شغَبُ طفلٍ فوق رَمْلِ الساعاتِ المتحركِ

كأنما يَخْطُرُ ويَتَثَنَّى الآنَ، مُتَهادياً هفْهافاً مُلوناً في أكْوارْيومْ الطفولة. كأنما يَشْمَسُ كالحصان الحَرونِ، هنيهةً، في كَثيبِ رملٍ، ثم يخترق غُلالاتِ الزجاجِ المُعَشَّقِ الرفيع، مدفوعا بإرادة أقوى من قبْضات الأطفال التي تَعْيا قُدّامَ أكوامِ الرمل، وتلالِ الماء. وها هي ذي الريحُ، فجأةً، تهبُّ من حيثُ رانَ اليأسُ، وخيَّمَ الضَّجرُ، وانطفأَ الرّجاءُ. ريحٌ تُلْهِبُ ظهرَ ريحٍ فينفرِجُ الشراعُ بعد انكماشٍ، ويتمدد البحرُ سخيّا وفيّاً فاتِحاً لِأَدَرْيانَ الملكِ، الأحضانَ، وللصغارِ: أجنحة الحلمِ والسفر، والتيهِ.
المشهدُ وَرَقيٌّ يُخَشْخِشُ كأوراق الخريف تحت أرجلنا الصغيرةِ، الخيالُ جامحٌ كمُهْرِ البراري، وأنا على قلقٍ، والمكانُ قميصٌ فحميٌّ أسْحَمُ، وجرادةُ زاحفةٌ مظفرة، أما الزمان فذاكرة موشومةٌ، وطفولة مجروحةٌ يا كَمْ تلعثمتْ، وتأْتَأَتْ وهي تتهجى لغة: «الأقدام السّود»، كما سمَّاهم فْرانزْ فانونْ. مجروحةٌ لكنها مرِحَة ترْفُلُ في اخضرار جرحها، وبَلَلِ شقاوتها، ومِلْح بلاَهتها أمام الكتاب الصقيل الرهيب، وقَوَامِ الفرنسيات الغَضّ، وسطوع بياضهن اللذيذ الشهيِّ. فهل بمُكْنتِك، أيها الطفلُ، أن تقودَ الأعمى، هذا الشيخَ في ديجور الأدغالِ، وتشابكِ المسالك، فتَدُلَّهُ على أحراش فاتنة، وفِجاجٍ ساحرةٍ سِلْنا علينا كما سالت بأعناق المطيِّ الأباطحُ؟. وهل بمقدورك أن تُعيد مدرسة «ابن سينا للبنين والبنات». إلى الواجهة لتطفوَ على ماء شغبنا كزهرة اللّوتس لمَّاعةً غمَّازةً كدموع العاشقين، أو كمثل قنديلِ راهب امريء القيس المتوحد المُتَبَتّلِ، أو كمنارة المرفإ الساهرة بالأهداب كلها، وهدير الموج جميعِهِ، على مصائر البحارة، والمغامرين في الحقيقة والخيال، وفي الواقع والمجاز: من جدنا ابن ماجد إلى سرفانتيسْ، إلى جوزيفْ كونرادْ، إلى هِرمانْ مِلْفيلْ، وهيمنغواي، ومواتيسية، وباريزيسْ، وكوسْطو، وكل الممسوسين برائحة الملح والماء؟.
أسأل أيضا، ولا أَمَلُّ من السؤال: هل مازال كتاب مارسيلْ بيدوجا: «باخرة أدريان»le bateau d’ Adrien، موشوماً في ذاكرتك، منقوشا في الفَصّ اليسار واليمين، ومنشوراً في ذرّات دمك كمثيله اللاَّيُنْسَى: «زوكولوكوبُمْبا» zougoulougoubamba الذي كنا نُصِرُّ على تحريف نطقنا به ونحن نتلفظه متلذذين بحنق، وغضب، وزَبدِ «مَدامْ دانْيِيلْ». ذلك الكُتَيِّبُ البُنيُّ الغامقُ كَفَرْوِ دُبٍّ فادح النعومة، الحامل لحكايات إفريقية أسطورية التي جمعتها، ورتبتها، ووضَّبتْها، السيدة «جِزيلْ».
لكأنما منتصف ستينات القرن الفائت تلتمعُ أمامي كشآبيب الندى، معلقةً كالأقراط النفيسة الورديَّةِ على زهر لوز طفولتنا؛ أو تركض، في المدى المتاح، مهزولةً مُغْبَرَّةً، حافيةً شيطانية وماردةً، تُوَقِّعُ فرحتها العاتية بين الحواري والدّور الضيقة، وبين المدرسة ومقبرة «النصارى»، وبلّوط «بني يَعْلَى»، ونداءات الثلوج المُدَوِّمَة. نشوانُ كأن الشاعرَ»أرثورْ رامبو» استضافني إلى مركبه، و البطلَ «أدريان» إلى أرْكدْياهُ، والقدّيسَ» أوغسطين» إلى مدينته.. إلى عدَنِهِ.
سكرانٌ بالذكرى، في أوْج نشوتي، وذروة انخطافي بها، وببلاهتي أيضا، ولِمْ لا؟، عبثا أحاول اعتصارَها متلفعا بمَشِيمَة الظلالِ الشاحبةِ، والطيوفِ المعتمة، والأعشاشِ المتثائبة، والأعماق المُتَراحِبة المُتواثِبة.
وليتكَ تَرُدُّ لي، لكَ، لنا معا، كتابَ المطالعة المسترسلة: «باخرة أدَرْيانْ « الذي قرأناه في الصف الخامس ابتدائي – المتوسط الثاني بلغة الراهن والمرحلة؟، وعبْرَهُ لحظات ماتعة ودامعة كم نفتقدها الآنَ، أم أنه استسلامٌ إلى الكفاف، والعفاف، والرضا بالقليل والغنى عن الناس؟ !.
لكنّني، أقولْ:
أَمَا آنَ للذهولْ
أنْ يشربَ دهشةَ
طفلٍ سؤولْ؟.
آهٍ ! كم أنتِ طاعنةٌ
في الهواءِ الصغيرِ
يا وردةَ القبورِ الكالحةَ.
من أجلك أغني
لأرَمِّمَ
عَطبَ البندولْ… !


الكاتب : محمد بودويك

  

بتاريخ : 15/01/2021