يشكل تناول موضوع «المواطنة ونظام العرائض، مداخل أساسية لتأهيل الفضاء العمومي» محاولة لفهم الإشكاليات النظرية والتاريخية والقانونية المعطلة لتطور مشهدنا العام، عبر الوقوف على أهم المعيقات الفكرية، الدستورية، القانونية والتدبيرية الكابحة لكل بناء دمقراطي منتج ومواطن، حيث حاولت استقراء كل المحطات والتجارب الوطنية عبر استنطاق الأرقام والوقائع والأحداث، فخلصت إلى استنتاج أو تقييم لمخرجات فعلنا العمومي بكل مستوياته، الذي اتسم بالمحدودية والقصور وعدم القدرة على الإجابة على الإنتظارات الجماعية للمواطن، هذا النوع من القراءة أو «المحاكمة» للوقائع والنتائج وللفاعلين كذلك، اقتضت مني كباحث التحلي بالحيادية وعدم الإنسياق وراء الأحكام الجاهزة أو القناعات الشخصية أو «الكليشيهات» المستحكمة في الوعي الفردي والجماعي.
في القسم الأول، حاولت تسييج مفهوم المواطنة، كمفهوم مركزي مسترشدا بالتجارب المرجعية وبالنظريات المؤسسة والتراكمات التاريخية المؤطرة للمفهوم ولأهم ركائزه من حرية مساواة، ومدنية….محاولا الوقوف على بعض المعيقات الثقافية الفكرية والفقهية المقيدة للبناء المواطناتي من قبيل الانتصار للقراءة اليقينية و»الرومانسية» المعتمدة على التماثل والمطابقة، في الوقت الذي يقتضي فيه البناء المواطناتي إعمال القطائع الضرورية واستعاب حركية التاريخ ودينامية المجتمع والتسلح بالنظرة الشمولية ونبد النزوعات التجزيئة والرؤى الانتقائية، التي طبعت مشهدنا بازدواجية مخادعة وصارخة (تقليداوية/حداثوية) وبواقع جديد ينتصر للتقنية بعقلية تراثية بائدة، وتكنولوجية ذكية منتجة لقرارات متخلفة وغبية، هذه السطحية والمحاكاة والنمطية، ساهمت في إعادة تدوير التخلف واستدامته. إن المواطنة كقيمة وثقافة وفكرة، لايمكن أن تتحقق إلا في إطار دولة حديثة (الدولة كمفهوم) ومسار تطورها من التأسيس إلى إكتمال الشرعية، عبر إسنادها بدستور مؤطر لكل بنياتها ومفاصلها منذ سنة 1962 إلى 2011، قراءة كرونولوجية هدفها رسملة وترصيد مفهوم المواطنة وكذلك رصد التحول المؤدي إلى الخروج من منطق التردد و»الرمادية» ومن غموض المرجعية الذي انتج فوضى في التأسيس، إلى واقع التأصيل المفاهيمي والدستوري للمواطنة كقيمة مرجعية مؤسسة للأفق الوطني دستوريا دمقراطيا،حقوقيا وتنمويا، وذلك من منطق الحاجة إلى نَفَس جديد لإعادة صياغة نموذج عمومي بما يتطلبه الشرط الوطني من إشراك وإدماج وتشاور لتجاوز قصور تمثيلي واضح وجلي.
القسم الثاني، المتعلق بالدمقراطية التشاركية ومبادئ تأطيرها وآليات تأهيل الفضاء العمومي الرقمي، وراهنية المجال العمومي الإفتراضي نشأة وتطورا، وعلاقة ذلك ببناء مجتمع افتراضي سليم من خلال تأمين الإنتقال من فرد سيبيري إلى مواطن رقمي، في إطار مجتمع إفتراضي مشارك،من خلال استرجاع حرية التعبير والترافع والاحتجاج وتجديد الفعل السياسي عبر تجاوز مجموعة من الحدود التقليدية( البعد الجغرافي، البعد الزمني..) ألا ان فرص ومكاسب الرقمنة لا يجب ان ينسيتا مخاطرها، فالمواطنة الرقمية كأفق، تقتضي التصدي لمخاطر الرقمنة وأدلجة التقنية وتوظيفها كمنصة إلكترونية بخلفيات تجارية أمنية وسياسية خفية ومعلومة. إن الدمقراطية الرقمية عبر اللجوء والحوار الإلكتروني، رغم ما ساهمت به من فرص و مكاسب بيداغوجية في تصريف الأفكار والبرامج والمشاريع،ونهاية الهيمنة، إلا أن مخاطر السرعة (الدرموقراطية Dermologie ) والسرعة جوهر الحرب كما يقال، فكلما زادت تراجع منسوب الحرية، وهو ما يهدد بإبادة الفضاء العمومي كمجال للترافع الافتراضي والتخلي عن مرجعية الفكرة والإنتصار لإديولوجية التقنية، فالارتهان لنمطية الثقافة، المعادلة لثقافة الفراغ و»طاعة» التقنية نوع من «الإدمان» السالب للذات الواعية المفكرة، المغذي للفردانية المناقضة لجوهر المشاركة، كما أن تسييد ثقافة الصورة (الإيماجولوجيا) باعتبارها آداة للقهر وصنع حقائق مضادة وترجيح ثقافة الاستهلاك عبر إلغاء العقل وتعطيل الحس النقدي من خلال ثقافة النقل والنقر، مع ما نتج عن ذلك من تعليب للوعي وتسطيح للمعرفة، لأخلص لأهمية الإنتصار لسلطة المثقف والمعرفة عبر تعاقد اجتماعي جديد مؤطر بدعامات تربوية تروم التحكم في مسارات التفكير الشبكي الممتد، ومحاصرة أصولية إلكترونية صاعدة، عبر التمكين المعرفي الرقمي للمواطن، المحكوم بعدم التعالي على الشرط المعرفي والثقافي كدعامات لكل بناء دمقراطي مواطناتي جديد، فالتفكير في المواطنة، هو تفكير في السلم وتفكير في الإنسان كقيمة مرجعية أولى في كل بناء مدني ضامن للعيش المشترك، المؤطر بقيم الحرية والمساواة والمسؤولية.
شكّلت موضوع رسالة دكتوراة : المواطنة ونظام العرائض، مداخل أساسية لتأهيل الفضاء العمومي
الكاتب : د.سعيد المسكيني
بتاريخ : 16/05/2023