عندما نتأمل تجربة الفنان عبد العزيز الغراز، نجد نظرنا يبحث ما وراء الصورة، لأن عمله حجاب يخفي تساؤلات فلسفية حول مظاهر الطبيعة العجائبية بمفهوم أفلاطوني وما تبعها، وصولا إلى فلسفة سبينوزا في ما يخص وحدة الوجود والربط بين الوعي والخيال ودورهما في عملية المعرفة، وتأثيرهما على الاتجاه الرومانسي والسريالي تحديدا، وانعكاس ذلك على الفهم العجائبي، وبما بربط بين العجائبي والواقعي بأثر الفكر المحرك للاثنين معا.
لكن في تجربة الفنان عبد العزيز الغراز، تنضاف العجائبية لجنس تجريدي يصعب فيه تحديد مقومات وعناصر هذه العجائبية المرتبطة غالبا بما هو تشخيصي، سواء على مستوى الشكل أو الموضوع، بالإضافة إلى اللون الذي يعتبر المحرك الأساسي لتجربته برمتها.
وقد يصعب الحديث بتفصيل عن مغامرته التي تعد من بين التجارب الهلامية بطريقة سردية وتوضيحية لمعالمها، لما تتطلبه من فراسة ومن عمق في الرؤية للكشف عن المستور فيها، وتحديدا في تكويناته الأفقية والعمودية التي لا تترك مجالا للتنبؤ بما سيحصل بعدها في إطار البحث والتنقيب.
ما يميز هذه التجربة هو عفويتها ضمن مشتل من التجارب المستمرة في الزمان والمكان بشاعرية إحساسية تمليهتا حالة الفنان أثناء الاشتغال وظروف اشتغاله بالمحيط الذي يزاول فيه طقوسه الإبداعية.
جاء في موقع «La vie dans le monde» بتاريخ 21 يناير 2019، ما يلي :
«أعمال نيكولا دي سطايل متمايزة بإيقاعات تشكيلية وبهواجس تعبيرية مهمة في تجربة تجريدية فيها عمق العناصر والأشكال والتلقائية والانفعالية والبساطة الشاعرية في التكيف التعبيري والتجريدي، إلى عمق العلاقات اللونية التي تخفي في جوهرها العمق الحقيقي للإشارات ودلالات الأشياء والرموز اللونية..».
لذلك كان استحضار هذا الفنان من خلال تجربة الفنان عبد العزيز الغراز ضرورة مؤكدة، لأنها تلامس بعضا من القضايا المشتركة بين الفنانين، إلا في ما اختلف من حيث الزمان والمكان والانتماء، باعتبار أن تجربة الغراز نابعة من عمق التربة الأصلية، التي تحيلنا على الموروث الثقافي المغربي بجل مظاهره الحضارية التي توجد في السجاد والزرابي والأوشام والأواني… بشكل كرافيكي تم تبسيطه وتطويره في اتجاه ما هو متعارف عليه كتشكيل.
إن اهتمام الفنان الغراز مرتبط ومتصل بالمشاعر والإحساسات الدفينة التي يصعب الغور في أعماقها وإدراك مقاصدها، فهي بمثابة قصائد شعرية لا يملك أدواتها التعبيرية والمخيالية إلا الشاعر في حد ذاته، لأنها تخلق حجابا شفافا بينه وبين المتلقي، وما على الناقد في كلا التعبيرين (تشكيل/شعر) إلا ارتداء عباءة المبدع لاختراقها وتفكيك ألغازها كمقاربة تحتكم للنظرة الذاتية والمرجعية للناقد.
ما يضفي على قراءة أعمال الفنان الغراز حرية في تأويلها، هو تلك المساحات الفارغة، كحوار جدلي بين المملوء والفارغ (Le Plein et le vide)، سواء على مستوى اللون أو البياض الذي يكتسح جل أعماله بتسلسلها، لتصبح صفحات هي الأخرى التي تولد الدهشة والرهبة في مباشرتها سواء عند الفنان التشكيلي أو الكاتب بصفة عامة.
لا يمكن استسهال تجربة الفنان عبد العزيز الغراز، لأنها تختزن قوة إحساسية من خلال تداخل الألوان وتدرجاتها وانسيابها ضمن نسق حسابي تم بناؤه على أنقاض رؤية معمارية بنظرة أو زاوية فوقية، جعلت من التكوين الإجمالي لعمله رقعة للتفكير وكأنها لعبة الشطرنج (jeu d›échec)، بمعنى أن هذا العمل يتطلب معرفة بخبايا التقنية التشكيلية المستعملة للوقوف على أسرار حبكة الإنجاز في بعدها المفاهيمي والفكري، لأنها تخاطب الخاصة أكثر مما تخاطب العامة.
أما في ما يخص البنية اللونية في تجربة الفنان عبد العزيز الغراز، فقد اعتمدت على عملية مباشرة لا تحتاج لمزج خضاب الألوان فوق سند غير السند الأصلي أي القماش، بل إنه بقي محافظا على أصل الألوان واستعمالها انطلاقا من بؤرتها الجنينية، مع الحفاظ على عذريتها الطبيعية، مع احتضان نمط لوني ترابي بني ينتمي إلى محيط العمارة التي ينتمي إليها.
وبهذا يكون الفنان عبد العزيز الغراز قد ارتقى بتجربته من المادة إلى الحس بمرجعية المبدع العارف بقوانين التشكيل في بعده الإنساني والحضاري في علاقتيهما بالموروث الثقافي والجمالي المغربي الأصيل.
على هامش معرض الفنان عبد العزيز الغراز بمؤسسة محمد السادس بالرباط، تحت عنوان «استذكار» والذي افتتح يوم 04 أكتوبر إلى غاية 25 منه 2024.
* تشكيلي/ناقد