاصيل]،قالت:[أعيش من أجلك فقط، أقتسم معك كل أحزانك]،،قال:[صحيح، بدونك لست أرى كيف سيكون بإمكاني الاستمرار في الذهاب إلى الجنازات وحضور طقوس الدفن]،،قالت:[أرجو ألا تفعل شيئا يغضبني]،،قال[أنا لن أخونك ابدا]قالت:[أحس أحيانا كما لو أنك تذهب لمكان آخر دون أن تخبرني بأي شيء]،،قال:[أنت تقرئين الصفحات الخاصة بالوفيات في كل الجرائد الوطنية، تقرئينها كلها. لا شيء يفلت منك]،،قالت:[لدي سلبياتي ونواقصي حينما لم أرك ستة أسابيع، قلت مع نفسي بأنني لم أنتبه لشيء ما فلت مني]، قال:[تقرئين مع ذلك الجرائد كلها]،،قالت:[bien sûr، لكن هناك عائلات لا تنشر أخبار موتاها في أي جريدة]، قال:[في هذه الحالة فلن أعرف بدوري أي شيء]،قالت:[ألا تصلك أخبار عبر قنواتك الخاصة؟]،قال: أرفض مسبقا قراءة أي خبر وسط إطار أسود، أترك كل شيء لك، لعنايتك، بدونك سأضيع]،بعد هذا المشهد المسكون بالغيرة، الذي صار متعودا عليه، والذي لا يخص تحديدا سوى طقوس ما بعد دفن الموتى، مد يده اليمنى وأمسك بفخدها الممتلئ الناصع البياض


الكاتب : مصطفى الحسناوي

  

بتاريخ : 01/11/2024